في قلب الصحراء المترامية، وحيث تروي الأنهار حكايات الأمم، يتردد سؤالٌ يمسُّ شغاف الهوية والانتماء: العبيدي وش يرجع؟ ليس مجرد استفسار عن نسب، بل هو استدعاء لتاريخ حافل بالبطولة والنضال والتحولات الجذرية. قبيلة العبيدي (أو العبيد) ليست مجرد اسم في سجلات الأنساب، بل هي ركنٌ أصيل من أركان النسيج الاجتماعي والتاريخي في العراق والجزيرة العربية. إنها حكاية امتدت جذورها من اليمن السعيد، وسطرت فصولاً ملحمية في دلتا الرافدين، ووصل صداها إلى تخوم الشام والخليج العربي. هذا التقرير الشامل لا يكتفي بسرد الوقائع، بل يغوص في أعماق هذه القبيلة العريقة؛ يستكشف أصولها الضاربة في التاريخ، يتتبع رحلة هجرتها الأسطورية، يحلل بنيتها المعقدة وفروعها المتشعبة، يرصد صعود وهبوط نفوذها السياسي والعسكري، ويتأمل إسهاماتها الثقافية الفريدة، ويرسم خريطة انتشارها الواسع، معتمدًا على أمهات كتب الأنساب والمصادر التاريخية الموثوقة، ليروي قصة قبيلة صنعت تاريخًا.
الأصول الزبيدية والهجرة الملحمية: النقطة الأولى في جواب “العبيدي وش يرجع”
لطالما شكلت مسألة النسب حجر الزاوية في فهم أي قبيلة عربية، والعبيدي ليست استثناء. تجمع المصادر التاريخية الرصينة، وعلى رأسها كتب أنساب معتمدة مثل “عنوان المجد في بيان أحوال بغداد والبصرة ونجد” لإبراهيم فصيح الحيدري، و”الدرر المفاخر في أخبار العرب الأواخر” لمحمد غريب بن بطاح، و”قويم الفرج بعد الشدة” لمؤلف مجهول، على إجابة واضحة لسؤال العبيدي وش يرجع. فالقبيلة تنحدر من عبيد بن عمرو بن معدي كرب الزبيدي، المنحدر بدوره من قبيلة زبيد اليمنية العظيمة. هذا النسب الرفيع يجعل العبيدي شقيقة لقبيلتين عريقتين أخريين هما: الجبور (من أخيهم جبر بن عمرو)، والدليم (من أخيهم ثامر بن عمرو)، مشكلين معًا ما يعرف بالثلاثية الزبيدية التي هيمنت تاريخيًا على مساحات شاسعة من العراق وبلاد الشام.
تروي السير الشعبية والتواريخ المحلية رحلة هجرة مضنية قام بها الأخوة الثلاثة المؤسسون (عبيد، جبر، ثامر) من موطنهم الأصلي في اليمن. عبروا صحراء نجد القاسية، وصولاً إلى بادية الشام، قبل أن تتفرق سبل أحفادهم بفعل الزمن والظروف. اتجه أحفاد عبيد، وهم نواة قبيلة العبيد، مع تيار الأحداث التاريخية نحو عمق منطقة الجزيرة الفراتية الخصبة (المنطقة الواقعة بين نهري دجلة والفرات). تشير الروايات إلى استقرارهم الأولي على الضفة الشرقية لنهر دجلة في مطلع القرن الثامن عشر الميلادي تقريبًا (حوالي عام 1707م)، ليفتتحوا فصلًا جديدًا من فصول وجودهم، حاملين معهم تقاليد البادية وقيمها، ومستعدين لمواجهة تحديات البيئة الجديدة وعلاقات القوى المحيطة.
