ينابيع المعرفة

معاوية بن أبي سفيان الجانب الآخر الذي لم يعرفه الكثيرون

معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه اشتهر بالحلم والدهاء والحنكة، مكث في القيادة أربعين عاما: عشرون منها واليا، وعشرون منها أميرا، وقد استطاع بفضل حلمه وأناته، وحسن سياسته، أن يملك قلوب أعدائه، قبل أودائه وكان يقول: لو أنّ بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت، كانوا إذا مدّوها أرخيتها، وإذا أرخوها مددتها. وما هذا إلا لكمال عقله فقد كان لبيبا عالما حليما، ملكا قويّا، جيّد السياسة حسن التّدبير لأمور الدنيا، حكيما فصيحا، بليغا يحلم في موضع الحلم، ويشتد في موضع الشدة، إلا أن الحلم كان أغلب عليه.

ولو سلك معاوية بالناس غير سبيل الاحتمال والمداراة؛ لاختُطف اختطافًا كما يقول الحسن البصري رحمه الله.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : وفضائل معاوية في حُسن السيرة والعدل والإحسان كثيرة. اهـ. وقد بلغ الحلم بمعاوية أن دخل عليه ابنه يزيد مغضبا وقال: «لقد أفرطت في الحلم حتى خفت أن يعدّ ذلك منك ضعفا وجبنا» فقال معاوية: «أي بنيّ: إنه لا يكون مع الحلم ندامة ولا مذمّة، فامض لشأنك، ودعني ورأيي».

بهذا الحلم الراسخ المتين وبحسن السياسة والدهاء كان معاوية مُربِّي دول، وسائسَ أمم، وراعي ممالك. ابتكر في الدولة أشياء لم يسبقه أحد إليها، ومن ذلك البريد فهو أول من وضعه؛ طلبا لسرعة وصول الأخبار ومتجدّدات الأحوال.

قال الشعبي: دُهاة العرب أربعة: معاوية بن أبي سفيان، وعمروبن العاص، والمغيرة بن شعبة، وزياد بن أبيه. فأما معاوية فلـلأناة والحلم، وأما عمرو فللمعضِـلات، وأما المغيرة فللمبادهة، وأما زياد فللصغير والكبير. من طريف ما يذكر حول حلمه ما رواه السهيلي في “الروض الأنف”: أن معاوية كان يطوف بالبيت، ومعه جنده فزحموا السائب بن صيفي بن عابد فسقط، فوقف عليه معاوية – وهو يومئذ خليفة- فقال: ارفعوا الشيخ فلما قام، قال: ما هذا يا معاوية؟ تصرعوننا حول البيت؟ أما والله لقد أردت أن أتزوج أمك. فقال معاوية: ليتك فعلت، فجاءت بمثل أبي السائب يعني عبد الله بن السائب.

فقد تعامل رضي الله عنه في هذا الموقف بحكمة وأدب ولطف، فالسائب أراد إيغاظه ولكنه هو لم يغضب، بل رد عليه بما يدل على توقيره له وإعجابه به وبابنه ، وهذا كاف في إزالة ما بقلب السائب من غيظ وحنق. ومثل ذلك أيضًا قصته مع الأنصار حين قدم المدينة، إذ لقيه أبو قتادة فقال: تَلَقَّانِي النَّاسُ كُلُّهُم غَيْرَكُمْ يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ، فَمَا مَنَعَكُمْ؟ قَالُوا: لَمْ يَكُنْ لَنَا دَوَابٌّ. قَالَ: فَأَيْنَ النَّوَاضِحُ ؟- يعني الإبل التي يستقى عليها- قال أبو قتادة: عَقَرْنَاهَا فِي طَلَبِ أَبِيْكَ يَوْمَ بَدْرٍ، إِنَّ رَسُوْلَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ لَنَا: “إِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً”. قَالَ مُعَاوِيَةُ: فَمَا أَمَرَكُمْ؟ قَالَ: أَمَرَنَا أَنْ نَصْبِرَ. قَالَ: فَاصْبِرُوا.[6] هذه هي شعرة معاوية لما جذبوا أرخى لئلا تنقطع الشعرة في كياسة وحسن سياسة فلله دره. قال ابن عباس: قد علمت بم غلب معاوية الناس، كانوا إذا طاروا وقع، وإذا وقع طاروا. وقال عبد الله بن الزبير لما بلغه نعي معاوية: لِلَّهِ دَرُّ ابْنِ هِنْدٍ، إِنْ كَانَ لَنُفَرِّقُهُ فَيَتَفَارَقُ لَنَا، وَمَا اللَّيْثُ الْحَرِبُ بِأَجْرَأَ مِنْهُ، وَإِنْ كُنَّا لَنُخَوِّفُهُ فَيَخَافُ، وَمَا ابْنُ لَيْلِهِ بِأَدْهَى مِنْهُ،…كَانَ وَاللهِ لَا يُتَخَوَّنُ لَهُ عَقْلٌ، وَلَا يُنْقَصُ لَهُ قُوَّةٌ، وَاللهِ لَوَدِدْتُ أَنَّهُ بَقِيَ مَا بَقِيَ أَبُو قُبَيْسٍ .[7] لقد كان حلم معاوية سجية، لا تكلفا، كما قال المتنبي.

