تعتبر أفخاذ الجهنان – أي قبائل جهينة العريقة – أحد الأعمدة الرئيسية في النسيج الاجتماعي والسياسي للجزيرة العربية عبر القرون. فهي ليست مجرد قبيلة عابرة، بل هي إحدى كبريات القبائل القضاعية التي سطرت صفحات مشرقة في تاريخ الإسلام، وكانت من أوائل من ناصروا الرسول ﷺ وحملوا لواء الفتوحات. تمتد جذور هذه القبيلة العظيمة من الحجاز وتهامة شمالاً إلى ضفاف النيل جنوباً، ومن بادية الشام شرقاً إلى سواحل أفريقيا غرباً، حاملة معها تراثاً عربياً أصيلاً ورواية حية عن شجاعة أبنائها الذين شكلوا درعاً حصيناً للإسلام في أعتاب انتشاره.
قلب الإسلام النابض: جهينة والصحابة
لعلّ أبرز ما يميز أفخاذ الجهنان هو دورها المحوري في بواكير الدعوة الإسلامية. فقد كانت جهينة من أوائل القبائل التي آمنت برسالة النبي ﷺ، ليس إيماناً سلبياً، بل انخرطت بقوة في معارك الفتح وبناء الدولة الناشئة. هذا الإيمان تجسد في كوكبة من الصحابة الأجلاء الذين خرجوا من بين صفوفها، وأصبحوا نجوماً تُهتدى بهم في سماء التاريخ الإسلامي. من بين هؤلاء الأعلام:
- خبيب بن إساف الجهني: شهيد الإيمان الذي ضرب أروع أمثلة الثبات في وجه التعذيب.
- وديعة بن عمرو الجرادي: فارس من فرسان الإسلام الأوائل، شارك في غزوات حاسمة.
- معبد بن خالد الذبياني: أحد رواة الحديث، وعُرف بسداد الرأي والشجاعة.
- السائب بن خلاد (أبو سهلة): صحابي جليل، لازم النبي ﷺ وروى عنه.
- ربيعة بن عمرو الجرادي: من أبرز وجوه القبيلة في العهد النبوي.
- ضمرة بن عياض البركي: فارس وشاعر، شارك في الفتوحات.
- كعب بن جماز الذبياني: صحابي مشهور، ورد ذكره في كتب السير.
- زياد بن كعب الرفاعي: من رجال جهينة الذين حملوا راية الإسلام إلى مصر.
هؤلاء وغيرهم – مثل عمرو بن قصي السناني، وعدي بن أبي الزغباء البذيلي، وبجير بن أبي بجير – لم يكونوا مجرد أسماء في سجلات التاريخ، بل كانوا طليعة جيش التحرير الإسلامي الذي فتح القلوب قبل الأرض. إن سرد مآثر هؤلاء الصحابة يُظهر كيف كانت أفخاذ الجهنان رافداً حيوياً للدولة الإسلامية الفتية بالرجال والإيمان والقيادة.
الامتداد الجغرافي: من تهامة إلى ضفاف النيل
لا تكتمل صورة أفخاذ الجهنان دون استعراض انتشارها الجغرافي الواسع، الذي يعكس قوتها وقدرتها على التأقلم عبر العصور:
- الموطن الأم (الحجاز وتهامة): تعتبر المنطقة الممتدة من غرب المدينة المنورة بمحاذاة البحر الأحمر، وصولاً إلى فيضان وادي الحمض شمالاً، القلب النابض لقبيلة جهينة منذ القدم. هنا تقع ديار بنو مالك وبنو موسى، اللذان يمثلان العمود الفقري للقبيلة في المملكة العربية السعودية اليوم.
- مصر والسودان: نسيج متأصل: يمثل وجود أفخاذ الجهنان في مصر قصة عظيمة بدأت مع الفتوحات الإسلامية المبكرة. فقد دخلوا مصر مع جيش عمرو بن العاص سنة 43هـ، واستقروا أولاً في الأشمونين جنوب المنيا، ثم انتشروا جنوباً نحو سوهاج والنوبة. اليوم، تتركز وجودهم في سوهاج، مع تواجد فاعل في الشرقية وقنا والقليوبية. من أشهر عائلاتهم هناك: العوامرة، رفاعة، حبيش، الحصينات. لقد أصبحوا جزءاً لا يتجزأ من النسيج الاجتماعي المصري، حافظين على هويتهم ونسبهم.
- بلاد الشام والعراق: امتداد التأثير: انتشرت فروع من جهينة في الأردن وفلسطين وسوريا والعراق، وخاصة في مناطق مثل الكوفة، حيث استقر فرع الربعة من بني غيان. شكلت هذه الفروع جسوراً ثقافية وقبلية بين أجزاء الوطن العربي.
- شمال أفريقيا: رحلة الغرب: امتد مسار بعض أفخاذ جهينة، خاصة المنحدرين من فرع نصر بن مالك (رفاعة، لحمة، زهرة، كدادة، بذيل، جذيمة)، عبر ليبيا وصولاً إلى السودان، حاملين معهم تقاليد القبيلة ومساهمين في تشكيل المجتمعات المحلية.
