الذكاء الاصطناعي يعيد تعريف معادلة الصراع الأوكراني الروسي

في تطور يُصنّف كواحد من أجرأ الضربات العسكرية وأكثرها تعقيداً في الصراع الأوكراني الروسي، أعلنت أجهزة الاستخبارات الأوكرانية مسؤوليتها عن عملية نوعية استهدفت النخبة من الطيران الاستراتيجي الروسي. هذه العملية، التي يُقدّر حجم الخسائر المادية المترتبة عليها بما يفوق 7 مليار دولار أمريكي، لم تكن مجرد غارة جريئة، بل كانت بمثابة إعلان صارخ عن دخول مرحلة جديدة تماماً في الحروب الحديثة، مرحلة تُعرف فيها الآلة الذكية طريقها بنفسها. الأكثر إثارة أن الاستخبارات الأوكرانية أكدت نجاح ضرباتها في إصابة ما يقارب 34% من حاملات الصواريخ الاستراتيجية الروسية المتواجدة في مطاراتها الرئيسية، مستهدفةً بذلك أحد أعمدة الردع النووي الروسي وأكثر أصوله العسكرية حساسية.
الضربة: تقنية متقدمة وتكتيك غير مسبوق:
لم تكن الطائرات المسيرة المستخدمة في هذه العملية مجرد نسخ مطورة عن سابقاتها. فقد اعتمدت أوكرانيا على جيل جديد من المسيرات يعمل بتقنيات ذكاء اصطناعي متطورة، مكنتها من اختراق المجال الجوي الروسي المعروف بصرامة دفاعاته، واستهداف مواقع حيوية داخل العمق الروسي، بما في ذلك مواقع قاذفات استراتيجية من طراز Tu-95MS و Tu-160 القادرة على حمل أسلحة نووية. لكن المفاجأة الكبرى، والتي تُعد تحولاً خطيراً في ديناميكيات الحرب، كانت في منصة الإطلاق: حيث أُطلقت هذه المسيرات المتطورة ليس من قواعد أوكرانية قريبة، بل من شاحنات متحركة تمكنت من اختراق الحدود ودخول الأراضي الروسية نفسها! هذا التكتيك يعكس مستوى غير مسبوق من الجرأة والتخطيط الدقيق، ويشير إلى قدرة أوكرانيا على تنفيذ عمليات عميقة داخل أراضي العدو باستخدام وسائل غير تقليدية يصعب كشفها وتعقبها.
الرد الروسي: غضب وعواقب فورية:
لم تكن موسكو لتترك ضربة بهذا الحجم والحساسية تمر دون ردٍّ ساحق ومندفع. فبسرعة مذهلة، ردت القوات المسلحة الروسية بعملية عسكرية واسعة النطاق شملت إطلاق مئات الصواريخ والطائرات باتجاه أهداف أوكرانية متنوعة. من بين أبرز هذه الضربات كانت إصابة ساحة تدريب عسكري أوكرانية، حيث أفادت المصادر الروسية بأن الضربة أدت إلى تدمير كتيبتين أوكرانيتين كاملتين كانا يتواجدان في الموقع. كانت عواقب هذه الخسارة فورية وواضحة: إذ قدم قائد القوات البرية الأوكرانية، الفريق أول أوليكساندر سيرسكي (على الرغم من كفاءته المعروفة)، استقالته الفورية، في خطوة تُفسر على أنها تحمل للمسؤولية السياسية والعسكرية عن الثغرة الدفاعية التي سمحت بهذا النجاح الروسي الكبير. وما يزال الرد العسكري الروسي مستمراً، مما يزيد من حدة التوتر ويُشعل خشية تصعيد غير محسوب العواقب.