من المهم هنا تفنيد الالتباس التاريخي الذي قد يحدث مع قبيلة أخرى تحمل اسمًا مشابهًا. يحرص مؤرخو الأنساب، وعلى رأسهم الحيدري، على التوضيح أن قبيلة “بني العبيد” القديمة التي ذكرها الشاعر الجاهلي المشهور الأعشى، تعود في أصولها إلى قبيلة قضاعة، وهي قبيلة مختلفة تمامًا عن العبيد الزبيدية. ويؤكد هؤلاء المؤرخون أن قبيلة العبيد الحالية هي زبيدية صميمة، لا شائبة في نسبها. كما يشيرون إلى أن التسمية “العبيد” وتشكل فروعها بالصورة المعروفة والمستقرة اليوم، هو تطور تاريخي حديث نسبيًا، بدأ يتبلور بشكل أكثر وضوحًا منذ حوالي القرن الحادي عشر الهجري (القرن السابع عشر الميلادي)، تزامنًا مع بروز شخصيات قيادية قوية مثل الشيخ شاوي بن نصيف من عشيرة البو شاهر، الذي يعتبر أحد أبرز الرؤساء الأوائل المؤسسين لنفوذ القبيلة وهيبتها في المنطقة.
العصر الذهبي: التحالف مع العثمانيين وذروة النفوذ
لم تكن قبيلة العبيد مجرد مجموعة بدوية تبحث عن الكلأ والماء، بل سرعان ما أثبتت نفسها كقوة سياسية وعسكرية فاعلة لا يُستهان بها في معادلة المنطقة. بلغ نفوذ القبيلة ذروته في القرن الثامن عشر الميلادي، تحديدًا في عهد شيخها الكاريزمي الشيخ عبد الله الشاوي، المنتمي إلى عشيرة البو شاهر (فرع من المشاهدة ضمن الحوازم). ارتقى الشيخ عبد الله ليدخل في حاشية “باشا بغداد” العثماني، متقلدًا منصبًا حيويًا هو “وسيط العرب” الرسمي. كان هذا المنصب بمثابة حلقة الوصل الأساسية بين الحكومة المركزية العثمانية في بغداد والعشائر العربية المنتشرة في مناطق نفوذ العبيد وما حولها.
هذه المكانة الرفيعة لم تكن شرفًا فقط، بل جلبت معها مكاسب ملموسة:
- تعزيز الهيبة والزعامة: عززت هذه العلاقة الوثيقة مع السلطة المركزية هيبة القبيلة وزعامتها بين عشائر بدو الرافدين، فأصبحت مرجعية في حل النزاعات وصناعة التحالفات.
- توسيع رقعة النفوذ: مكنت القبيلة من توسيع مناطق سيطرتها ونفوذها بشكل كبير وواضح، لتمتد من نهر الخابور وتكريت شمالاً حتى أبواب بغداد جنوباً، مسيطرة على طرق التجارة والمواصلات الحيوية.
- دور عسكري محوري: أصبحت القبيلة موردًا بشريًا موثوقًا به للدولة العثمانية، التي اعتمدت بشكل كبير على “بسالة وشجاعة رجال العبيد” في الحروب والصراعات. شكل رجال العبيد قوات عسكرية غير نظامية (مشاة وفرسان) فعالة، استُخدمت لحماية حدود الولاية ودرء المخاطر الخارجية وقمع التمردات الداخلية، مستفيدة من مهاراتهم القتالية الفطرية ومعرفتهم العميقة بجغرافية الصحراء.
كانت هذه الفترة تمثل العصر الذهبي للقبيلة، حيث جمعت بين القوة العشائرية التقليدية والشرعية السياسية التي منحها التحالف مع الباشوية العثمانية في بغداد.
سلسلة الثورات والتحدي: مواجهة الباشوات ومرارة الهجرة القسرية
على الرغم من التحالف الوثيق في فترات الذروة، لم تكن علاقة العبيد بالحكم العثماني وردية أو مستقرة دائمًا. سجلت صفحات التاريخ سلسلة من الثورات والهبّات القبلية العنيفة التي قامت بها العبيد ضد باشوات بغداد، كانت دوافعها تتلخص في رفض الظلم والاستبداد وفرض الضرائب المجحفة، والدفاع عن استقلالية القبيلة. من أبرز هذه الثورات:
- ثورة 1769م: كانت ثورة مبكرة، اشتعلت شرارتها بسبب المظالم المتكررة التي ارتكبها الحكام العثمانيون بحق القبيلة وأبناء المنطقة.
