محمد احمد الطالبي
في مجتمعٍ أنهكته الأزمات وتراكمت عليه الجراح، يعيش المواطن العادي تحت وطأة القهر المعيشي وضيق الحال، فكيف بجرحى الجيش الذين خرجوا ذات يوم حاملين أرواحهم على أكفّهم من أجل الدفاع عن وطنٍ يتسع للجميع؟ هؤلاء الأبطال، الذين قدّموا من أجسادهم ما يعجز اللسان عن وصفه، يعودون اليوم إلى واقعٍ مليء بالتحديات، يواجهون الألم والعجز في ظل غياب أبسط مقومات الرعاية والاهتمام.
جرحى الجيش ليسوا مجرد أرقام في سجلات، ولا حالات تحتاج إلى صدقاتٍ موسمية أو تعاطفٍ عابر، بل هم رمزٌ للتضحية الحيّة التي ينبغي أن تُقابل بالعرفان الدائم والاعتراف بالجميل. لقد سالت دماؤهم في سبيل بقاء هذا الوطن، وتخلّوا عن راحتهم وأحلامهم من أجل أمن الآخرين، فكيف يُتركون اليوم يصارعون المرض والفقر وحدهم؟
إن العدالة الاجتماعية لا تُقاس فقط بسنّ القوانين أو بإلقاء الخطب، بل تُقاس بمدى رعاية الدولة والمجتمع لمن ضحّوا بأغلى ما يملكون. فحق الجرحى ليس منّةً من أحد، بل التزامٌ أخلاقي وقانوني، وواجبٌ وطني ينبغي أن يعلو فوق كل اعتبار سياسي أو إداري. هؤلاء لم يطلبوا امتيازًا، بل حياةً كريمة تحفظ كرامتهم وتؤمّن مستقبل أسرهم التي دفعت هي الأخرى ثمنًا باهظًا من الخوف والحرمان.
من المؤلم أن يتحوّل بطل الأمس إلى متسولٍ اليوم، أو أن يُترك في طوابير المستشفيات ينتظر الدواء والمساعدة. ومن المخزي أن يُعامل الجريح كما لو كان عبئًا على الدولة، لا ركيزة من ركائزها. فالمسؤولون الكبار الذين يتنعمون اليوم بالمناصب والأمان، ما كانوا ليصلوا إلى مواقعهم لولا تضحيات أولئك الرجال الذين وقفوا في وجه الخطر حين تراجع الآخرون.
إن رعاية جرحى الجيش واجبٌ إنساني قبل أن يكون واجبًا وطنيًا، وحقّهم في العلاج والدعم النفسي والاجتماعي والاقتصادي لا يحتمل التأجيل أو التذرع بالأوضاع. فالإهمال في حقهم ليس مجرد تقصير إداري، بل جريمة أخلاقية ضد قيم العدالة والإنسانية.
ينبغي أن يُعاد النظر في السياسات والبرامج المخصصة لهم، وأن تُنشأ مؤسسات فعالة تُعنى بتأهيلهم ودمجهم في الحياة العامة، وتوفر لهم ولأسرهم سبل العيش الكريم. كما يجب أن يُستمع إلى أصواتهم لا بوصفهم مستفيدين، بل أصحاب حقٍّ وكرامة.
فالوفاء الحقيقي لا يُكتب في البيانات الرسمية، بل يُترجم في رعاية الجريح، ومداواة ألمه، وضمان مستقبل أبنائه. إن جرحى الجيش هم مرآة صدقنا مع ذواتنا، وامتحان ضميرنا الجمعي، فإما أن نرتقي بإنسانيتنا فنمنحهم ما يستحقون، وإما أن نبقى أسرى شعارات جوفاء لا تصمد أمام جرحٍ مفتوح وكرامةٍ منسية.