هذا الانتشار الواسع لم يكن هجرة عشوائية، بل كان نتاجاً طبيعياً لدور القبيلة الفاعل في الفتوحات الإسلامية وحركة الجيوش والتجارة، فضلاً عن البحث عن المراعي وموارد العيش، مما جعل اسم أفخاذ الجهنان رناناً في أرجاء العالم العربي.
شجرة النسب: أصل وتاريخ قبيلة جهينة
تعود أصول أفخاذ الجهنان إلى الجد المؤسس جهينة بن زيد بن ليث بن سود بن أسلم بن الحاف بن قضاعة. وقضاعة هذا هو أحد الأصول الثلاثة الكبرى التي يرجع إليها العرب حسب ابن حزم الأندلسي في “جمهرة أنساب العرب” (عدنان، قحطان، قضاعة). وتُعتبر جهينة أكثر قبائل قضاعة عدداً وأقدمها، وهو ما يفسر كثرة أفخاذها وبطونها وتنوعها.
لقد عُرفت جهينة منذ الجاهلية بشدة البأس والتمسك بالقيم العربية الأصيلة. وكان جهينة بن زيد نفسه، كما تشير الروايات، من أوائل العرب الذين اختاروا حياة البادية والصحراء، فانعكس ذلك على طباع أبنائه من الشجاعة والصلابة وقدرة فائقة على التأقلم مع أصعب الظروف. هذا النسب القضاعي العريق هو المصدر الفخر الذي تستمد منه جميع أفخاذ وبطون جهينة هويتها ووحدتها رغم تعددها وتباعد ديارها.
تفصيل الأفخاذ: موسى ومالك.. العمودان العظيمان
تنقسم أفخاذ الجهنان إلى فرعين رئيسيين هما اللبنة الأساسية في بنائها القبلي المعقد، وهما: فرع موسى وفرع مالك. كل فرع منهما يتشعب إلى قبائل وعشائر كثيرة، تشكل بمجموعها النسيج الحيوي للقبيلة:
أولاً: قبائل موسى (بنو موسى)
ويُعدون أحد القسمين الرئيسيين لجهينة، ويتفرعون إلى 15 قبيلة رئيسية، هم عماد القبيلة في الحجاز وتهامة ومنهم الصحابة الكثر، وتشمل:
- الذبياني: من أشهر أفخاذ جهينة وأكثرها عدداً وذكراً في التاريخ، ومنهم الصحابة معبد بن خالد وكعب بن جماز.
- المرواني: فخذ عريق له مكانته.
- السناني: ومنهم الصحابي عمرو بن قصي السناني.
- الشميري (أو السميري): فخذ بارز.
- الفزي: وغالباً ما يُذكر مع الحمدي والعطلاني (أو العلاطي).
- الحبيشي: من الأفخاذ المعروفة، ومنتشرة في مصر والحجاز.
- الفايدي: فخذ معروف.
- المحياوي: من أفخاذ بني موسى.
- العنمي: فخذ له تاريخ.
- العلوني: من القبائل الفرعية.
- النزاوي: فخذ معروف.
- الحجوري: من أفخاذ موسى.
ثانياً: قبائل مالك (بنو مالك)
وهو الفرع الرئيسي الثاني، وينقسم بدوره إلى قسمين كبيرين هما: قبائل القوفة وقبائل القطر، ويُعدون العمود الآخر للقبيلة مع انتشار واسع في الحجاز ومصر والشام.
- قبائل القوفة (وتنتمي لمالك): وتضم 16 قبيلة:
- الهدباني * الميلبي * المشعلي
- الكشي * الكتيني * القميصي
- القاضي * العنيني * العرفي
- الشظيفي * الرجبي * الربياوي
- الدبيسي * الحمدي * الحصيني
- الحشكلي
- قبائل القطر (وتنتمي أيضاً لمالك): وتضم 5 قبائل رئيسية:
- عروة: قبيلة كبيرة وهامة.
- العوامرة: من أشهر أفخاذ جهينة في مصر (سوهاج) والحجاز.
- الزوايدة: فخذ معروف.
- رفاعة: فخذ كبير ومشهور، له انتشار في مصر والسودان (من نسل نصر بن مالك).
- بني كلب: فخذ له تاريخ عريق.
هذا التقسيم المتفرع من موسى ومالك، ثم إلى القوفة والقطر، ثم إلى العشرات من القبائل والعشائر، يوضح ضخامة النسيج الاجتماعي الذي تشكله أفخاذ الجهنان، وكيف حافظت على وحدتها الهيكلية رغم شساعة الرقعة الجغرافية التي انتشرت فيها.
جهينة في مصر: من الفاتحين إلى المكون الأصيل
يستحق تواجد أفخاذ الجهنان في مصر فصلًا خاصًا، نظرًا لقدمه وعمقه وتأثيره. كما ذكرنا، يعود هذا التواجد إلى لحظة فارقة في التاريخ: الفتح الإسلامي لمصر عام 20 هـ الموافق 641 م. لم يكونوا مجرد جنود في جيش عمرو بن العاص، بل كانوا شركاء أساسيين في هذه المغامرة الجريئة التي غيرت وجه التاريخ. استقروا أولاً في الأشمونين (محافظة المنيا اليوم)، كنواة أولى، ثم بدأوا في التمدد جنوباً مع تقدم الفتوحات وترسخ الحكم الإسلامي، ليكون وادي النيل، وخاصة في صعيد مصر، موطناً جديداً مزدهراً لهم.