السؤال المحوري: ما الذي يضيفه الذكاء الاصطناعي حقاً لأداة حربية مثل الطائرات المسيرة؟
هنا يبرز جوهر التحول الذي تشهده ساحات القتال. استخدام الطائرات المسيرة ليس بجديد، لكن دماغها الجديد – الذكاء الاصطناعي – هو ما أحدث نقلة نوعية. الإجابة المقدمة من أنظمة الذكاء الاصطناعي نفسها عند سؤالها عن دورها في هذه الطائرات كانت واضحة: “ما يقدمه الذكاء الاصطناعي هنا ليس مجرد تحسين جزئي، بل تحول في طبيعة الأداء والتكتيك والاستقلالية.” هذا التحليل، رغم مصدره، يلامس جوهر الثورة الحاصلة. دعونا نتعمق في الأبعاد السبعة التي يضيفها الذكاء الاصطناعي، والتي حوّلت المسيّرة من أداة موجهة إلى مقاتل شبه مستقل:
- الاستقلالية في اتخاذ القرار (Autonomous Decision-Making): هذا هو حجر الزاوية. الذكاء الاصطناعي يمنح المسيّرة:
- تمييز الأهداف الذاتي: باستخدام الرؤية الحاسوبية المتطورة والتعلم العميق، تستطيع المسيّرة التعرف تلقائياً على أهداف محددة (كقاذفة استراتيجية، منظومة رادار، موقع دفاع جوي) من بين سيل البيانات البصرية والحرارية والرادارية، حتى في الظروف الصعبة (ظلام، ضباب، تمويه). لا حاجة لتعريف بشري مباشر لكل هدف في الزمن الحقيقي.
- تخطيط وتعديل المسار الديناميكي: بناءً على خريطة رقمية محدثة وبيانات الاستشعار المباشرة، تحسب الخوارزمية أفضل مسار للوصول إلى الهدف، مع تجنب التهديدات المعروفة (منظومات دفاع جوي) واكتشاف وتفادي التهديدات الجديدة بشكل فوري. قدرة التكيف هذه تجعل اعتراضها أصعب بكثير.
- التنفيذ الدقيق دون توجيه خارجي: بمجرد التعرف على الهدف، تستطيع المسيّرة تحديد نقطة الضعف المثلى وتوجيه ضربتها بدقة عالية، كل ذلك دون الاعتماد على إشارات توجيه مستمرة عبر الأقمار الصناعية أو مشغليْن بشريين. هذا يقلل هامش الخطأ البشري ويجعلها مقاومة للتشويش الإلكتروني الذي يعطل الاتصالات التقليدية بشكل كبير.
- تحليل فوري للبيئة القتالية (Real-time Data Analysis): المسيّرة الذكية ليست مجرد قاذفة، بل هي منصة استشعار متنقلة:
- مسح وتقييم البيئة: تقوم بجمع كميات هائلة من البيانات من كاميراتها، ومستشعرات الأشعة تحت الحمراء، وراداراتها المصغرة (إن وجدت)، وأجهزة الاستخبارات الإلكترونية (SIGINT) على متنها.
- تحليل فوري لاكتشاف الفرص والتهديدات: تقوم خوارزميات الذكاء الاصطناعي بمعالجة هذه البيانات في اللحظة نفسها، لتحديد التحركات العسكرية المشبوهة، أو نقاط الضعف في دفاعات العدو (مثل فجوة في تغطية الرادار، موقع غير محمي بشكل كاف)، أو حتى تغييرات في التضاريس.
- تمكين رد الفعل التكتيكي السريع: هذه القدرة على الفهم الفوري للبيئة تسمح للمسيّرة بتعديل مهمتها أو استغلال فرصة طارئة بشكل أسرع بكثير مما تسمح به عمليات المراقبة والتوجيه البشري البطيئة نسبياً.
- التعلم والتكيف (Machine Learning): هنا تكمن “الذكاء” الحقيقي الذي يطور الأداء مع الوقت:
- تحسين الأداء من التجربة: إذا نجحت مسيّرة في اختراق دفاع جوي بطريقة معينة، أو فشلت في ذلك، يتم تحميل البيانات إلى نظام مركزي أو حتى تبادلها مع مسيرات أخرى (في أنظمة السرب). تستخدم خوارزميات التعلم الآلي هذه البيانات لتحسين نماذجها وتوقع فعالية التكتيكات المختلفة في المستقبل.
- تعديل السلوك لتجنب التهديدات: إذا نجت مسيّرة من هجوم صاروخي أو تشويش، يمكنها “تعلم” التهرب من تهديد مماثل في المهمة القادمة عن طريق تعديل سرعتها، ارتفاعها، أو مسارها بشكل أكثر فعالية. تصبح الدفاعات الثابتة أقل فعالية مع كل مواجهة.
