تمثل القبيلة في الكويت حجر الزاوية في البنية الاجتماعية والنسيج السياسي للدولة منذ نشأتها وحتى العصر الحديث. فهي ليست مجرد انتماء تاريخي أو روابط نسب فحسب، بل هي كيان حيوي ديناميكي، يتفاعل مع التحولات المجتمعية والسياسية والاقتصادية، محافظًا على جوهره مع متطلبات العصر. تُشكل القبائل نسبة هائلة تصل إلى حوالي 52% من المواطنين الكويتيين (وفقًا لإحصائية الناخبين عام 2008)، مما يجعلها مكونًا أساسيًا لا يمكن تجاهله في فهم أي ظاهرة كويتية، اجتماعية كانت أم سياسية.
الجذور التاريخية: أصول متشعبة في عمق الجزيرة العربية
تعود أصول القبائل الكويتية إلى شتى أنحاء شبه الجزيرة العربية، مما يعكس طبيعة الكويت كمركز تجاري وحضري جاذب عبر القرون. ينحدر جزء كبير من هذه القبائل من أصول تعود إلى:
- قبائل حمير: القبائل اليمنية العريقة ذات التاريخ الحضاري.
- قبائل قحطان: المجموعة القبلية الكبرى في جنوب وغرب الجزيرة العربية.
- قبائل عدنان: المجموعة القبلية الشمالية التي تضم العديد من القبائل النجدية والحجازية المعروفة.
قدمت هذه القبائل إلى الكويت في موجات متتالية، بعضها استقر قبل تأسيس الإمارة في القرن الثامن عشر، مشاركًا في صياغة هويتها المبكرة، والبعض الآخر جاء بعد الطفرة النفطية، منجذبًا بفرص العمل والاستقرار. ومن أبرز القبائل التي تركت بصمتها:
- العوازم: الأكثر عددًا، ارتبط تاريخيًا بالبحر (الغوص، التجارة) وله حضور قوي في البرلمان.
- مطير: قبيلة ضخمة تمتد بين السعودية والكويت، كان لها دور دفاعي وسياسي بارز.
- العجمان: معروفة بالشجاعة والاستقلالية، شاركت في معارك تأسيسية وتملك نفوذاً واسعًا.
- الرشايدة: ذات جذور حجازية، تميز أبناؤها في قطاعي التعليم والدفاع.
- عنزة: قبيلة عريقة أنجبت شخصيات بارزة في الاقتصاد والإعلام والسياسة، وتعد من القبائل المؤسسة.
الديوانية: القلب النابض للحياة القبلية والاجتماعية
لا يمكن فهم القبيلة في الكويت دون فهم مؤسسة الديوانية. فهي ليست مجرد مكان ملحق بالبيت للاستقبال، بل هي العمود الفقري للحياة الاجتماعية والسياسية القبلية. تشكل الديوانية:
- فضاءً للتواصل والترابط: حيث يتجمع أبناء القبيلة وزوارهم بشكل أسبوعي (في “ليلة” محددة لكل ديوانية) في أجواء من الكرم وحسن الضيافة (تقديم القهوة والشاي والمأكولات الخفيفة)، مما يعزز أواصر القرابة والتكافل الاجتماعي في السراء والضراء.
- منتدى حرًا للنقاش: تتحول الديوانيات إلى ساحات مفتوحة للنقاش الحي حول كافة القضايا – الاجتماعية، الاقتصادية، الثقافية، والأهم السياسية. تفرغ فيها أخبار المجتمع، وتُطرح الأسئلة الصعبة دون “سقف” يذكر، في جو من الحرية النسبية والصراحة.
- غرفة عمليات انتخابية: تبلغ الديوانية ذروة تأثيرها في مواسم الانتخابات (البرلمانية، البلدية، وحتى الطلابية). تتحول إلى مراكز تخطيط وحشد للدعم للمرشح الذي تتفق عليه القبيلة أو الفصائل داخلها. كانت الانتخابات الفرعية (قبل تجريمها قانونيًا) تعقد غالبًا في الديوانيات أو بترتيب منها، وهي عملية داخلية تختار فيها القبيلة مرشحها الرسمي للانتخابات العامة، وكان الالتزام بمخرجاتها قويًا.
- رمزًا للهيبة والنفوذ: حجم الديوانية وانتظام زوارها وقوة النقاش فيها يعكس مكانة صاحبها (غالبًا شيخ القبيلة أو أحد وجهائها البارزين) ونفوذ القبيلة نفسها. شيخ القبيلة ومجلس حكمائها وكبارها يحظون باحترام وطاعة كبيرة، وهي سلطة تستمد شرعيتها من الأعراف والتقاليد والتاريخ الطويل.