لقد حافظت أفخاذ الجهنان في مصر على تماسكها القبلي وهويتها العربية الواضحة عبر القرون، رغم اندماجها الإيجابي في المجتمع المصري. ولا تزال العائلات الكبرى المنحدرة منهم في محافظة سوهاج تحديداً (قلب الصعيد) تفتخر بانتمائها إلى جهينة، وتتسمى بأسماء أفخاذها بوضوح، مثل:
- العوامرة: وهم من قبائل القطر (بني مالك)، ووجودهم قوي جداً في سوهاج.
- رفاعة: فرع هام من فروع مالك (قبائل القطر)، منتشر في مصر والسودان.
- حبيش: من أفخاذ بني موسى، واسمهم واضح في سوهاج.
- الحصينات: من قبائل القوفة (بني مالك).
بالإضافة إلى وجود ملحوظ في محافظات أخرى مثل الشرقية، قنا، والقليوبية. لقد قدمت جهينة المصرية عبر تاريخها الطويل رجالاً في العلم والسياسة والجيش، مساهمين في بناء مصر الحديثة مع التمسك بجذورهم العريقة. إن وجودهم هو شهادة حية على الروابط التاريخية المتينة بين جزيرة العرب ووادي النيل.
بطون جهينة القديمة: من كتب الأنساب
يوفر لنا علم الأنساب، وخاصة ما دونه المؤرخ الكبير ابن حزم الأندلسي في مصنفه القيم “جمهرة أنساب العرب”، نافذة على التكوين المبكر لأفخاذ الجهنان. يذكر ابن حزم أن جهينة بن زيد أنجب:
- قيس بن جهينة: وهو الفرع الأكبر والأقدم، ومنه تفرعت بطون رئيسية:
- غطفان بن قيس: وأنجب مالكاً وعوفاً، وسكن أبناؤه الحجاز. ومن مالك بن غطفان تفرعت بطون عديدة هي أساس قبائل مالك الحديثة (نصر، قانصة، عاتبة، الشلل، عجبا).
- غيان بن قيس: (واسماهم الرسول ﷺ بنو رشدان). ومن غيان خرج:
- ذبيان بن غيان: وهو أصل قبائل الذبياني الهامة اليوم (ومنهم جدارة، عامر، سعد، الحرقة، حمس، ثعلبة)، وسكنوا غرب وشمال غرب الجزيرة.
- الربعة بن غيان: وسكنوا منطقة الكوفة في العراق.
- مودوعة بن جهينة: وهو فرع آخر.
هذا التقسيم القديم الذي ذكره ابن حزم يوضح الأصول الجينية للعديد من أفخاذ جهينة المعاصرة، ويربط بين الماضي السحيق للحقبة الجاهلية وما قبل الإسلام، وبين الواقع القبلي المعاش حتى اليوم، مما يؤكد استمرارية النسب وعراقته.
الخاتمة: إرث يتجدد
لا شك أن الحديث عن أفخاذ الجهنان – قبيلة جهينة العظيمة – هو حديث عن صفحة مشرقة من صفحات التاريخ العربي والإسلامي. فهي قبيلة جمعت بين أصالة النسب القضاعي، وسبق اليد في نصرة الإسلام من خلال صحابتها الأبرار، وقوة الانتشار الجغرافي من الحجاز إلى مصر والشام والسودان، وثراء التنظيم القبلي الذي تجلى في تفرعها إلى فرعين عظيمين (موسى ومالك) ثم إلى عشرات القبائل والعشائر المترابطة.
إن دراسة أفخاذها مثل الذبياني، والمرواني، والعوامرة، ورفاعة، والحبيشي، والسناني، والهدباني، وغيرها الكثير، ليست مجرد سرد لأنساب، بل هي استعادة لسير رجال صنعوا تاريخاً، ورفعوا راية التوحيد في أصقاع الأرض. لقد حملت أفخاذ الجهنان على عاتقها مسؤولية نشر الدين الجديد والدفاع عنه، ثم حافظت على كيانها وهويتها عبر القرون في مواطنها المترامية.
اليوم، ورغم تغير أنماط الحياة، تبقى جهينة رمزاً للعروبة الأصيلة والإسلام القويم. فخر بني قضاعة، وعماد من أعمدتها. إن إرثها من الشجاعة والإيمان والانتماء، هو إرث حيٌّ يتجدد في كل جيل جديد من أبنائها الموزعين في أرجاء الوطن العربي الكبير، يحملون اسم أجدادهم الصحابة بكل اعتزاز، ويكتبون فصولاً جديدة في سجل العطاء. إن قصة أفخاذ الجهنان ليست ماضياً انقضى، بل هي حاضر نابض ومستقبل واعد.
مواضيع ذات صلة: