في صحراء الجزيرة العربية حيث تختلط رمال التاريخ بدماء النسب، تبرز قبيلة “الحناتيش” كحلقة وصل بين عصور مضت وحاضر مشتعل. السؤال المحير ” الحناتيش وش يرجعون ؟” ليس مجرد استفسار عن نسب، بل رحلة في دهاليز الصراع بين الأمويين والعباسيين، وملحمة بطولية لقبيلة حافظت على إمارتها قرونًا. هنا نكشف النقاب عن جذورهم الضاربة في قبيلة عتيبة العريقة، ودورهم المحوري كحماة للدولة الأموية في لحظات سقوطها، وكيف صاغوا تاريخ عسير بسيوفهم. استعد لرحلة زمنية حيث الأنساب تحكي قصصًا أشبه بالأساطير!
لبّ الحكاية: الحناتيش فرعٌ من سُلالة عتيبة العظيمة
يرجع أصل الحناتيش إلى قبيلة عتيبة الكبرى، تلك القبيلة العربية العريقة التي تنتشر فروعها كشجرة باسقة في أرض نجد والحجاز. وتحديدًا، هم فخذ أصيل من بطون “الروقة”، إحدى أشهر وأعرق فصائل عتيبة التي تضم تحت لوائها أربعة عشر فخذًا قويًا. لكن قصة الحناتيش لا تقف عند مجرد الانتماء القبلي؛ بل تنحدر سلالتهم مباشرة من الأمير حنتوش بن دحل بن بدر بن فضل الشامي الكلبي، ذلك البطل الذي سطّر اسمه بحروف من نور في صفحات التاريخ الأموي. اسم “الحناتيش” نفسه مشتق من اسم هذا الأمير المؤسس، ليصبح علمًا يُرفع فوق رمال الجزيرة العربية.
الجذور التاريخية: حماية آخر الخلفاء الأمويين في عسير
قصة الحناتيش لا تنفصل عن الدراما التاريخية لسقوط الدولة الأموية وصعود العباسيين. ففي عام 132 هـ، وعندما اشتدت قبضة العباسيين على الحكم، فرّ الخليفة الأموي علي بن محمد بن عبد الرحمن (من أحفاد يزيد بن معاوية) إلى بني كلب – أخوال جده – طالبًا الحماية. هنا يظهر دور “دغفل بن دحل” (جد الدغافلة) الذي قاد فرقة من بني كلب لمرافقة الخليفة الهارب إلى عسير، حيث التحقوا بقبيلة بني وازع من الأزد.
ما إن استقر الخليفة في عسير حتى بدأ في بناء قاعدة قوية، سيطر خلالها على جنوب الجزيرة العربية. هذا التوسع أثار مخاوف الخليفة العباسي “المهدي”، الذي أرسل جيشًا ضخمًا بقيادة “عبد الله بن عبد الرحمن الغامدي” لسحق التمرد الأموي. وقعت معارك ضارية في بلاد غامد عام 169 هـ، انتهت باستشهاد الخليفة الأموي، لكن شعلة المقاومة لم تنطفئ!
ولادة الإمارة: الأمير حنتوش وحكم تربة وبيشة
بعد مقتل الخليفة علي بن محمد، بايع أهل عسير ابنه “عبد الله بن علي” خليفةً جديدًا عام 169 هـ. واصل عبد الله قتال العباسيين حتى تمكن من قتل قائد جيشهم الغامدي. لكن الخطر الأكبر تمثل في تمرد قبيلة بني هلال التي نقضت ولاءها للأمويين والتحقت بشريف مكة.
هنا يأتي دور البطل المؤسس: الأمير حنتوش بن دحل الكلبي. فقد جهز الخليفة عبد الله جيشًا من عسير بقيادة حنتوش، الذي نجح في سحق ثورة بني هلال بقوة سيفه وحنكته. مكافأةً لهذه البطولة، عُيّن حنتوش أميرًا على تربة البقوم وبيشة والقبائل المحيطة بهما عام 173 هـ. وهكذا وُلدت “إمارة الحناتيش” التي حكمت المنطقة لقرون، مستندة إلى قوة بني وازع والكلبيين، ومتخذة من التربية عاصمةً لها.
عصر الأمراء: سلالة حكمت 600 عام!
لم تكن إمارة الحناتيش حكمًا عابرًا، بل استمرت ستة قرون كحصن منيع للموروث الأموي، توارثها أحفاد حنتوش جيلاً بعد جيل. ومن أبرز من قادوا هذه السلالة:
- الأمير فايز بن مطرف الحنتوشي (656 هـ): حكم في فترة حرجة من الصراع مع المماليك، وحافظ على استقلالية الإمارة.
- الأمير حنش بن مدرك الحنتوشي (713 هـ): قائد عسكري مغوار ضم قبائل شيبان بن روق تحت لوائه بعد هزيمتهم الساحقة أمام القوى المنافسة، موسعًا نفوذ الإمارة.
