يتناول هذا المقال بعمق كلمة حسبي الله سيؤتينا الله من فضله ، للأستعاذة من زوال النعم ومفاجآت القدر، ثم يربطه بتفسير آية عظيمة من سورة التوبة: (حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله). يستكشف المقال كيف أن الرضا بما قسمه الله والقناعة بعطائه هما جوهر الغنى الحقيقي، ويقدم رؤى قيمة حول كيفية تحقيق سلامة الصدر، ونبذ الأحقاد، وجلب المودة من خلال الرغبة الصادقة فيما عند الله والعمل الصالح.
من هدي النبوة: استعاذة جامعة ورضا بالقدر
أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: كان من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ وَفُجَاءَةِ نِقْمَتِكَ وَجَمِيعِ سَخَطِكَ». إن هذا الدعاء النبوي العظيم يلخص مخاوف الإنسان الفطرية من فقدان الخير وحلول الشر. وفي سياق متصل، يأتي قول الله تعالى في سورة التوبة ليقدم لنا منهجًا قويمًا للتعامل مع العطاء والمنع، وهو الرضا بما قسمه الله والتطلع إلى فضله: {وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِن لَّمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} [التوبة: 58-59].
الرضا بما أتى: حسبي الله سيؤتينا الله من فضله
يوضح لنا الحق تبارك وتعالى في الآية الكريمة حال بعض المنافقين الذين كانوا يعيبون النبي صلى الله عليه وسلم في توزيع الصدقات. فكانوا يرضون إذا نالوا منها حظًا، ويسخطون إذا لم يُعطوا. ولو أن هؤلاء القوم رضوا بما قسمه الله لهم على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: حسبنا الله، أي كافينا الله، فإنه سيعطينا من فضله، لكان ذلك خيرًا لهم وأهدى سبيلاً. فالرضا بما قسمه الله هو أساس الطمأنينة وراحة البال، وهو علامة التسليم لحكمته وعلمه. وعندما يرضى العبد بما قدر له، فإنه يستشعر غنى النفس، الذي هو أعظم من غنى المال.
قال أبو جعفر: “ولو أن هؤلاء الذين يلمزون محمدًا في الصدقات رضوا بما أعطي لهم وما قسمه الله لهم وقالوا كافينا الله؛ لأعطاهم الله تعالى من فضله”. وذلك لأن الله يعطي الإنسان من الفضل من خزائنه، ورسوله من الصدقة وغيرها، وتمنوا أن يوسع الله عز وجل عليهم من فضله، فيغنيهم الله عن حاجتهم إلى الصدقة وعن سؤالهم وعن غيرها من صلات الناس والحاجة إليهم. ولو أنهم انقطعوا إلى الله، وسلموا أمرهم إليه، ورضوا بحكمة الله عز وجل لكان خيرًا لهم وأهدى سبيلا، وهذا هو الموقف الذي يتبعه المسلم في حال البذل والعطاء وفي حالة المنع.
قيمة الرضا في حياة المؤمن: سعادة وأثر
إن الرضا بما قسمه الله تعالى يورث الإنسان غنى في قلبه، وسعادة في حياته، وبركة في رزقه. وهذا هو منطق القرآن الكريم. فكثير من جيل الصحابة الأول لم يكونوا من أصحاب الأموال الطائلة أو المساكن الفارهة، ولكنهم كانوا أغنى الناس نفوسًا، وأكثرهم سعادة وأثرًا في الحياة. لقد وجهوا حياتهم في سبيل الله، فبارك الله في أقوالهم وأعمالهم ومواهبهم، وأعطاهم الله من فضله ما لم يخطر ببال.
في المقابل، هناك أصناف من الناس أنعم الله عليهم بالأموال والأولاد، فكان ذلك سببًا لشقائهم وتعاستهم، وانحرفوا عن طريق الحق. وهذا دليل على أن كثرة النعم الظاهرة ليست دائمًا علامة على الصلاح أو الفوز. فكم من شخص يملك شهادات عليا ولكنه قليل العطاء والفهم، وكم من شخص علمه محدود ولكنه جعله نهرًا دافقًا بالنفع والإصلاح والإعمار.
إن الإيمان بمقتضى حسبي الله سيؤتينا الله من فضله يجعلك ترضى بما قسمه الله، بحيث لا يرى العبد لنفسه سخطًا، هي أعلى الدرجات التي يصل إليها العبد. ويكون رضاه حقيقة عندما يرى نفسه فانيًا، ويعلم أن نفسه وصفاته تتلاشى في وجود مولاه الواحد الحق. فيغيب برضا ربه عن رضاه هو، ويصير هو كالعدم المحض، فيرضى بما قسم الله له، ويعلم أنه غير مخير، وأن الخيرة بيد الله الواحد الحق جل في علاه.