القبيلة كقوة سياسية فاعلة: من العصبية إلى الآلة السياسية
تعد القبيلة أحد أهم اللاعبين في المشهد السياسي الكويتي منذ تأسيس مجلس الأمة. يتجلى تأثيرها في:
- تشكيل البرلمان: تسهم القبائل بشكل حاسم في تحديد معظم ملامح مجلس الأمة من خلال قدرتها على حشد الأصوات في الدوائر الانتخابية، خاصة خارج العاصمة حيث التمركز القبلي أكبر.
- التأثير على الحياة السياسية: تتدخل القبائل بطريقة مباشرة أو غير مباشرة في رسم السياسات من خلال نوابها، ومطالبها الجماعية، وقدرتها على الضغط عبر القنوات التقليدية (الديوانيات، المشيخة) والحديثة (وسائل التواصل الاجتماعي).
- الوصول إلى موارد الدولة: إحدى الغايات الرئيسية للتنظيم السياسي القبلي هي ضمان حصول أبنائها على فرص العمل في القطاع الحكومي، والمشاريع التنموية، والخدمات في مناطقهم، مما يعزز ولاء الأفراد للقبيلة.
- المرونة والتكيف السياسي: تثبت القبائل قدرة ملحوظة على التكيف مع المعطيات السياسية المتغيرة. كما يرى عالم الاجتماع الكويتي الراحل خلدون النقيب في كتابه المرجعي “صراع القبلية والديمقراطية.. حالة الكويت”، فإن “القبيلة السياسية تنزع في استمرار إلى تعديل نفسها تبعاً للظروف المتغيرة”. ويؤكد أستاذ العلوم السياسية غانم النجار على فهم هذه المرونة من خلال تعاطي القبائل مع الاستحقاقات الانتخابية وعلاقتها المتغيرة مع السلطة المركزية. هذا التكيف يجسد ما أشار إليه ريتشارد تابر بأن “البداوة نوع من التكيف السياسي”.
الهوية المتعددة والوظائف المتباينة: رؤى تحليلية
يشير الأكاديمي الأمريكي ديل إيكلمان إلى تعدد معاني هوية القبيلة:
- الهوية الذاتية: أداة يستخدمها الفرد لتوضيح جزء من انتمائه الاجتماعي والثقافي.
- أداة سياسية: يتم توظيف مفهوم القبيلة من قبل الحكومة لأغراض إدارية (مثل نظام الدوائر الانتخابية سابقًا) أو من قبل قوى معارضة لتعبئة الجماهير ضد السلطة، كل وفق مصالحه.
- مرحلة تطور مجتمعي: من الناحية الأنثروبولوجية، تمثل القبيلة مرحلة تاريخية في تطور المجتمعات البشرية.
ويضيف المفكر محمد عابد الجابري بعدًا مهمًا هو الرابطة السيكولوجية، التي تشكل مع روابط القرابة والعصبية مقومات التضامن القبلي الأساسية.
التحولات الداخلية: تفتت القيادة وصعود الفاعلين الجدد
أدت تفاعلات أجيال القبائل مع النظام السياسي الدستوري والتعليم العالي والتحضر إلى تحولات عميقة داخل البنية القبلية:
- تراجع القيادة التقليدية: لم يعد “أمير القبيلة” أو الشيخ التقليدي هو المرجعية السياسية الوحيدة أو الآمر الناهي في توجهات القبيلة السياسية. خير دليل على ذلك ظاهرة الانتخابات الفرعية التي كانت تعكس إرادة أوسع داخل القبيلة، وقلّة ترشح شيوخ القبائل أنفسهم للبرلمان في الآونة الأخيرة مقارنة بصعود وجهاء وناشطين آخرين.
- تزايد حدة المنافسة الداخلية: أدى تطور العملية السياسية وزيادة موارد الدولة إلى “زيادة حدة المنافسة على مواقع النفوذ” داخل القبيلة نفسها. لم يعد الصراع محصورًا بين قبائل مختلفة فقط، بل أصبح داخليًا بين أفراد وفصائل القبيلة الواحدة، وهو صراع سياسي (على التمثيل والموارد) أكثر منه قطيعة اجتماعية.
- بروز فاعلين جدد: ساهمت التحولات الاجتماعية (التعليم، العمل في قطاعات حديثة) والسياسية في ظهور جيل جديد من الفاعلين داخل القبيلة: نواب برلمانيين، نشطاء سياسيين، قيادات طلابية، مثقفين. هؤلاء ساهموا منذ منتصف التسعينيات في “إعادة صياغة وتجديد خطاب القبيلة” تجاه قضايا الإصلاح السياسي والحقوق والحريات، وإن كان زخم هذا التيار الإصلاحي قد تراجع نسبيًا.
- التحول من البداوة إلى التحضر: لم تعد القبيلة الكويتية مجتمعًا بدويًا مغلقًا. “ليست القبيلة في الكويت مجرد تنظيم اجتماعي بدوي” يعيش على استحضار الماضي. لقد اندمجت بشكل عميق في المجتمع الحضري الحديث. أبناؤها هم موظفون ومهندسون وأطباء وأكاديميون ورجال أعمال. بينما تحتفظ بالولاء للقبيلة والقيم الأساسية كالكرم والشرف والنخوة، إلا أن “القيم الصحراوية لم تعد المصدر الوحيد الذي يشكل الشخصية والتفكير”.
العائلات الكويتية: النسيج المتداخل مع القبيلة
إلى جانب القبائل، تشكل العائلات الكويتية الكبرى (التي قد تكون في أصلها فروعًا لقبائل أو كيانات تجارية حضرية) مكونًا أساسيًا آخر في المجتمع:
- آل صباح: الأسرة الحاكمة التي قادت الكويت منذ 1756، وحافظت على استقرارها وتطورها.
- الخرافي، الغانم، البابطين، الصقر، النصف: عائلات ارتبطت تاريخيًا بالتجارة البحرية قبل النفط، ثم أصبحت قوى اقتصادية كبرى في العصر الحديث، ولها تأثير سياسي واجتماعي وثقافي واضح، غالبًا ما يتقاطع مع النفوذ القبلي.
التوزيع الجغرافي: تجسيد للتاريخ والنفوذ
يعكس التوزيع الجغرافي للسكان في الكويت إلى حد كبير التاريخ القبلي والعائلي:
- العوازم: يتركزون في جنوب الكويت (الفحيحيل، الرقة).
- العجمان: في مناطق الأحمدي، الصباحية، والجهراء.
- مطير: في الجهراء والمناطق الداخلية.
- العائلات التجارية: في مناطق العاصمة، السالمية، والمناطق التجارية.
هذا التوزيع ليس عشوائيًا، بل له جذور تاريخية في أنماط الاستقرار والرعي والتجارة، ويستمر في التأثير على ديناميكيات التصويت والتمثيل السياسي المحلي.
التحديات والدراسات: الفجوة البحثية
على الرغم من الثقل الاجتماعي والسياسي الهائل للقبيلة في الكويت، إلا أن الدراسات الأكاديمية المتخصصة والعميقة حولها كحركة اجتماعية فاعلة سياسيًا لا تزال قليلة نسبيًا. تظل أعمال مثل كتاب خلدون النقيب “صراع القبلية والديمقراطية” ودراسات محدودة أخرى، هي الأبرز في هذا المجال، مقارنة بحجم الظاهرة وتعقيدها. غالبية ما كُتب يركز على الجانب الأنثروبولوجي وعلاقته بالسياسة. يبدو أن “الخطاب الشفوي” في الندوات والصالونات الثقافية قد سجل حضورًا أكبر في مناقشة ظاهرة “القبيلة السياسية” مقارنة بالإنتاج البحثي المنهجي الموثق.
الخاتمة: قبيلة متجددة في قلب الدولة الحديثة
تظل القبيلة في الكويت كيانًا حيويًا ومعقدًا، يجسد التناقضات والتحديات والنجاحات التي مرت بها الدولة. فهي ليست بقايا من الماضي، بل هي مؤسسة اجتماعية وسياسية متجددة، تتفاعل بمرونة مع متطلبات الحداثة والديمقراطية النيابية. حافظت على نسيجها المتين وقيمها الأساسية (التكافل، الولاء، الشرف) التي ساهمت في صمود المجتمع الكويتي، بينما خضعت لتحولات عميقة في بنيتها القيادية وخطابها السياسي وأدوار أبنائها. فهم التوازن الدقيق بين دور القبيلة كحاضنة للهوية والانتماء، وبين متطلبات المواطنة المتساوية والمؤسسات الوطنية الحديثة، يظل التحدي الأكبر للكويت في مسيرتها المستقبلية. القبيلة، بجذورها الضاربة في التاريخ وقدرتها على التكيف، ستظل لاعبًا محوريًا في تشكيل ملامح هذه المسيرة، مما يؤكد وصف مجلة “إيكونوميست” الدقيق لها (ولو في سياق عراقي قريب) كـ “آلات سياسية نشيطة” بامتياز في المشهد الخليجي المتفرد للكويت.