- ثورة 1785م: مثلت تصعيدًا للموقف، حيث أعلنت القبيلة رفضها القاطع لهيمنة الباشا ومطالبه المجحفة، وواجهت القوات العثمانية بضراوة.
- ثورة 1802م – 1803م: كانت أشرس هذه الثورات وأكثرها دموية. بلغ السخط مداه، واندلعت مواجهات عنيفة عجز الباشا عن قمعها بالرغم من إرسال حملات عسكرية متتالية. وصلت حدة المواجهات إلى درجة اضطرت معها القبيلة بأكملها، تحت وطأة القمع العثماني، لاتخاذ قرار مؤلم: عبور نهر الفرات واللجوء إلى الصحراء السورية (بادية الشام) في هجرة قسرية مؤقتة هربًا من الإبادة.
- العودة والمواجهة (1805م): عند عودة العبيد من منفاهم في البادية السورية إلى مناطقهم التقليدية، رأى الباشا في ذلك تحدياً جديداً لسلطته. فأصدر أوامره إلى أميرين كرديين تابعين له، هما باشا شهرزور وباشا كويسنجق، بمهاجمة العبيد وطردهم مرة أخرى. غير أن الخطة العثمانية تحولت إلى فشل ذريع ومأساة داخلية. استغل باشا شهرزور الفرصة لتصفية حسابات قديمة مع زميله باشا كويسنجق، فقام بمهاجمته وقتله. ثم وجد باشا شهرزور نفسه في موقف حرج بعد هذه الفعلة، فلجأ بدوره إلى من كان يفترض أن يكون عدوه، مستنجدًا بقبيلة العبيد في كركوك لمواجهة الحملة التأديبية العثمانية المتوقعة ضده. هذه الحادثة بالذات كانت دليلاً صارخًا على القوة العسكرية التي تمتعت بها العبيد، والتي أصبحت محط أنظار وحسابات جميع الأطراف في المنطقة، حتى أعدائها السابقين.
التفكك الجغرافي وإعادة التشكل: من الجزيرة إلى حويجة العبيد
بعد سلسلة الثورات الدامية والمواجهات مع السلطة العثمانية، حاولت قبيلة العبيد عبثًا استعادة مكانتها السابقة ومجالها الحيوي في منطقة الجزيرة الفراتية الغنية. ومع تعاظم الضغوط العثمانية الممنهجة، والتغيرات الديموغرافية الكبيرة التي شهدتها المنطقة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر (زيادة سيطرة عشائر أخرى، سياسات إعادة توطين)، أجبرت القبيلة على إخلاء الجزيرة بشكل شبه نهائي. كانت النتيجة المباشرة لذلك تفككًا جغرافيًا كبيرًا وتشتتًا للقبيلة:
- الهجرة نحو الغرب والشمال: هاجر فرع مهم من فروع العبيد، وهم اللهيب (الذين يعتبرون أبناء عمومة مقربين للعبيد)، إلى منطقة حلب في شمال سوريا. بينما استقر فرع آخر هو الغرير جنوب مدينة الفلوجة في محافظة الأنبار الحالية. واتجه فرع البو حمد (من المشاهدة) نحو منطقة الموصل شمال العراق.
- التأسيس في حويجة العبيد: القلب الجديد: عبرت الجموع الرئيسية للقبيلة، بقيادة رؤسائها وكبار مشايخها، نهر دجلة شرقًا، بحثًا عن موطن جديد آمن. استقرت هذه الجموع في الأراضي الخصبة المحيطة بنهري الزاب الصغير والزاب الكبير، والتي عُرفت منذ ذلك الحين وحتى اليوم باسم “حويجة العبيد” (وتقع ضمن محافظة كركوك الحالية). هنا، في هذه البيئة الجديدة الغنية بالمياه والأراضي الزراعية، بدأ فصل جديد من حياة القبيلة. تحول جزء كبير منهم، وخاصة عشيرة البو هيازع (من الدويمع)، تدريجيًا من حياة البداوة والترحال ورعي الإبل والماشية، إلى حياة الاستقرار والاعتماد على الزراعة الحقلية كمصدر رئيسي للرزق. ومع ذلك، حافظت أقسام أخرى داخل القبيلة على تربية الإبل والماشية كجزء من هويتها وثقافتها.
شجرة قبيلة العبيدي: فروع متجذرة وأغصان ممتدة
يعتمد النظام القبلي الداخلي للعبيدي على أصول متفرعة تنحدر من أبناء عبيد المؤسس. وتشكل هذه الأصول الثلاثة الكبرى العمود الفقري للقبيلة، تتفرع بدورها إلى بطون وعشائر وفخوذ متعددة، تشكل في مجموعها نسيجًا قبليًا معقدًا ومتماسكًا:
- أبناء حازم العبيد (الحوازم): وهم أكبر الفروع وأكثرها تنوعًا وانتشارًا:
- آل مشهد (المشاهدة): وينقسمون بدورهم إلى:
- البو شاهر: (وهم فخذ الرؤساء التاريخي) بفروعه المتعددة: الحمد الظاهر/المصطفى، المحمد الظاهر، الحربي، الهندي، الفراس، الفارس، الشاوي، المرعي، الطعان/الرميزان، الحسين الشاهر، الحمد المحمد، البو سعيد.
- البو حمد: بفروعه: الحمد الجاسم، المحمد الجاسم، البو نوفل، الفضلي/البو فضلي، البو بدير، الكنج، الصعب.
- البو بطوش: بفروعه: العساف، الشديد، الحنيشات، البو شيبان، البو ريّس.
- العجالي/البو عكلي، الكوامات، البو حمزة، البو سعيد (ومركزهم في ناحية الرياض بمحافظة صلاح الدين).
- خلفة علي: ويسكنون مناطق الحويجة والمنسية وما جاورها: البو هويشل، الحمران (ويُقال أنهم أصل القرا غول الملتحقين بالعبيد)، البو مسعود (ومنهم الملالحة والنويرات/الحسيوات)، البو فضل، البو حاضر، الذويبات، العساجرة، الحسيوات، المعاجلة، الحمّور.
- خلفة حازم: البو عساف، البو صالح، البو حسان.
- آل مشهد (المشاهدة): وينقسمون بدورهم إلى:
- أبناء محمد العبيد (الدويمع): ويتوزعون على فرق كثيرة:
- البو هيازع: (وهم الذين اشتهروا بالزراعة بعد الاستقرار في الحويجة) بفروعه: أولاد الشايب/الكبيب/البو عواد/البو طلحة/البو غنام/البو صليبي، الكبيشات/الغوالبة/البو عيسى/البو حنيحن/المناهلة/الولايدة/المخايلة.
- البو علكة (علقي): وهو فرع كبير جدًا يتكون من بطون وفخوذ متعددة: الملاحمة/العزبة/البو حسين/العفاريت/البو شبيب/البو ناجي، البو ثاير/السبيعات/البو جامل/البو راشد/المناجلة، البو محسن/البو والدة/الدرعان/الشلاهمة/البو حبيب، البو رومي/البو جادر/الرفة/الرملات، الشعيفات/البو عباس/البو عليوي/البو هور، البو طرودي/البو فنش/البو حمد، المشاعلة/البو درويش/المصلح، الشليخات/البو نجم/البو كمر/البو داود/البو نداوي.
- البو رياش: بفروعه: البو ظاهر، المريخات، البو سليمان، الحمور، البوجابر، البو عوفي، البراغشة، البو برك، البو علي.
- البو جهيمي: وهم قليلون نسبيًا مقارنة بالفروع الأخرى، وينتسب إليهم بيتان علميان بارزان في بغداد هما آل النائب وآل الشيخ سعيد.
- أبناء خالد العبيد (البومفرج): ويشملون فروعًا مثل: البو عابر، البو عيد، البو صالح، المداهنة، البو چامل.
الإرث الثقافي والاجتماعي: ليالي الشعر ومجالس الفخر
تميزت قبيلة العبيدي، كغيرها من القبائل العربية العريقة، بثراء نسيجها الاجتماعي وتماسكها الداخلي، وبإرث ثقافي مميز، خاصة في مجال الأدب الشعبي:
- البيوتات البارزة في الحواضر: لم تقتصر العبيدي على البادية، بل شهدت المدن، خاصة بغداد، استقرار عدد من بيوتاتها المرموقة التي لعبت أدوارًا سياسية وثقافية بارزة عبر القرون:
- آل الشاوي: يعود تواجدهم في بغداد إلى أوائل القرن الثاني عشر الهجري. برز منهم شاوي بن نصيف (المؤسس الفعلي للنفوذ السياسي للقبيلة، والمُلقب بـ “باب العرب” لدوره الوسيط). واستمر نفوذ هذه الأسرة لقرون.
- آل النائب، آل الشيخ سعيد، آل الشيخ علي: عائلات علمية وأدبية معروفة في بغداد، أنجبت فقهاء ومدرسين وأدباء ساهموا بشكل واضح في الحياة الثقافية والفكرية للمدينة، حافظوا على مكانة القبيلة في الأوساط الحضرية.
- العشائر الملحقة والتحالفات: تربط بعض العشائر علاقات نسب قديمة أو حلف متين مع العبيد:
- اللهيب: يعتبرون أبناء عمومة مقربين للعبيد، والعلاقة بينهم وثيقة ومتجذرة في التاريخ.
- القرا غول (القراغول): غالبًا ما يعدهم أبناء العبيد ضمنهم، أو على الأقل في حلف وثيق معهم (ويُطلق عليهم أحيانًا اسم “الحمران” ضمن خلفة علي من الحوازم).
- الجوالة: من قبيلة طيء العريقة، يسكنون مع العبيد بحلف قديم وعلاقات متينة.
- الإرث الأدبي المتميز: تميز أبناء العبيد، وخاصة في بيئتهم البدوية والريفية، بميول أدبية قوية وبراعة في قول الشعر:
- الشعر النايل: يُعرفون ببراعتهم الفائقة فيه، ويُعتقد على نطاق واسع أنهم أشهر من الجبور (شقيقتهم الزبيدية) في هذا الفن الشعري النبطي المميز الذي يتغنى بالفروسية والكرم والشجاعة.
- القصيد والركباني: أنواع شعرية أخرى مارسوها وأبدعوا فيها، تعكس تفاصيل حياتهم ورحلاتهم وقيمهم.
- العتابة: وإن كانت أقل شيوعًا بينهم مقارنة بالنايل والقصيد.
- الوصف التاريخي: لم يغفل المؤرخون عن تسجيل مكانة العبيد، فوصفوهم في كتبهم بأوصاف تدل على هيبتهم وقوتهم، مثل “ليوث الحروب”، “أشراف العرب”، “ألف فارس” (كما في كتاب الدرر المفاخر)، وأشادوا بشجاعتهم وإقدامهم وبسالتهم في ساحات الوغى (كما في كتاب عنوان المجد).
الامتداد الإقليمي: من حويجة العبيد إلى أطراف الخليج
لم يعد وجود قبيلة العبيدي محصورًا في موطنها الأصلي في العراق، بل امتدت فروعها وتواجد أبنائها عبر رقعة جغرافية واسعة:
- العراق: القلب النابض:
- حويجة العبيد (كركوك): تظل المركز الرئيسي والأكثر كثافة للسكان، حيث الزراعة والاستقرار النسبي، وهي المعقل الأساسي للقبيلة.
- بغداد وضواحيها: استمرار وجود البيوتات العلمية والرئيسية المرموقة (آل الشاوي، النائب، الشيخ سعيد) في العاصمة، إضافة إلى تواجد قبلي في بعض أحيائها وضواحيها.
- المناطق المحيطة: تواجد ملحوظ في ديالى (خاصة ناحية المقدادية/المقاصية)، صلاح الدين (ناحية الرياض)، الأنبار (جنوب الفلوجة – فرع الغرير)، نينوى (الموصل – فرع البو حمد)، بالإضافة إلى انتشار في محافظات أخرى مثل واسط والبصرة بفعل الهجرات الداخلية والوظائف.
- سوريا: امتداد طبيعي نحو الغرب:
- محافظة دير الزور: يعتبر الوجود العبيدي في سوريا مركزًا في هذه المحافظة، خصوصًا في ناحية هجين والقرى المحيطة بها مثل البحرة، غرانيج، الكشكية، بوحمام، بوالحسن. هذا الوجود هو امتداد طبيعي للهجرات التاريخية والعلاقات العشائرية المتشابكة عبر الحدود.
- أصول النزوح: يشير الباحثون والمؤرخون، مثل المستشرق هنري شارل في كتابه “عشائر الغنامة في الفرات الأوسط”، إلى أن بعض العشائر المتواجدة في سوريا (ويذكر كمثال البوحردان، الذين يعدهم البعض فرعًا من قبيلة العزة، بينما يرى آخرون علاقة مع العبيد) قدموا أصلاً من حويجة العبيد قرب الموصل على أثر نزاعات قبلية أو ضغوط اقتصادية في مراحل تاريخية سابقة.
- الكويت: هجرة ونجاح وإسهام ثقافي:
- القدوم والاستقرار: هاجرت أسرة كويتية معروفة تحمل اسم العبدلي العبيدي (وهي ذرية عبدالله علي العبيدي) من منطقة الزلفي في نجد إلى الكويت في منتصف القرن التاسع عشر الميلادي تقريبًا.
- أماكن السكن: استقرت هذه الأسرة أولاً في فريج الفرج بمنطقة شرق في الكويت القديمة، ثم انتقل بعض أفرادها لاحقًا إلى منطقة المرقاب (سكنًا في فريج الفضالة وفريج العليوه).
- إسهامات ثقافية بارزة: برز من هذه الأسرة شخصيات أدبية لامعة ساهمت في إثراء المشهد الثقافي الكويتي:
- الشاعرة موضي عبدالعزيز العبيدي: شخصية وطنية وأدبية معروفة على نطاق واسع، تميزت بشعرها الوطني والإنساني، حتى أن دولة الكويت كرَّمتها بإطلاق اسمها على إحدى مدارسها الحكومية تقديرًا لدورها.
- الشاعر عبدالعزيز محمد العبيدي.
- النسب والمصاهرات: ارتبطت أسرة العبدلي العبيدي بمصاهرات مع العديد من الأسر الكويتية المعروفة، مما يؤكد اندماجها في النسيج الاجتماعي الكويتي، مثل: بورسلي، الفرحان (الفيحاء)، العويش، البراك، الزنكي، بوحيمد، الشايع (كيفان)، الطواري، السنين، الدويش (النزهة)، الرجيبة، النتيفي (القادسية/الزلفي)، الصالح (الفيحاء)، والحوطي (الشامية).
- اليمن: الجذور الأم وعلاقة النسب البعيد:
- توجد في محافظة مأرب شرق اليمن قبيلة كبيرة وعريقة تحمل اسم “عبيدة” وتلقب بالعبيدي. تعود هذه القبيلة بنسبها الأعلى إلى مذحج، إحدى كبريات القبائل اليمنية القديمة.
- بينما تعود عشائر العبيد في العراق وسوريا والكويت إلى زبيد، وهي بدورها قبيلة تنتمي إلى مذحج أيضًا. هذا التشابه في الاسم والانتماء إلى الجذر المذحجي الكبير يشير إلى علاقة نسب بعيدة وجذر مشترك قديم في عمق الجزيرة العربية.
