في شمس الجزيرة العربية الحارقة، حيث تتداخل أنساب القبائل كجذور الأشجار الضاربة في عمق التاريخ، تبرز عائلة “الدريويش” كلغز أنسابي شائك. اسمٌ يحمل في طياته حكايات هجرة، وارتباطات روحية، وتشعبات قبلية، جعلت الإجابة عن سؤال ” الدريويش وش يرجعون ؟” إجابة متشعبة كوادي في الصحراء. فهي ليست عائلة تنحدر من جدٍّ واحد أو قبيلة موحدة، بل هي لوحة فسيفسائية رسمتها تحركات الأفراد، وتحالفات التاريخ، وارتباطات الطرق الصوفية عبر قرون من الزمن. هذا البحث ليس مجرد تتبع لأسماء، بل هو رحلة في دهاليز الهوية والانتماء عبر دول الخليج العربي وسوريا، محاولة لفكّ شيفرة واحدة من العائلات التي حملت اسم “الدريويش” بفخر، كلٌّ منها يحمل قصته الخاصة وجذوره المميزة.
أصل التسمية واللبس التاريخي: أكثر من جذر لأكثر من فرع
قبل الخوض في التفاصيل، لا بد من فهم أصل التسمية ذاتها. لقب “الدريويش” أو “الدرويش” مشتق من كلمة “درّيش” الفارسية التي تعني “عتبة الباب”، ثم تطور معناها في الثقافة الإسلامية ليدل على الزاهد المتصوف السالك طريق التزكية الروحية. وهذا يجعل اللقب يحمل دلالتين رئيسيتين:
- الدلالة النسبية: حيث أصبح لقبًا عائليًا توارثته أجيال، مثل “الدريويش” في الكويت ونجد.
- الدلالة الصوفية: حيث يُطلق على المنتمين لطرق صوفية معينة، مثلما هو الحال مع عشيرة الدرويش في وديان الربيع بسوريا، أو بعض الفروع المرتبطة بالطريقة القادرية أو الرفاعية.
هذا الالتباس في أصل التسمية هو أولى مفاتيح فهم تعقيد نسب عائلة الدريويش. فوجود العائلة في مناطق متباعدة (نجد، الكويت، قطر، البحرين، سوريا) مع اختلاف أنسابها يُرجّح أننا أمام أكثر من فرع عائلي حمل نفس اللقب لسببين: إما لارتباطهم الفعلي بالتصوف في مرحلة من مراحل تاريخهم، أو لأن أحد أجدادهم الأوائل كان يُعرف بهذا اللقب الذي تحول مع الزمن إلى اسم عائلة. البحث عن أصل موحد، إذن، هو محاولة لصبّ البحر في كأس.
شجرة عائلة الدريويش
يمكن تقسيم فروع عائلة الدريويش الرئيسية بناءً على أنسابها وأماكن استقرارها إلى عدة محاور:
- فرع نجد والكويت (المرتبط ببني تميم):
- الأصل: يُعتقد أن الجد الجامع لهذا الفرع هو مرشد بن محمد الحديثي، المنتمي إلى بني العنبر من قبيلة بني تميم العربية العريقة. ولهذا الفرع تاريخ طويل في منطقة نجد، تحديدًا في الحلوة.
- الهجرة والاستقرار في الكويت: هاجرت أجزاء من هذا الفرع من نجد والزلفي إلى الكويت في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. ومن أبرز الشخصيات المؤسسة:
- النوخذة عبدالعزيز بن دريويش الدريويش: هاجر من نجد، استقر في الكويت وعمل في البحر (الغوص والتجارة) حتى أصبح نوخذة (قبطان) وامتلك سفينته الخاصة. توفي عام 1936م. سكنت أسرته في جبلة ثم توزع أبناؤه وأحفاده في مناطق مختلفة كالصالحية وحولي والفيحاء والنقرة وخيطان وبيان.
- هلال بن حمد الدريويش: انتقل إلى الكويت بعد وفاة والده، واستقرت ذريته هناك بعد عودة ابنه حمد من الزبير. عمل بعض أفراد هذا الفرع في الديوان الأميري وكانوا مقربين من أسرة الصباح.
- النوخذة أحمد بن محمد الدريويش: قدم من الزبير إلى الكويت، وعمل في البحر والغوص، وتنخوذ (أصبح قبطانًا). شارك في معركة الجهراء، وتوفي عام 1965م.
- شخصيات بارزة: بالإضافة إلى النواخذة المذكورين، برز من هذا الفرع شخصيات مثل المهندس وليد هلال الدريويش (اختصاصي اتصالات).
- المصاهرات: تزوجت عائلة الدريويش في الكويت من عائلات كويتية مرموقة مثل العبيد، اليماني، البالول، العمران، الصولة، موسى البكر، العتال، الحمود، الضويحي، القطيفي.
- النسب: يؤكد هذا الفرع ونقّاد الأنساب أن نسبهم يعود إلى دريويش بن محمد بن شامان بن مرشد بن محمد بن سعود بن العنبر من بني تميم.
- فرع قطر والبحرين (المرتبط بآل فخرو – بني تميم):
- الأصل: على عكس الفروع الأخرى، فإن عائلة الدرويش في قطر (وبعض فروع في البحرين) هي في الأصل فرع من أسرة آل فخرو الكبيرة والمشهورة. ويرجع نسب آل فخرو أيضًا إلى قبيلة بني تميم العربية.
- اللقب: يستخدم هذا الفرع لقب “الدرويش” نسبة إلى جدهم درويش بن قاسم بن فخرو، بينما لقبهم العائلي الأصلي هو “فخرو”.
- الاستقرار والمكانة: استقر آل فخرو (ومنهم آل درويش) في قطر في منطقة الجسرة وسوق واقف، وبرزوا كتجار لؤلؤ (طواويش) ثم كأحد أبرز الأسر التجارية والاقتصادية في قطر. لهم مكانة اجتماعية مرموقة وتقارب مع الأسرة الحاكمة تاريخيًا.
- شخصيات بارزة:
- جاسم درويش (درويش بن قاسم فخرو): برز في تجارة اللؤلؤ ثم التجارة العامة، وترأس دائرة المعارف (التربية لاحقًا).
- عبدالله درويش (درويش بن قاسم فخرو): لعب دورًا محوريًا في بدايات صناعة النفط في قطر، كان الساعد الأيمن للشيخ حمد بن عبدالله آل ثاني (ولي العهد والحاكم الفعلي آنذاك). أسس مع إخوته مجموعة شركات الدرويش العملاقة.
- عبدالرحمن درويش (درويش بن قاسم فخرو): عمل مستشارًا خاصًا لحاكمي قطر الشيخ علي والشيخ أحمد.
- الامتداد في البحرين: انتقل جزء من آل فخرو (ومنهم من يحمل لقب الدرويش) إلى البحرين، وسكنوا المحرق ثم المنامة، وبرز منهم شخصيات في مجالات السياسة والاقتصاد والثقافة.
- فرع سوريا (المرتبط بالطريقة الرفاعية):
- الأصل والانتشار: تنتشر عشيرة الدرويش في وديان الربيع بالشام (سوريا). وجدهم الأعلى هو السيد علي بن عبد العلام.
- النسب الصوفي الشريف: يُنسب هذا الفرع إلى القطب عز الدين أحمد الصيادي، سبط الحضرة الرفاعية. ويتصل نسبه الشريف إلى الإمام موسى الكاظم بن الإمام جعفر الصادق بن الإمام محمد الباقر بن الإمام علي زين العابدين السجاد بن الإمام الحسين بن الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين. هذا النسب يربطهم ارتباطًا وثيقًا بالطريقة الصوفية الرفاعية ويعطيهم مكانة روحية واجتماعية مميزة.
- الطابع: يغلب على هذا الفرع الطابع الصوفي والروحي المرتبط بالطريقة الرفاعية، وهو ما يميزه جوهريًا عن الفروع الأخرى في الخليج التي تحمل طابعًا قبليًا وتجاريًا أكثر.
- فروع أخرى وارتباطات قبلية:
- الارتباط بالغامدي: تذكر بعض المصادر وجود ترابط نسبي بين بعض أفراد عائلة الغامدي (من قبيلة غامد في جنوب غرب السعودية) وعائلة الدريويش في نجد، حيث يعود نسب جزء من الغامدي إلى الدريويش. هذا يشير إلى تشعب النسب وارتباطاته الواسعة.
- فروع في السعودية: بالإضافة إلى الفرع الرئيسي في نجد (الحلوة والزلفي)، توجد فروع أخرى لعائلة الدريويش في مناطق سعودية متعددة مثل الرياض، الخبر، القصيم، الأحساء، مما يؤكد انتشارهم الواسع داخل المملكة التي تُعتبر الموطن الأساسي للكثير من هذه الفروع. ويتميز أفراد القبيلة بالترابط الاجتماعي القوي والتكاتف رغم توزعهم الجغرافي.
- تعدد الأصول في البحرين: بينما يرتبط جزء من الدرويش في البحرين بآل فخرو القادمين من قطر، قد توجد فروع أخرى مستقلة أو مرتبطة بسياقات تاريخية وأنساب مختلفة.
لماذا صعوبة تحديد أصل واحد؟ تحليل الأسباب
تتعدد الأسباب التي تجعل الإجابة القاطعة عن سؤال “الدريويش وش يرجعون؟” مهمة مستحيلة:
- شيوع اللقب: كما ذكرنا، ارتباط اللقب بالتصوف جعله يُمنح أو يُتخذ من قبل أفراد أو مجموعات في مناطق مختلفة وغير مرتبطة دمًا، كعلامة على الانتساب الروحي أو الوظيفي (مثل شيخ الطريقة).
- الهجرات المتعددة: شهدت منطقة نجد والجزيرة العربية عمومًا موجات هجرة متتالية بسبب الظروف الاقتصادية (بحثًا عن الرزق) أو الأمنية (الحروب والنزاعات القبلية). أدى هذا إلى تشتت العائلات وانتقال فروع منها إلى الكويت والبحرين وقطر والعراق (الزبير)، وربما حمل كل فرع معه لقبه دون أن يعني ذلك بالضرورة اتصالًا مباشرًا بفروع أخرى في مناطق بعيدة حملت اللقب ذاته لسبب مختلف.
- تحالفات القبائل والاندماج: تاريخيًا، كانت القبائل تتحالف أو تندمج مع بعضها البعض. قد ينضم فرد أو مجموعة صغيرة إلى قبيلة أكبر ويأخذون اسمها أو أحد ألقابها مع مرور الزمن. هذا قد يفسر الادعاءات المتعددة حول الانتماء القبلي (بني تميم بشكل أساسي في الخليج).
- عدم توثيق الأنساب قديمًا: اعتمدت أنساب الكثير من العائلات، خاصة غير الحضرية منها، على الروايات الشفهية التي قد تختلف أو تتداخل مع مرور الوقت واختلاف الرواة. الوثائق المكتوبة الموثقة تعود لفترات متأخرة نسبيًا.
- تعدد الفروع واختلاف أنسابها: كما اتضح من السرد السابق، فروع الدريويش في سوريا مختلفة جذريًا في النسب عن فروع الخليج، وفروع الخليج نفسها بين الكويت وقطر/البحرين تختلف في تفاصيل النسب والجد المؤسس رغم اشتراك بعضها في الانتماء الأوسع لبني تميم.
أبرز الشخصيات: بصمات على صفحات التاريخ
برز من عائلة الدريويش في فروعها المختلفة شخصيات تركت أثرًا في مجالات متعددة، تجسيدًا لدورهم الاجتماعي والاقتصادي:
- في الكويت (فرع نجد):
- النواخذة: عبدالعزيز بن دريويش الدريويش، أحمد بن محمد الدريويش – ركيزتان في تاريخ الغوص والتجارة البحرية الكويتية.
- هلال بن حمد الدريويش: شخصية مقربة من الحكم، عمل في الديوان الأميري.
- المهندس وليد هلال الدريويش: يمثل الجيل الحديث في مجالات الهندسة والتقنية.
- في قطر (فرع آل فخرو):
- جاسم، عبدالله، وعبدالرحمن الدرويش (أبناء درويش بن قاسم فخرو): مؤسسو إمبراطورية تجارية ضخمة (مجموعة شركات الدرويش)، لعبوا أدوارًا محورية في الاقتصاد القطري وعلاقاته الخارجية، خاصة في بدايات عصر النفط. كان عبدالله بذكائه وعلاقاته ومهاراته اللغوية شخصية مؤثرة جدًا في المشهد السياسي والاقتصادي القطري في منتصف القرن العشرين.
- في سوريا (الفرع الرفاعي): يحمل أفراد هذا الفرع مكانة روحية واجتماعية مرموقة بفضل نسبهم الشريف وارتباطهم بالطريقة الرفاعية، ويقودون الزوايا والمجالس الدينية في مناطقهم.
الخلاصة: الدريويش.. اسم يحمل سيراً متعددة لا سيرة واحدة
عودة إلى السؤال المحوري: “الدريويش وش يرجعون؟” تكشف لنا البحث أن الإجابة ليست جملة واحدة، بل هي فصول من كتاب تاريخي مفتوح. عائلة الدريويش، بفروعها المتعددة المنتشرة من وديان سوريا إلى حواضر الخليج، هي مثال صارخ على تعقيد وثراء النسيج الاجتماعي والأنسابي في المنطقة العربية. فهي:
- في سوريا: عشيرة تنتمي إلى نسب شريف مرتبط بالإمام الحسين بن علي رضي الله عنهما، وتنتسب روحياً واجتماعياً إلى الطريقة الرفاعية، تحمل هوية صوفية مميزة.
- في نجد والكويت: فرع قبلي عريق يعود بنسبه إلى بني العنبر من قبيلة بني تميم، هاجر أجزاء منه إلى الكويت ليصبحوا جزءًا أصيلًا من نسيجها الاجتماعي والاقتصادي، خاصة في مجال البحر والغوص، وهم حنابلة في المذهب.
- في قطر والبحرين: جزء من أسرة آل فخرو العريقة التي تعود جذورها أيضًا إلى بني تميم، حملوا لقب “الدرويش” نسبةً لجدهم درويش بن قاسم فخرو، وبرزوا كأحد أعمدة الاقتصاد والتجارة في قطر، وهم حنابلة في قطر وشافعية في البحرين.
لا يجمع هذه الفروع المتباعدة جغرافيًا وتاريخيًا سوى اشتراكها في حمل لقب “الدريويش” أو “الدرويش”، وهو لقب تجاوز دلالته الصوفية الأصلية في بعض الفروع ليتحول إلى اسم عائلة، بينما حافظ على دلالته الروحية والاجتماعية في فروع أخرى مثل السوري. محاولة حشر كل هذه الفروع تحت سقف نسبي واحد هي محاولة غير علمية وتجاهل للتحولات التاريخية والهجرات والتحالفات التي شكلت المجتمعات العربية. قصة الدريويش هي قصة تعدد في الأصول، وثراء في المسارات، ووحدة في الاسم ترويها رياح التاريخ عبر صحاري الجزيرة ووديان الشام. فهم هذا التعدد والاختلاف هو جوهر الإجابة الحقيقية على سؤال النسب.
مواضيع ذات صلة:
-
-
-
-
-
-
-
-
