هناك من يكتب بمداد قلمه، وهناك من يكتب بدماء قلبه، هناك من يكتبُ للقضية، وهناك من تكتبه القضية. وأظن الثائر المناضل علي مهدي الشنواح ــ رحمه الله ــ من هؤلاء الرجال الأفذاذ الذين كتبوا بمداد القلب، وحركتهم الأعاصير وجدانيا قبل أن تستثيرهم سياسيا.
علي مهدي علوي الشنواح، المولود عام 1936م في منطقة حريب التابعة يومها للواء البيضاء، والتي تتبع اليوم محافظة مارب، تلقى تعليمه الأولي في كتاب القرية أولا، بما تيسر لها آنذاك، ثم تنقل بصحبة والده، بحثا عن الرزق، كعادة اليمنيين في تلك الفترة وإلى اليوم، فلا يزال التنقل والاغتراب همهم واهتمامهم الأول، وكلما تغولت الإمامة أكثر كلما زاد هذا الهم أكثر. وقد أطلق عليه الرئيس سالم ربيع علي لقب “شاعر الجياع”.
كان الرجل واحدًا من أبناء الشعب الذين ذاقوا مرارة البؤس والحرمان أيام الإمامة الكهنوتية الطغيانية إلا أنه لم يخضع لنير العبودية، ولم يستكن لسوط الجلاد، كما فعل البعضُ ممن خضعوا للنير، واحتكموا للسوط. فثار وقاوم بالكلمة والبندقية معا.. ربما ساهمت البيئة في صناعة شخصيته، وربما كان للثقافة والنبوغ السياسي المبكرين دور في ذلك، وربما الأمران معا مجتمعين؛ علما أنه ينتمي إلى أسرة شاعرية بكاملها، رجالا ونساء، فأبوه شاعر، وأمه شاعرة، وأخته الكبيرة شاعرة، هذا إضافة إلى تأثره الشعري بالشيخ الشاعر علي ناصر القردعي، والشاعر زبين الحداد. وتأثره كذلك بفن الحداء والزجل وشعر الزوامل، وللزامل عند القبائل شأن وشأو.
نضاليا ينتمي الشنواح إلى المدرسة القردعية، حماسة، وعزما، وإصرارا، وفوق هذا نفس أبية تأبى الضيم، وترفض الاستكانة، كما ينتمي شعره إلى رحم القضية التي تسكنه فارتبط بها في معظمه، وهو الشأن مع أغلب قبائل “المشرق” التي قاومت الإمامة باستماتة.
سجنه عامل الإمام في حريب عام 1953م، في قلعة حريب، لتمرده عن مراسيم الطاعة الإمامية في الانحناء وتقبيل ركبة العامل، وبعد فترة أطلق سراحه، فاتجه بعد ذلك إلى المملكة العربية السعودية، تحسبا من سجن قادم قد يتعرض له، وأيضا لطلب الرزق، وقد أشار إلى هذه الواقعة في واحدة من قصائده التي كتبها مؤخرا، بعنوان: “الأقنان والعواصف”:
سافر حيثما ترزق
سئمنا نفرش القُبلات في ديوان سيِّدنا
سئمنا نقذف الآهات في أطراف ركبته
نقبِّلها
كفى سئمت من القُبلات
وفي المهجر إلى جانب أعماله الخاصة، واصل دراسته في إحدى المدارس الليلية في المملكة العربية السعودية، كما مارس الكتابة لبعض الصحف هناك أيضا حتى رجع؛ حيث عمل في صحيفة “الأيام، محررًا، ثم في صحيفة “قريش”، فسكرتيرًا لتحريرها، وواصل عطاءه الابداعي والثقافي والصحفي في صحيفتي المدينة والبلاد، وفي إذاعة مكة وغيرها.
إنه الثائر المتمرد على مراسيم الطاعة وتقبيل الركب، والخنوع للظالمين، مثله مثل المناضل الشاعر صالح سحلول.
ففي الوقت الذي يقول سحلول:
ان كنت تحني للطغاه جبهتك
ما أسخفك ما أقل عقلك
ان كان حباب الركب مطلبك
حبب ركب واقدام أمك
لا بارك الله في الذي علمك
حباب ركب من لا يحبك
يقول الشنواح بنفس الروح المتمردة:
يا جياع الأرض، ردّوا حقّكم من سارقيهْ
خبزكم لا زال في صحن الملاعين عجينهْ
كم قروناً نزعوه، فانزعوه اليوم حينهْ
أيَّتها الثكلى الحزينهْ
يا فقيراً وسط أكواخ حزينهْ
يا فقيراً في المدينهْ
أنت ربَّان السفينهْ
يا جياع الأرض ردّوا حقّكم من ناهبيهْ.
كان من مناضلي ثورة السادس والعشرين من سبتمبر 62م التي التحق بركبها للوهلة الأولى، وفيها تغنى وأنشد:
أيا أنشودة طلعت مع فجر الليالي السود
وكان نشيدها صوتا
يهزُّ الصمت والجلمود
وكان دويها في السمع،
أمضى من هدير البحر والبارود
أولها تقاسيم بصوت العود:
أهلا ابننا المفقود
أهلا أيها المولود
أيا لحنا كتبناه بماء الدم في الأوراق
أيا لحنا قرأناه على الفقراء في الآفاق
أيا لحنا سكبنا حين غنى الجوع والأشواق
أيا لحنا حملناه على الأعناق
أيا من أخرستك أيادي الأبواق
والعملاء والسراق
قلها أيها الخلاق
يا سبتمبر العملاق
لتندحر العمالة واللصوصية
وتسقط من على الأرض العبودية
وتنكسر القيود السود
والعقب الحديدية
تعرض الشاعر الثائر المناضل علي مهدي الشنواح للاغتيال في منطقة الحجلا بالجوف، في العام 1965م من قبل بعض عناصر الثورة المضادة في المنطقة آنذاك، من أتباع محمد بن الحسين يومها، فأصيب هو واستشهد بعض رفاقه في هذا الكمين. وفي أواخر العام 1965م عند دخول مليشيات الإمامة إلى مدينة حريب تم اقتحام منزله ونهب كل ما فيه، وإحراق ما تبقى من محتويات المنزل، بما في ذلك مكتبته العامرة، والمكتبة هي أنفس وأعز ما في نفس أي مثقف أو أديب.
يا نكهة البن اليماني اقبريني في شفاهك
ومعي وجهي ومائي والحطب
من أجل أن يبقى اليمن وبداخله
لون الهوية للجديد
وللجديد المرتقب
يا أنت يا سبتمبر الصوت المدوي والبشير
يا أنت يا أكتوبر الماء والمصير
يا أنت يا نوفمبر الولد الكبير
إنها روح متقدة بالنضال والكبرياء، تجلت أكثر في آخر محطات القتال الميدانية في حروب السبعين بصنعاء، بعد أن صدح عاليا بشعار: “الجمهورية أو الموت” وتلقفه من بعده طلبة المدارس والضباط الصغار وكل فصائل المقاومة التي لعبت أدورا بطولية عظيمة يومها. فقد كان المناضل الشنواح ينظم القصائد ويكتب المقالات السياسية ويلهب الجماهير بالخطب، بروح ملؤها الكبرياء والثقة بالنصر، لا في الشطر الشمالي من الوطن يومها فحسب؛ بل حتى في جنوب الوطن الذي اتجه إليه بعد ذلك، وعمل من داخل صفوف الجماهير ضد الظلم والقهر والعبودية. وقد أشار المناضل المرحوم جار الله عمر في مذكراته إلى الدور البطولي والنضالي للشاعر علي مهدي الشنواح في حرب السبعين. وخلال فترة نهاية الستينيات عمل في صحيفة الثورة، كما كتب المقالات السياسية ونظم القصائد الشعرية المواكبة للمرحلة.
أنا من أنضج الخبز الجميل- على لهيب القلب زيتونا
وأسقيت الحقول لترتوي دما الشرايينا
وتحت ضلوعي الصفراء آويت الملايينا
نظرا لأدواره النضالية ومواقفه الوطنية فقد تم تكريمه بعد وفاته في مهرجان يوم الأديب اليمني الذي أقامته في عدن منظمة الأمانة العامة لاتحاد الكتاب في اليمن خلال الفترة من 27- 29 أكتوبر 2007م ضمن 73 شخصية أدبية أخرى. كما تم تكريمه من قبل اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين بصنعاء مطلع العام 2015م. بعد سنوات طويلة على وفاته في بيحان بشبوة في نوفمبر 1985م.
د. ثابت الأحمدي