- ومع ذلك، من المهم التأكيد أن قبيلتي عبيدة اليمن (المذحجية) والعبيد العراقية/الشامية/الكويتية (الزبيدية المذحجية) تشكَّلتا ككيانين قبليين مستقلين، في مناطق جغرافية مختلفة، وتحت ظروف تاريخية متباينة. العلاقة بينهما هي إذن علاقة أصل وجذور مشتركة (مذحج) وليست علاقة فرع مباشر أو انقسام حديث. كل منهما سلكت مسارها التاريخي الخاص.
القيادة والاستمرارية: من عبد الله الشاوي إلى شيوخ اليوم
تتوارث القبيلة زعامتها وفق الأعراف والتقاليد القبلية الأصيلة. في الوقت الحاضر، يتولى زعامة قبيلة العبيد في العراق الشيخ أنور العاصي. ويليه في المرتبة والمسؤولية أخوه الشيخ وصفي العاصي، مستمرين في حمل راية القبيلة وتقاليدها العريقة، وتمثيلها في المحافل الاجتماعية والسياسية، والعمل على حل النزاعات والحفاظ على تماسك أبنائها المنتشرين في عموم العراق.
واجهت القبيلة، كغيرها من العشائر العربية الكبرى، تحديات جسامًا في العصر الحديث: موجات التحضر السريع، تأثيرات الحداثة وتغير أنماط الحياة، التحولات السياسية والاجتماعية العميقة التي شهدها العراق والمنطقة، والحروب المتعاقبة. ورغم كل هذه التحديات، حافظ أبناء العبيد على هويتهم القبلية القوية كجزء من هويتهم الوطنية الأوسع. لقد انخرطوا بكثافة في كافة مناحي الحياة الحديثة، فبرز منهم السياسيون، والاقتصاديون، والعسكريون، والأكاديميون، والمهنيون، والمثقفون، والأدباء، مساهمين في بناء مجتمعاتهم مع التمسك الواعي بجذورهم العريقة وتراثهم الثقافي الغني.
خاتمة: العبيدي وش يرجع.. سؤال يجيب عنه مجد يتحدى الزمن
قبيلة العبيدي ليست مجرد اسم يتردد في سجلات العشائر وأنسابها، بل هي سفر حي ممتد عبر أكثر من ثلاثة قرون، حافل بالعطاء والتحدي. من أصولها الزبيدية المتجذرة في تربة اليمن الخصبة، مرورًا برحلتها الملحمية عبر صحاري الجزيرة، واستقرارها في جزيرة العراق بين النهرين، وصولاً إلى صعود نفوذها السياسي والعسكري كقوة إقليمية فاعلة، وثوراتها العديدة ضد الظلم والاستبداد دفاعًا عن كرامتها وحريتها، وانتهاءً بهجراتها المليئة بالتحديات وتفريعاتها المعقدة وانتشار أبنائها من حويجة العبيد في كركوك إلى سهول دير الزور في سوريا، ومن أحياء بغداد العريقة إلى ضواحي الكويت الحديثة.
تظل العبيدي نموذجًا حيًا للقبيلة العربية الأصيلة التي حفرت اسمها بحروف من نور في تاريخ المنطقة. إن دراسة تاريخها المتشعب، وجذورها الضاربة، ونظامها الاجتماعي المتماسك، وإرثها الثقافي الأصيل، ليست سوى دراسة لجزء مهم وجوهري من تاريخ العراق الاجتماعي والسياسي والثقافي. إنها تأكيد على استمرارية الروابط القبلية والهويات الفرعية، ليس كعناصر انقسام، بل كألوان زاهية في لوحة نسيج الهوية العربية الأكبر والجامعة. حتى في خضم تحولات العصر الحديث وتعقيداته، يظل سؤال العبيدي وش يرجع استدعاءً لروح الانتماء، وشهادة على قدرة هذه القبيلة، وأمثالها، على الصمود والتكيُّف والحفاظ على إرثها، حاملين معهم قيم الكرم والشجاعة والمروءة والفخر بنسبهم الذي يعود إلى عبيد بن عمرو بن معدي كرب الزبيدي، من أشراف العرب في اليمن والحجاز والعراق.