- التخفي والتمويه الديناميكي (Dynamic Evasion and Camouflage): الذكاء الاصطناعي يجعل التخفي عملية نشطة وذكية:
- مسارات طيران متغيرة وغير متوقعة: لا تتبع المسيرة الذكية مساراً خطياً أو مبرمجاً مسبقاً ببساطة. يمكنها تغيير اتجاهها وارتفاعها وسرعتها بشكل عشوائي محسوب لتكون صعبة التتبع والاعتراض بواسطة الرادارات والمدفعيات المضادة للطائرات.
- إدارة البصمة: يمكن للخوارزمية التحكم في انبعاثات الطائرة (الحرارية، الكهرومغناطيسية) لتقليل فرص اكتشافها بواسطة مستشعرات الأشعة تحت الحمراء (IRST) أو أنظمة الاعتراض الإلكتروني (RWR).
- مناورة التضليل الإلكتروني: بعض الأنظمة المتطورة قادرة نظرياً على محاكاة إشارات رادارية صديقة أو إطلاق إشارات تشويش ذكية لإرباك أنظمة الدفاع الجوي وتضليلها حول موقعها الحقيقي أو هويتها. هذه قدرات تعجز عنها المسيرات المبرمجة مسبقاً فقط.
- العمليات الهجومية المنسّقة (Swarm Intelligence): هذا هو المستقبل المخيف والمذهل:
- اتصال وتعاون في الزمن الحقيقي: يمكن لعشرات أو مئات المسيرات الذكية الصغيرة التواصل فيما بينها باستخدام شبكات اتصالات آمنة ومقاومة للتشويش.
- هجوم جماعي متزامن بتكتيكات معقدة: تنسق المسيرات هجماتها كخلية نحل هجومية، تقسم الأهداف، تهاجم من اتجاهات متعددة في وقت واحد، وتوفر غطاءً لبعضها البعض. يمكن لبعضها التضحية بنفسها لتمهيد الطريق للآخرين نحو الهدف الرئيسي.
- إرباك وتشتيت الدفاعات: هذا التنسيق المحكم يربك أنظمة الدفاع الجوي التقليدية، التي صُممت لمواجهة تهديدات فردية أو محدودة، ويُفقدها القدرة على التعامل مع العدد الهائل والمناورات المتزامنة، مما يزيد فرص اختراق بعض المسيرات للدفاعات بشكل كبير.
- الاستقلال عن الاتصالات البشرية (Graceful Degradation): الذكاء الاصطناعي يضمن استمرارية المهمة حتى في أسوأ الظروف:
- إكمال المهمة رغم انقطاع الاتصال: إذا تم تشويش أو قطع الاتصال مع مركز التحكم، لا تتوقف المسيرة الذكية أو تسقط. بناءً على السيناريوهات المبرمجة مسبقاً والخبرة المكتسبة من بيانات التدريب والعمليات السابقة، تستطيع الذكاء الاصطناعي الموجود على متنها اتخاذ قرارات لإكمال المهمة بأفضل شكل ممكن أو البحث عن هدف بديل ضمن معايير محددة.
- ميزة حاسمة في بيئات الحرب الإلكترونية: هذه الميزة بالغة الأهمية في ساحات القتال الحديثة حيث يكون التشويش الإلكتروني المكثف هو القاعدة وليس الاستثناء، وفي العمليات داخل أراضي العدو حيث تكون الاتصالات معقدة ومعرضة للخطر.
- التمييز الأخلاقي (نظريًا) (Ethical Discrimination – Theoretically): البعد الأكثر إثارة للجدل والأقل نضجاً:
- تطوير خوارزميات التمييز: هناك جهود بحثية (رغم تعقيداتها الهائلة) لتدريب أنظمة الذكاء الاصطناعي على التمييز بين الأهداف العسكرية المشروعة (الدبابات، المدفعية، مواقع القيادة) والأهداف المحمية (المدنيين، المستشفيات، المدارس) بناءً على تحليل الصور والبيانات السياقية.