نقل الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية أن معاوية كان يقول: يا بني أمية فارقوا قريشًا بالحلم، فوالله لقد كنت ألقى الرجل في الجاهلية فيوسعني شتمًا وأوسعه حلمًا، فأرجع وهو لي صديق، إن استنجدته أنجدني، وأثور به فيثور معي، وما وضع الحلم عن شريف شرفه، ولا زاده إلا كرما. وقال: لا يبلغ الرجل مبلغ الرأي حتى يغلب حلمه جهله، وصبره شهوته، ولا يبلغ الرجل ذلك إلا بقوة الحلم. ومن حسن سياسته ما أجاب به واليه زياد بن أبيه، لما أرسل إليه قائلا: إن هذا فسادٌ لعملي، إذا طلبتُ أحداً لجأ إليك ولاذ بك. فقال معاوية: إنه لا ينبغي أن نسوس الناس سياسة واحدة باللين فيمرحوا، ولا بالشدة فنحملهم على المهالك، ولكن كن أنت للشدة، وأنا للين والألفة والرحمة، حتى إذا خاف خائف وجد بابًا يدخل منه.

ولما قدم عمر الشام، تلقاه معاوية في موكب عظيم؛ فلما دنا منه قال له عمر: أأنت صاحب الموكب العظيم؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين. قال: مع ما يبلغني من طول وقوف ذوي الحاجات ببابك؟ قال: مع ما يبلغك من ذاك. قال: ولم تفعل هذا؟ قال: نحن بأرض جواسيس العدو بها كثير، فيجب أن نظهر من عز السلطان ما نرهبهم به؛ فإن أمرتني فعلت، وإن نهيتني انتهيت. فقال عمر: يا معاوية، ما أسألك عن شيء، إلا تركتني في مثل رواجب الضرس؛ لئن كان ما قلت حقاً، إنه لرأي أريب، ولئن كان باطلاً، إنها لخدعة أديب. قال: فمرني يا أمير المؤمنين. قال: لا آمرك ولا أنهاك، فَقِيْلَ: يَا أَمِيْرَ المُؤْمِنِيْنَ! مَا أَحْسَنَ مَا صَدَرَ عَمَّا أَوْرَدْتَهُ. فقَالَ عمر: لِحُسْنِ مَصَادِرِهِ وَمَوَارِدِهِ جَشَّمْنَاهُ مَا جَشَّمْنَاهُ.