الرغبة فيما عند الله: طريق سلامة الصدر وجلب المودة
إن الرغبة الصادقة فيما عند الله من الأجر والثواب هي من أعظم الأسباب التي تعين على سلامة الصدر، وتذهب الأحقاد، وتجلب المودة بين الناس. قال تعالى: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134]. فمن كظم غيظ قلبه وهو قادر على إنفاذه، له أجر عظيم من الله تعالى. والصبر على الأذى فيه خير كثير يعود على صاحبه في الدنيا والآخرة؛ لأنه قد رغب فيما عند الله عز وجل.
بينما نجد بعض الناس لديهم رغبة في العلم وعزوف عن العمل. فتراهم عندما يجلسون في مجلس علم يرغبون في المزيد، وعندما يغادرون ينسون ما قالوا. والعلم حجة على صاحبه إذا ترك العمل به. فما يعمله الإنسان يجده ولو مثقال ذرة. فالعلم تطبيق وليس مجرد علم نظري. والرغبة في ما عند الله عز وجل تقتضي العمل بالعلم والانشغال بطاعة الله عز وجل في صغائر الأمور وكبائرها.
تفسير الأية حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِن فَضْلِهِ
وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59)
التفسير الميسر
ولو أن هؤلاء الذين يعيبونك في قسمة الصدقات رضوا بما قسم الله ورسوله لهم، وقالوا: حسبنا الله، سيؤتينا الله من فضله، ويعطينا رسوله مما آتاه الله، إنا نرغب أن يوسع الله علينا، فيغنينا عن الصدقة وعن صدقات الناس. لو فعلوا ذلك لكان خيرًا لهم وأجدى.
تفسير ابن كثير
وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ|||
ثم قال تعالى منبها لهم على ما هو خير من ذلك لهم ، فقال : ( ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون ) فتضمنت هذه الآية الكريمة أدبا عظيما وسرا شريفا ، حيث جعل الرضا بما آتاه الله ورسوله والتوكل على الله وحده ، وهو قوله : ( وقالوا حسبنا الله ) وكذلك الرغبة إلى الله وحده في التوفيق لطاعة الرسول وامتثال أوامره ، وترك زواجره ، وتصديق أخباره ، والاقتفاء بآثاره .
تفسير ابن جرير الطبري
وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ|||
القول في تأويل قوله : وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59)
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولو أنّ هؤلاء الذين يلمزونك، يا محمد، في الصدقات، رضَوا ما أعطاهم الله ورسوله من عطاء، وقسم لهم من قسم =(وقالوا حسبنا الله)، يقول: وقالوا: كافينا الله, (22) =(سيؤتينا الله من فضله ورسوله)، يقول: سيعطينا الله من فضل خزائنه، ورسوله من الصدقة وغيرها (23) =(إنا إلى الله راغبون)، يقول: وقالوا: إنا إلى الله نرغب في أن يوسع علينا من فضله, فيغنينا عن الصدقة وغيرها من صلات الناس والحاجة إليهم.
في تفسير الطبري : القول في تأويل قوله : وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59)
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولو أنّ هؤلاء الذين يلمزونك، يا محمد، في الصدقات، رضَوا ما أعطاهم الله ورسوله من عطاء، وقسم لهم من قسم =(وقالوا حسبنا الله)، يقول: وقالوا: كافينا الله, (22) =(سيؤتينا الله من فضله ورسوله)، يقول: سيعطينا الله من فضل خزائنه، ورسوله من الصدقة وغيرها (23) =(إنا إلى الله راغبون)، يقول: وقالوا: إنا إلى الله نرغب في أن يوسع علينا من فضله, فيغنينا عن الصدقة وغيرها من صلات الناس والحاجة إليهم.
صحة دعاء حسبنا الله سيؤتيني الله من فضله إنا إلى الله راغبون
ورد في موقع اسلام ويب في قسم الفتاوى الرد على السؤال التالي::
ما صحة هذا الدعاء: حسبنا الله سيؤتيني الله من فضله إنا إلى الله راغبون؟
الإجابــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فان هذه الجملة جزء من الآية الكريمة : وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ {التوبة:59}، ولا حرج في الاقتصار على قولنا سيؤتينا الله من فضله لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يتوقع منه عطاء الآن.
الخاتمة: كن لله كما يريد يكن لك فوق ما تريد
إن الاستعاذة بالله من زوال النعم ومفاجآت القدر، مقرونة بالرضا بما قسمه الله والسعي الصادق لطلب فضله، أن كلمة حسبي الله سيؤتينا الله من فضله هي سبيل المؤمن الحق في هذه الحياة. فلنكن من الذين يقولون بصدق: {حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ}. اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك، وفجاءة نقمتك، وجميع سخطك. اللهم اجعلنا من الراضين بقضائك، الساعين لمرضاتك، الراغبين فيما عندك
مواضيع ذات صلة:
مراجع :