- جدل حول الدقة والمسؤولية: يجادل البعض بأن النظام الآلي، في ظل ظروف مثالية وبرمجة صارمة، قد يرتكب أخطاء أقل من الجندي البشري المتعرض للضغط النفسي الهائل والخوف والإرهاق في ساحة المعركة. ومع ذلك، يبقى هذا مجالاً شائكاً يطرح أسئلة عميقة حول المسؤولية في حالة الخطأ (من يتحمل: المبرمج؟ المشغل؟ القائد؟) وإمكانية اختراق أو تحيز الخوارزميات.
الخلاصة: من الأداة إلى الشريك (شبه) المستقل – وآثار هذا التحول الخطير:
الذكاء الاصطناعي لا يقتصر دوره على “إضافة” ميزات للطائرة المسيرة؛ إنه يمنحها وعياً عملياتياً محدوداً – قدرة على إدراك بيئتها، وتحليل التهديدات والفرص، واتخاذ قرارات تكتيكية معقدة تؤثر بشكل مباشر على سير المعركة. هذا التحول هو نقلة من نموذج “الآلة الموجهة بالكامل” (Remote-Controlled Tool) إلى نموذج “الآلة المشاركة في القرار” (Decision-Contributing Entity). المسيّرة الذكية لم تعد مجرد امتداد ليد المشغل؛ إنها كيان قتالي شبه مستقل يتحرك في مسرح العمليات.
هذا التطور التكنولوجي المذهل يطرح أسئلة وجودية وأخلاقية وقانونية عميقة تتجاوز الصراع الأوكراني الروسي الحالي:
- إعادة تعريف القيادة والمسؤولية: من يتحمل المسؤولية النهائية عن القرارات التي تتخذها الآلة الذكية، خاصة تلك التي تؤدي إلى خسائر بشرية؟ القائد الذي أمر بالعملية؟ المبرمج الذي صمم الخوارزمية؟ المصنع؟ أم الآلة نفسها (وهو سيناريو غير مقبول حالياً)؟
- سباق التسلح في العصر الرقمي: الضربة الأوكرانية الناجحة ستُسرّع سباق التسلح العالمي في مجال الأسلحة المستقلة القاتلة (LAWs – Lethal Autonomous Weapons). هل سيؤدي هذا إلى خفض الخسائر البشرية أم إلى جعل بدء الحروب أسهل وأقل كلفة سياسياً؟
- مستقبل الحرب غير المتماثل: تمثل المسيرات الذكية سلاحاً فعالاً من حيث التكلفة نسبياً يمكن لدول أو حتى جهات غير حكومية استخدامه لمواجهة قوى عظمى تمتلك جيوشاً تقليدية ضخمة وباهظة الثمن، مما يعيد تشكيل مفهوم “التوازن العسكري”.
- مخاطر الانتشار وفقدان السيطرة: سهولة تصنيع وتطوير بعض أنواع المسيرات الذكية مقارنة بالأسلحة التقليدية المعقدة تزيد من مخاطر انتشارها بين جهات غير مسؤولة أو إرهابية، مع صعوبة بالغة في التنبؤ والتحكم في سلوكها.
الضربة التي استهدفت القاذفات الاستراتيجية الروسية ليست مجرد حدث عسكري عابر؛ إنها جرس إنذار مدوّ. إنها إيذان ببدء حقبة جديدة حيث ينتقل جزء متزايد من “سلطة القتل” واتخاذ القرارات التكتيكية الحاسمة من العقل البشري إلى الخوارزمية. السؤال القديم الذي يطفو على السطح بقوة أكبر من أي وقت مضى: من يملك حقاً سلطة إطلاق النار واتخاذ قرار الحياة والموت في ساحات القتال؟ هل يبقى هذا الحق حكراً على الحكم البشري، مهما كان معرضاً للخطأ والعاطفة، أم نسمح بتفويضه – ولو جزئياً – لمنطق الرياضيات البارد والبيانات الخام؟ الإجابة على هذا السؤال ستحدد ليس فقط مستقبل الحروب، بل ربما مستقبل الإنسانية ذاتها في تعاملها مع آلاتها الأكثر ذكاءً.