وقد أجمل الذهبي رحمه الله تعالى في “سير أعلام النبلاء” عن معاية على عادته في العدل والإنصاف حينما قال: حَسْبُكَ بِمَنْ يُؤَمِّرُهُ عُمَرُ، ثُمَّ عُثْمَانُ عَلَى إِقْلِيْمٍ – وَهُوَ ثَغْرٌ – فَيَضْبِطُهُ، وَيَقُوْمُ بِهِ أَتَمَّ قِيَامٍ، وَيُرْضِي النَّاسَ بِسَخَائِهِ وَحِلْمِهِ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ تَأَلَّمَ مَرَّةً مِنْهُ، وَكَذَلِكَ فَلْيَكُنِ الملك. وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – خَيْراً مِنْهُ بِكَثِيْرٍ، وَأَفْضَلَ، وَأَصْلَحَ، فَهَذَا الرَّجُلُ سَادَ وَسَاسَ العَالَمَ بِكَمَالِ عَقْلِهِ، وَفَرْطِ حِلْمِهِ، وَسَعَةِ نَفْسِهِ، وَقُوَّةِ دَهَائِهِ وَرَأْيِهِ. وَلَهُ هَنَاتٌ وَأُمُوْرٌ، وَاللهُ المَوْعِدُ. وَكَانَ مُحَبَّباً إِلَى رَعِيَّتِهِ. عَمِلَ نِيَابَةَ الشَّامِ عِشْرِيْنَ سَنَةً، وَالخِلاَفَةَ عِشْرِيْنَ سَنَةً، وَلَمْ يهجه أَحَدٌ فِي دَوْلَتِهِ، بَلْ دَانَتْ لَهُ الأُمَمُ، وَحَكَمَ عَلَى العَرَبِ وَالعَجَمِ، وَكَانَ مُلْكُهُ عَلَى الحَرَمَيْنِ، وَمِصْرَ، وَالشَّامِ، وَالعِرَاقِ، وَخُرَاسَانَ، وَفَارِسٍ، وَالجَزِيْرَةِ، وَاليَمَنِ، وَالمَغْرِبِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ..

أهم صفات معاوية رضي الله عنه

اشتهر معاوية -رضي الله عنه- بصفات كثيرة؛ من أهمها:

العلم والفقه:
ومن المسائل الفقهية التي أُثرت عن معاوية رضي الله عنه:

أُثر عنه -رضي الله عنه- أنه أوتر بركعة. (فتح الباري 7/130).
أُثر عنه -رضي الله عنه- الاستسقاء بمن ظهر صلاحه.
أنه يجزئ إخراج نصف صاع من البر في زكاة الفطر. (زاد المعاد 2/19).
الحلم والعفو:
اشتهر أمير المؤمنين معاوية بصفة الحلم، وكان يضرب به المثل في حلمه -رضي الله عنه- وكظم غيظه وعفوه عن الناس.

ومن صفاته أيضا:

الدهاء والحيلة.
عقليته الفذة وقدرته على الاستيعاب.
التواضع والورع والخشوع.
إحسانه إلى كبار الصحابة في عهده مثل ابن عباس، وابن الزبير، وقد اتهم الشيعة معاوية -رضي الله عنه- بحمل الناس على سب علي ولعنه فوق منابر المساجد، فهذه الدعوة لا أساس لها من الصحة، وكل ما أوردوا فيها من آثار واهية وموضوعة، وفي أكثر أسانيدها رافضة لهم تحامل على الدولة الأموية.

من أعمال معاوية في خلافته

مباشرة معاوية للأمور بنفسه
ومن القواعد التي قامت عليها سياسة معاوية الداخلية مباشرة الأمور بنفسه، وكان -رضي الله عنه- يحرص على معرفة كل صغيرة وكبيرة في دولته، فرغم أنه استعان بأمهر رجال عصره، فإنه لم يكن يكتفي بذلك بل كرّس كل وقته وجهده للدولة ورعاية مصالح المسلمين (العالم الإسلامي في العصر الأموي، ص 117).

حرصه على توطيد الأمن في خلافته

ومن القواعد التي بنى عليها معاوية سياسته الداخلية توطيد الأمن في ربوع العالم الإسلامي، وقد اتخذ معاوية عدة وسائل لتحقيق هذا الهدف، مثل الحاجب، والحرس، والشرطة، وحسن اختيار الرجال والأعوان… واهتمامه ببناء الجيش الإسلامي وتمكينه.

