الدوسري وش يرجع
لا تزال أنساب القبائل العربية تمثل لوحة تاريخية معقدة تجمع بين الأسطورة والوثيقة، وتتصدر قبيلة الدواسر هذه المشهد بجدل تاريخي محير. فـ” الدواسر وش يرجعون “؟ سؤال يخفي وراءه رحلة عبر الزمن تتداخل فيها دماء الأزد وتغلب وهمدان وعامر بن صعصعة. هذا المقال يكشف طبقات هذا النسب المتشابك، ويحلل الروايات المتناقضة بشجاعة علمية، ليرسم صورة واضحة عن إحدى أعظم القبائل العربية التي شكلت تاريخ وادي الدواسر وحاضر المملكة العربية السعودية.
شجرة قبيلة الدواسر: تحالف عشائري أم نسب دموي واحد؟
عند الغوص في شجرة قبيلة الدواسر، نكتشف أنها ليست جذعًا واحدًا، بل غابة من الأصول المتشابكة. اتفق النسابون على أن القبيلة تقوم على ركيزتين رئيسيتين:
- التغالبة:
يرفعون راية “دوسر بن تغلب” كجد أعلى لهم، مدعين أحقيتهم باسم “الدواسر” دون سواهم. لكن هذا الادعاء يصطدم بحائط الحقائق النسبية؛ فكتب الأنساب تُجمع أن تغلب بن وائل لم يُعقّب إلا ثلاثة: غنم وأوس وعمران، ولا وجود لـ”دوسر” في سلسلتهم. بل إن التغالبة أنفسهم يُشكّك في انتسابهم المباشر لتغلب بن وائل، بعد هجرة الأخير إلى الجزيرة الفراتية. الأرجح أنهم فرع من “تغلب بن حلوان” القضاعية، التي بقيت في جنوب الجزيرة. - آل زايد:
ينتسبون إلى زياد بن عمرو مزيقيا الأزدي، ويرون أن اسم “الدواسر” حكر لهم. هنا يثور إشكال تاريخي: فعمرو مزيقيا (القرن 2 ق.هـ) وزياد (الإسلامي) تفصلهما قرون! مما يدل على اختلاط في الرواية أو انقطاع في السلسلة.
الحقيقة الأعمق: الدواسر تحالفٌ تاريخي ضم عشائر متنوعة الأصول (أزدية، عامرية، همدانية) جمعها سكن وادي الدواسر، فاتخذت اسمه. هذا التكوين الفسيفسائي يفسر غنى تراثهم وتنوع ملامحهم.
وادي الدواسر: البوتقة التي صهرت الأنساب
من وادي العقيق إلى وادي الدواسر: تحول التسمية
لم يكن هذا الوادي الشهير يُعرف بهذا الاسم قديمًا. فقبل الإسلام وفي صدره، كان اسمه وادي العقيق – تيمنًا بقبيلة بني عقيل التي سيطرت على أعاليه، بينما سكنت مذحج أسفله. تحيط به صحارٍ شاسعة من كل جانب، وكان مجرى لسيول عسير وبيشة.
التحول التاريخي: بعد هجرة بني عقيل إلى العراق والأحساء في القرون الهجرية الأولى، نزلت قبائل الدواسر الوادي فارغةً، فحمل اسمهم. هذه النقلة لم تكن جغرافية فقط، بل سياسية واجتماعية؛ إذ صار الوادي مركزًا لتمازج الأصول.
جغرافية الوادي: قلعة طبيعية في قلب الصحراء
يقع حاليًا على بعد 650 كم جنوب الرياض، وتحيط به:
- الشمال: الخاصرة والقويعية
- الشرق: الأفلاج والسليل
- الجنوب: نجران وعسير
- الغرب: عسير ومكة المكرمة
هذا الموقع الاستراتيجي جعله ملاذًا للقبائل ومحطة لقوافل الحج والتجارة.
فخوذ الدواسر: بانوراما الأصول المتعددة
تتكون القبيلة من أربع جماعات كبرى، كل منها يمثل عالمًا نسبيًا مستقلًا:
1. آل زايد: الأزديون بين اليمن والوادي
ينتسبون إلى زايد بن سالم بن زياد الأزدي، وهم عماد الرواية الأزدية في القبيلة. تشمل أفخاذهم:
- آل صهيب (يُقال إنهم من بقايا قشير بن كعب العامري)
- آل جعيد (يربطهم بعض المؤرخين ببني جعدة اليمنية من همدان)
2. التغالبة: أحفاد تغلب المتنازع عليهم
رغم ضبابية نسبهم، فهم أكبر الفروع عددًا. يشتهرون بالشجاعة، وكانوا عماد جيوش الدواسر في حروب توحيد نجد.