- الأمير محسن بن قايد الحنتوشي: آخر الأمراء العظماء، واشتهر بابنته “أثيلة” التي تزوجت من الدواسر فأنجبت فرع “بني أثيلة” – دليل حي على تداخل أنساب الحناتيش مع كبرى القبائل.
النهاية الدرامية: سقوط الإمارة وتشتت الفروع
لم تسقط إمارة الحناتيش إلا بسقوط الحكومة اليزيدية في عسير، التي كانت الداعم السياسي لهم. مع ضعف السلطة المركزية، دبّ الخلاف بين أبناء القبيلة فانقسموا إلى عدة اتجاهات:
- فرع بقي مع البقوم: وهم اليوم يعرفون بـ “شيوخ الدغافلة من وازع البقوم”، حاملين اسم جدهم الأكبر “دغفل بن دحل”.
- فرع اندمج مع الدواسر: من خلال المصاهرة مع بني أثيلة كما ذكرنا.
- فرع حافظ على الهوية العتيبية: وهو الفرع الأكبر الذي حافظ على انتمائه الأصلي ضمن “الحناتيش من الروقة من طلحة من عتيبة”.
النسيج القبلي: أين موقع الحناتيش في شجرة عتيبة؟
لفهم أعمق لإجابة “الحناتيش وش يرجعون”، يجب الغوص في البنية الداخلية لقبيلة عتيبة العملاقة:
- قبيلة عتيبة: التقسيم الكبرى للقبيلة (تضم مئات الأفخاذ).
- الروقة: أحد البطون الرئيسية داخل عتيبة.
- طلحة (الطلوح): فرع رئيسي تحت بطن الروقة، ويضم 14 فخذًا قويًا.
- الحناتيش: هم الفخذ السابع ضمن فخوذ طلحة الـ 14، بجوار فخوذ عريقة مثل الحفاة والكراشمة والغربية والغضابين والأساعدة.
علامتهم المميزة: وسم “المغزل” الذي يُميز إبلهم وماشيتهم، وهو نفس وسوم إخوتهم في طلحة. كما يُعرف الفرد منهم بلقب “الحنتوشي” تيمنًا باسم الجد المؤسس.
ديارهم ومواطنهم: من ساجر إلى هجرة العبل
لم تغب ديار الحناتيش عن كُتب الجغرافيا والتاريخ. فقد ذكر المؤرخ “المغيري” في كتابه “المنتخب في ذكر قبائل العرب” أن موطنهم التقليدي يقع في منطقة “ساجر” و”هجرة العبل” شمال مدينة الدوادمي في نجد، وهي مناطق تتميز بوفرة المراعي وقربها من منابع المياه. هذه الديار تشهد حتى اليوم على مجد تاريخي عاشه أحفاد الأمير حنتوش، رغم تشتت بعضهم في مناطق أخرى بسبب التحالفات والظروف السياسية.
الإرث والتحديات: قبيلة تحمل تاريخًا أثقل من الرمال
يحمل الحناتيش اليوم إرثًا مزدوجًا:
- إرث النسب العتيبي الأصيل: الذي يمنحهم مكانة في منظومة القبائل النجدية.
- إرث البطولة الأموية: كحماة للدم الشرعي في أحلك الظروف.
- إرث الإمارة الضائع: الذي لا يزال يتردد في قصص كبار السن.
لكنهم كغيرهم من القبائل العربية، يواجهون تحدي الحفاظ على الهوية في عصر العولمة والتحولات الاجتماعية السريعة. التشتت الجغرافي وضعف الروابط التقليدية يهددان بانحسار بعض التفاصيل الدقيقة في قصتهم الفريدة.
خاتمة: أكثر من مجرد فخذ.. أسرة حكمت وكتبت التاريخ
الإجابة على سؤال “الحناتيش وش يرجعون” تكشف عن ملحمة إنسانية نادرة. هم فرع من عتيبة العظيمة، ينحدرون من الأمير حنتوش الكلبي البطل الذي حمى آخر الخلفاء الأمويين. أسسوا إمارة استمرت 600 عام في عسير ونجد، حاربوا بني هلال والعباسيين، وتركوا سلالة من الأمراء العظام. انقسموا بعد السقوط إلى ثلاثة مسارات: البقوم (الدغافلة)، الدواسر (بني أثيلة)، وعتيبة الأصليين.
ديارهم في ساجر وهجرة العبل شمال الدوادمي شاهد على أمجادهم، ووسم المغزل على إبلهم رمزٌ لهويتهم. فهم ليسوا مجرد اسم في قائمة أفخاذ عتيبة، بل صانعون للتاريخ، حماةُ مبادئ، وأصحابُ قصصٍ تملأ المجالس العربية فخرًا. كل حنتوشي اليوم يحمل في اسمه ذكرى أميرٍ حوّل الهروب من السقوط إلى تأسيس مجدٍ دام قرونًا!
مواضيع ذات صلة: