تغلب بن حلوان : سيرة قبيلة عريقة ونسبٌ ضارب في أعماق التاريخ

تغلب بن حلوان، اسمٌ يتردد صداه في سجلات الأنساب والتاريخ العربي، ليس مجرد شخصية، بل هو جدٌّ أصيل لقبيلة قضاعية عريقة، تركت بصمات واضحة في مسيرة الجزيرة العربية والشام والعراق على مر العصور. هذه القبيلة، التي تُنسب إلى قضاعة بن معد بن عدنان، مثّلت نموذجًا للانتشار والتأثير، وشكّلت جزءًا حيويًا من النسيج الاجتماعي والسياسي للمنطقة في فترات تاريخية مختلفة. من ديارها الأصلية في نجد، إلى امتداد نفوذها شمالًا نحو دومة الجندل ثم إلى الفرات، كانت تغلب بن حلوان شاهدة على تحولات حضارية ودينية، حيث اعتنق بعض أفرادها الديانة المسيحية، مما يعكس انفتاحها وتفاعلها مع المحيط الثقافي آنذاك.
جذور تغلب بن حلوان في شجرة قضاعة
تُعدّ معرفة الأنساب ركيزة أساسية لفهم تاريخ القبائل وتوزعها، وفي سياق تغلب بن حلوان، يتضح هذا الأمر جليًا. تعود أصول هذه القبيلة إلى: تغلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة بن معد بن عدنان. هذا التسلسل النسبي يضعها ضمن إطار القبائل العدنانية الكبرى، التي تُعرف بعراقتها وأصالتها في شبه الجزيرة العربية. إن انتسابها إلى قضاعة يعطيها ثقلاً تاريخيًا ويُبرز مكانتها بين القبائل العربية التي لعبت أدوارًا محورية في تشكيل الحضارة العربية والإسلامية.
بطون تغلب بن حلوان
تتفرع من تغلب بن حلوان بطون عديدة، مثّلت كل منها فرعًا حيويًا يساهم في تعزيز نسيج القبيلة وتوسعها. يُعد وبرة بن تغلب أحد أبرز أبناء تغلب بن حلوان، حيث أنجب بدوره قبائل ضخمة وذات شأن، فكان له دور محوري في امتداد نسل القبيلة وانتشارها. ومن أبرز البطون المتفرعة من تغلب بن حلوان عبر وبرة بن تغلب نذكر:
- بنو كلب بن وبرة بن تغلب بن حلوان: من أشهر وأقوى بطون تغلب، وكان لهم حضور واسع في الشام والعراق، ولعبوا أدوارًا سياسية وعسكرية هامة.
- بنو النمر بن وبرة بن تغلب بن حلوان: بطن آخر ذو ثقل، انتشرت فروعه في مناطق متفرقة.
- بنو أسد بن وبرة بن تغلب بن حلوان: كان لهم حضورهم الخاص، ومنهم من اندمج في تحالفات قبلية أخرى كـ “تنوخ”.
- بنو منقذ من كلب بن وبرة بن تغلب بن حلوان: هؤلاء هم الذين أسسوا إمارة بني منقذ الشهيرة في شيزر، والتي سنتطرق إليها لاحقًا بتفصيل.
هذه البطون لم تكن مجرد أسماء في كتب الأنساب، بل كانت كيانات اجتماعية وسياسية فعّالة، تحركت وتفاعلت مع الأحداث التاريخية، وأسهمت في تشكيل خريطة المنطقة في عصور ما قبل الإسلام وبعده.
ديار تغلب بن حلوان : رحلة الهجرة والاستقرار
تاريخ تغلب بن حلوان هو تاريخ حركة وهجرة واستقرار. في الأصل، كانت ديارهم تقع في منطقة نجد بقلب الجزيرة العربية. ولكن، كما جرت العادة مع العديد من القبائل العربية، دفعتهم الظروف أو البحث عن الموارد إلى الانتقال والانتشار. ففي القرن الثالث الميلادي، بدأت بطون من تغلب بن حلوان بالتحرك شمالًا باتجاه العراق.
استقروا في مناطق شمال الحيرة، على ضفاف نهر الفرات بالجزيرة الفراتية. ومن أبرز المناطق التي سكنوها بعد ذلك: الثرثار، وهي منطقة تقع بين سنجار وتكريت، وكذلك بين الموصل في العراق وحلب في سوريا. هذا التوسع الجغرافي يدل على قوة القبيلة وقدرتها على بسط نفوذها في مناطق جديدة.
يشير ابن الأثير إلى أول ذكر تاريخي لهم في حادثة مع الملك الفارسي سابور ذو الأكتاف، مما يؤكد حضورهم المبكر في الساحة السياسية للمنطقة. ويُعلق المؤرخ جواد علي على ديارهم قائلًا:
“ويرى أهل الأخبار أن قبيلة تغلب بن حلوان مثل سائر قبائل قضاعة كانت تسكن في الأصل في اليمن، ثم انتشرت فنزلت الحجاز ونجد والبحرين، زحفت نحو الشمال حتى بلغت أطراف الجزيرة، فسكن قوم منها جهات سنجار بين الموصل إلى رأس عين ونصيبين ودنيسر والخابور وما بين هذه المدن والقرى. وقد انتشرت بطون تغلب بن حلوان في الثرثار، بين سنجار وتكريت.”
هذا النص يوضح مسار هجرتهم من الجنوب إلى الشمال، وتمركزهم في منطقة الجزيرة الفراتية ذات الأهمية الاستراتيجية. ويروي أهل الأخبار أن أول من نزل بطون تغلب بن حلوان في الجزيرة الفراتية هو علقمة بن سيف بن شرحبيل، الذي قاتل أهل الجزيرة حتى غلبهم، وأنزل قومه بها.
تُشير الروايات التاريخية أيضًا إلى أن اتصال تغلب بن حلوان بالروم وبنصارى العراق والجزيرة وبلاد الشام قد أدى إلى دخول قسم منهم في الديانة النصرانية، كمعظم القبائل التي دخلت العراق وبلاد الشام، مما يجعلهم من القبائل المتنصرة. هذا التنوع الديني يعكس مرونة القبيلة وقدرتها على التكيف مع التغيرات المحيطة بها.
إمارة بني منقذ: شيزر وقلعتها الشامخة
ضمن بطون تغلب بن حلوان، برزت إمارة بني منقذ ككيان سياسي مستقل ذي شأن كبير. يُعدّ علي بن مقلد بن نصر (جد أسامة بن منقذ، المؤرخ والكاتب الشهير) المؤسس الحقيقي لهذه الإمارة. فقد استرد شيزر من الروم (البيزنطيين) عام 474هـ/1081م، وجعلها مقرًا لإمارته التي ظلت قائمة وقوية حتى عام 552هـ/1157م.
كانت شيزر قلعة حصينة ومركزًا استراتيجيًا، لعبت دورًا مهمًا في مقاومة الحملات الصليبية. ولكن القدر كان له كلمة أخرى. ففي عام 552هـ/1157م، بينما كان أمير شيزر محمد بن سلطان يقيم حفلاً يضم أفراد الأسرة الحاكمة ووجهاء الإمارة، انهارت عليهم جدران القلعة بشكل مفاجئ نتيجة لزلزال كبير ضرب المنطقة. هذا الزلزال المدمر قضى على جميع من كان داخل القلعة، لينهي بذلك فصلًا مهمًا في تاريخ إمارة بني منقذ، ويترك وراءه إرثًا من الشجاعة والمقاومة.
تغلب بن حلوان وتميزها عن “تغلب ربيعة”
من المهم التمييز بين تغلب بن حلوان و”بني تغلب من ربيعة”، وهما قبيلتان تحملان اسم “تغلب” ولكن تنتميان إلى نسبين مختلفين. تغلب بن حلوان، كما ذكرنا، هي قبيلة قضاعية تعود إلى قضاعة بن معد بن عدنان. في المقابل، “بنو تغلب من ربيعة” هي قبيلة ربيعية تنتمي إلى تغلب بن وائل بن قاسط بن هنب بن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان. كلا القبيلتين كان لهما شأن في التاريخ العربي، ولكن تختلف ديارهما وأعلامهما وأحداثهما التاريخية. هذا التمييز ضروري لتجنب اللبس في الدراسات التاريخية والأنساب.
أعلام من تغلب بن حلوان
أنجبت قبيلة تغلب بن حلوان العديد من الشخصيات الباريخة التي أثرت في مختلف مجالات الحياة، من السياسة والأدب إلى الحرب والدين. هذه الشخصيات ساهمت في بناء حضارة المنطقة، وخلدت أسماءهم في سجلات التاريخ:
- الملكة ماوية: زعيمة قبيلة عربية مسيحية من تغلب، قادت ثورة ضد الإمبراطورية الرومانية في القرن الرابع الميلادي.
- عصم بن النعمان: شخصية بارزة من تغلب بن حلوان.
- مالك بن طوق: القائد المعروف، الذي تُنسب إليه مدينة الرحبة الشهيرة.
- القرثع: من الشخصيات التي ذكرتها المصادر التاريخية.
- عطية بن عبد الحمان: له ذكر في كتب الأنساب والتاريخ.
- الشاعر الأخطل (غياث بن غوث): أحد فحول شعراء العصر الأموي، اشتهر بمدح الأمويين وهجاء القبائل الأخرى، وكان من أشهر شعراء النصرانية.
- النعمان بن زرعة: من رجالات القبيلة المعروفين.
- صاحب السند (هشام بن عمرو بن بسطام): قاد فتوحات إسلامية وأسهم في توسيع الدولة.
- عتبة بن الوغل بن عبد الله: من الأسماء التي برزت في التاريخ.
- أثير بن قرفة بن عمرو: له حضوره في بعض الروايات.
- عبد يوشع بن حرب بن معدي كرب: شخصية ذات أهمية.
- الشاعر القطامي (عمرو بن شييم): شاعر آخر من تغلب بن حلوان، له إسهامات شعرية.
- حنظلة بن قيس بن هوبر بن ثعلبة بن عمرو: من أعلام القبيلة.
- ناشرة بن أغواث بن قعين بن مالك: له ذكره في الأنساب.
- الشاعر كعب بن جعيل بن قمير بن عجرة: من شعراء القبيلة.
- عميرة بن جعل بن عمرو بن مالك: من الشخصيات المهمة.
- الهذيل بن هبيرة بن قبيصة: شخصية ذات تأثير.
- الوليد بن طريف بن عامر: من الشخصيات التي برزت.
- شعيب بن مليل: له مكانته في تاريخ القبيلة.
- معبد بن حنش بن مالك: من أعلام تغلب.
- ليلى بنت طريف بن عامر: شخصية نسائية بارزة.
- أعشى قضاعة (ابن بن نجوان بن أسود): شاعر من قبيلة قضاعة.
- حمدان بن حمدون: مؤسس الدولة الحمدانية.
تغلب بن حلوان: الأصل والفروع والارتباط بقبائل الدواسر
كما أشرنا سابقًا، فإن تغلب بن حلوان ليس اسم قبيلة بحد ذاته، بل هو شخصية محورية في علم الأنساب، فهو الجدّ الذي تُنسب إليه قبيلة تغلب القضاعية بأكملها. يُعدّ هو نفسه من نسل عمران بن الحاف بن قضاعة. من أبناء تغلب بن حلوان برز وبرة، الذي أنجب بدوره فروعًا قبلية ضخمة ومهمة، منها: - أسد بن وبرة: ومنهم بطون مثل تيم الله وشيع الله. تيم الله ولد فهم، وهم من تنوخ. بينما شيع الله ولد جسر، ومن جسر تفرعت قبيلة القين بن جسر، التي كان لها جمع عظيم وثروة في الشام، لكنها ضعفت لاحقًا. من القين، تميم بن زيد الذي غزا الهند، وأبو عبد الرحمن ذو الشكوة الذي قاتل يوم أجنادين.
- النمر بن وبرة: ولد التيم، وجعثمة، ووائل (خشين)، وفتيّة (دخلوا في بني تغلب)، وغاضرة، وعانية (دخلوا في بني سليم بن منصور).
- كلب بن وبرة: وهو أحد أكبر بطون تغلب، وله مكانة تاريخية كبيرة.
وهناك أيضًا بطون أخرى مثل: - البرك بن وبرة بن تغلب بن حلوان: منهم الصحابي الجليل عبد الله بن أنيس بن أسعد، الذي يُعتبر من جلة الصحابة، مهاجريًا أنصاريًا وعقيًا.
- الثعلب بن وبرة بن تغلب بن حلوان: ولد عامر، وعداده في كلب.
تتضح أهمية تغلب بن حلوان في كونه حلقة وصل أساسية في سلسلة النسب لقبائل تغلب القضاعية. من أبرز هذه البطون التي لا تزال موجودة في العصر الحديث، نجد مجموعة تُعرف باسم تغالبة الدواسر. هؤلاء يُعتقد أنهم بقية من نسل تغلب بن حلوان، ويقيمون اليوم في وادي الدواسر بالمملكة العربية السعودية. هذا الارتباط يعزز من مكانة تغلب بن حلوان كجدّ أصيل لقبائل لها امتداد تاريخي وجغرافي واسع.
يمثل تغلب بن حلوان نقطة انطلاق لرحلة تاريخية شيقة، كاشفًا عن أصالة قبيلة امتدت جذورها عميقًا في تراب الجزيرة العربية، وشهدت تحولات كبرى، وخلفت وراءها إرثًا غنيًا من الأحداث والشخصيات التي أسهمت في بناء الحضارة العربية والإسلامية. إن دراسة نسب تغلب بن حلوان وبطونها المتفرعة تمنحنا نافذة فريدة على ديناميكية القبائل العربية وقدرتها على البقاء والتأثير على مر العصور.