3. الجميلات: ذاكرة بني هلال المنسية
هم بقايا قبيلة جميلة الهلالية (من عامر بن صعصعة) التي لم تهاجر إلى المغرب. استقروا في الأفلاج شرق الوادي قبل انضمامهم للحلف.
4. آل جعيد: الهمدانيون في قلب الصحراء
أقوى أدلّة نسبهم تربطهم بـهمدان عبر بني جعيد اليمنيين، رغم محاولات نسبهم إلى جعدة بن كعب العامري.
أصول الدواسر: خمس روايات متصارعة
الرواية الأولى: الأزدية (بني العتيك)
الأدلة:
- المؤرخ الطبري يروي في “تاريخ الرسل والملوك” أن الشاعر ثابت بن كعب العتكي الأزدي قال:
“ألم تر دوسرا منعت أخاها وقد حشدت لقتله تميم”
في إشارة إلى فرع الأزد الملقب بـ”الدوسر”.
- نسبهم إلى العتيك بن الأسد بن عمران بن عمرو مزيقيا، خصوصًا بعد نزولهم قرب وادي الدواسر إثر هجرة بني عقيل.
الرواية الثانية: الهمدانية (وادعة)
الأدلة:
- الهمداني في “الإكليل” يذكر أن وادعة بن عمرو الحاشدي الهمداني كانوا يُلقبون “مُرْهِبة الدَّوْسَر” (أي الذين يرهبون الجيوش).
- إشكالية الانتماء: وادعة الأزد (بني عمرو مزيقيا) ووادعة همدان قد يكونون أصلًا واحدًا، حيث يشير الكلبي إلى أن وادعة الأزد “دخلوا في همدان”.
الرواية الثالثة: التغلبية (دوسر بن تغلب)
مشاكلها:
- عدم وجود “دوسر” في ذرية تغلب بن وائل المعروفة.
- هجرة تغلب الأصلية إلى العراق بعد حرب البسوس.
الرواية الرابعة: العَائِذية العُقيلية
ينسبهم ابن فضل الله العمري إلى بني عائذ من عقيل بن كعب. لكنها تظل رواية هامشية.
الرواية الخامسة: المُرَهَّبية الهمدانية
استنادًا إلى لقب “عبد السلام الدوسري” المرهبي (من بني مرهبة الهمدانية) في أحداث الري (78هـ)، لكن التحليل اللغوي يرجح أن “مُرْهِبة الدَّوْسَر” لقب لبني وادعة لا مرهبة.
تحقيق النسب: بين الأسطورة والوثيقة
معضلة “زياد” و”الملطوم”
تدعي رواية آل زايد أن جدهم زيادًا هو من لطم أباه عمرو مزيقيا (ملك مأرب) عندما حذّر قومه من انهيار السد، ليُتاح له الهجرة. لكن:
- عمرو مزيقيا (القرن 2 ق.هـ) لم يُذكر بين أبنائه “زياد” في أي مصدر قديم.
- الرواية تخلط بين “زياد” و”وادعة” (الابن الفعلي لعمرو المذكور في قصص السد).
الدليل الشعرية: قصيدة ابن المقرب العيوني
يُعدّد الشاعر (ت 629 هـ) في قصيدته تشبيهًا ذاتيًا بعمرو بن عامر:
“وإني في قومي كعمرو بن عامر … ليالي يُعصى في قبائله الأزد”
“أراهم إمارات الخراب وما بدا … من الجرذ العياث في صخرها الصلد”
ما يؤيد قدم الرواية لكنه لا يحل إشكال النسب.
الدواسر اليوم: من الوادي إلى أقطار الخليج
- السعودية: يتركزون في وادي الدواسر والسليل والأفلاج والرياض.
- الكويت: من أوائل المهاجرين، ولهم دور في تأسيس الإمارة.
- البحرين: “الداودي” و”الخليفات” من أشهر عوائلهم.
- قطر: شاركوا في صناعة تاريخ الدولة خاصة في الزبارة.
- الإمارات: “الرواشد” و”المزاريع” من فروعهم.
خاتمة: الهوية الجامعة فوق شجرة الأنساب
رغم تنازع الأنساب، فإن قبيلة الدواسر تشكل نموذجًا فريدًا لوحدة الهوية العربية. فـ”الدواسر وش يرجعون” إجابة معقدة تاريخيًا، لكنها بسيطة ثقافيًا: هم أحفاد تحالفٍ حوّل التنوع إلى قوة، والوادي إلى وطن. دماء الأزد وتغلب وهمدان وعامر بن صعصعة – التي سالت في عروقهم – لم تكن سوى ألوان في لوحة مجد واحدة، صنعت من تعدد الأصول عزًّا لا انقسامًا.
“الاختلاف في الأصول لا ينقض الوحدة.. كما أن تعدد الألوان لا ينفي أن اللوحة واحدة” – مُلهم من تراث الدواسر.
مواضيع ذات صلة:
-
-
-
-
-
-
-
-