جهاد معاوية رضي الله عنه

جهاده ضد البيزنطيين
كان معاوية -رضي الله عنه- يرى أن الخطر الأكبر من وجهة نظره الدولة البيزنطية، وإن كانت قد خسرت أهم أقاليمها في الشرق (الشام ومصر) وقد حاصر القسطنطينية 7 سنوات، حتى أرهقت البيزنطيين، وأذاقتهم ألوان الضنك والخوف، وأنزلت بهم خسائر فادحة، وبالرغم من كل ذلك لم تستطع اقتحام المدينة أو التغلب على حراسها المدافعين عن أسوارها (العالم الإسلامي في العصر الأموي، ص 351، 252).

الشمال الأفريقي

وقد امتدت حتى المحيط ثم عبرت مضيق جبل طارق، وامتدت إلى إسبانيا (العسيري، موجز التاريخ الإسلامي).

الجناح الشرقي للدولة الأموية

كان المسلمون حتى خلافة عثمان بن عفان -رضي الله عنه- قد أتموا فتح البلاد التي تقع بين العراق ونهر جيحون، وتضم جرجان وطبرستان وخراسان وفارس وكرمان وسجستان، فلما قتل عثمان تعثرت حركة الفتح، وخرج أكثر أهل هذه البلاد عن الطاعة، حتى إذا جاء عهد معاوية -رضي الله عنه- أخذت دولته تبذل جهودا بالغة لإعادة البلاد المفتوحة إلى الطاعة ومد حركة الفتح (دراسة في تاريخ الخلفاء الأمويين، ص 219)، حتى شملت خراسان وبلاد ما وراء النهر وبلاد السند.

من سنن الله في فتوحات معاوية

يلاحظ الباحث في دراسته للفتوحات في عهد معاوية بعض سنن الله في المجتمعات والشعوب والدول؛ ومن هذه السنن:

سنة الله في الاتحاد والاجتماع
كانت الفتنة التي أدت إلى استشهاد عثمان -رضي الله عنه- أكبر معوق أصاب حركة الفتوحات بعد الردة أيام أبي بكر رضي الله عنه، واتجهت الأمة الإسلامية إلى الوقوع في فتنة لا نهاية لها لولا أن تداركتها رحمة الله -سبحانه وتعالى- بصلح الحسن بن علي مع معاوية رضي الله عنه.

سنة الأخذ بالأسباب
ويظهر أخذ معاوية -رضي الله عنه- بسنة الأخذ بالأسباب في اهتمامه ببناء الأسطول البحري وتطويره، وتقوية الجيش، والقضاء على الفتن الداخلية، ودعم الثغور، وأماكن الرباط، والتخطيط الإستراتيجي للدولة في سياستها الداخلية والخارجية.

سنة الله في الظالمين
وقد مارست الدولة الفارسية الظلم على رعاياها وتمردت على منهج الله، فمضت فيها سنة الله، وسلط الله عليها المسلمين فأزالوها من الوجود، (السنن الإلهية في الأمم والجماعات والأفراد، ص 119 ـ 121)، وكذلك نفوذ الدولة البيزنطية من الشام ومصر، وتزعزع وجودها في الشمال الأفريقي، وما جاء عهد الوليد بن عبد الملك حتى زال نفوذها من الشمال الأفريقي كلياً.

وفاة معاوية رضي الله عنه

قال الطبري “في هذه السنة (60 للهجرة)، مات معاوية بن أبي سفيان بدمشق، فاختلف في وقت وفاته بعد إجماع جميعهم على أن موته كان في سنة 60 من الهجرة وفي شهر رجب” (تاريخ الطبري 6/245).

وقال ابن حجر “مات معاوية في رجب سنة 60 على الصحيح” (الإصابة 6/155).

وصلى على معاوية الضحاك بن قيس الفهري، وكان يزيد غائبا حين مات معاوية، فقد خرج الضحاك حتى صعد المنبر وأكفان معاوية على يديه تلوح، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال “إن معاوية كان عود العرب، وحدّ العرب، قطع الله -عز وجل- به الفتنة وملَّكهُ على العباد، وفتح به البلاد. ألا إنه قد مات، فهذه أكفانه فنحن مدرجوه فيها، ومدخلوه قبره، ومُخَلُّون بينه وبين عمله، ثم هو البرزخ إلى يوم القيامة، فمن كان منكم يريد أن يشهده فليحضر عند الأولى”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock