الدخان يتصاعد من معسكرات الجيش، أصوات الرصاص والقذائف تعلو ثم تخفت لتكشف عن واقع مُر: العاصمة اليمنية التاريخية تسقط في قبضة المتمردين الحوثيين. في قلب هذه الكارثة الوطنية، وقف اسم واحد يتصدر لوائح الاتهام: اللواء الركن محمد ناصر أحمد الحسني، وزير الدفاع الأطول بقاءً في المنصب منذ تحقيق الوحدة. تسعة أعوام قضاها على رأس المؤسسة العسكرية، سنوات شهدت حروباً في صعدة وحراكاً جنوبياً وثورة شعبية، انتهت بانهيار الدولة وهو على رأسها. كيف تحول هذا الضابط الجنوبي المخضرم، الحائز على أوسمة الشجاعة والوحدة، من حارس للدولة إلى متهم رئيسي بتسهيل سقوطها؟ هذه ليست مجرد سيرة رجل، بل هي قصة مرآة تعكس تعقيدات المشهد اليمني وصراعاته الخفية، حيث تختلط الجغرافيا بالولاءات الشخصية وتذوب الحدود بين الوطنية والخيانة في بوتقة الصراع على السلطة.
من أبين إلى موسكو: تشكيل رجل الأزمات
وُلد محمد ناصر أحمد الحسني في الأول من يناير عام 1950 في منطقة مودية بمحافظة أبين الجنوبية، تلك المحافظة التي ستلعب لاحقاً دوراً محورياً في تحديد مساره السياسي والعسكري. انخرط في سلك الجيش مبكراً في شطر اليمن الجنوبي سابقاً، مسلحاً بطموح واضح وقدرة على المثابرة. لم تكن مسيرته الاعتيادية كأي ضابط؛ فقد سعى للتأهيل العالي، فانتقل إلى قلب المعسكر الشيوعي آنذاك، الاتحاد السوفيتي، حيث حصل على درجة ماجستير العلوم العسكرية في القيادة والأركان. هذه الشهادة لم تكن مجرد ورقة أكاديمية، بل كانت تذكرة عبور نحو المناصب القيادية الحساسة، خاصة في مجال التموين والإمداد، شريان الحياة لأي جيش.
مواضيع ذات صلة : علي سالم البيض مسيرته ورحلته السياسية
تدرج الحسني بثبات داخل المؤسسة العسكرية الجنوبية. بدأ كرئيس للشؤون الإدارية للواء 20 مشاة، ثم انتقل إلى قلب منظومة الإمداد في وزارة الدفاع. شغل منصب نائب رئيس شعبة الإمداد والتموين، ثم ارتقى ليصبح نائب مدير دائرة الإمداد والتموين عام 1975. كان هذا التعيين المبكر مؤشراً على ثقة القيادة فيه وقدرته على إدارة الملفات المعقدة. هذه الثقة تعززت عام 1983 عندما تم تعيينه مديراً لدائرة الإمداد والتموين بوزارة الدفاع، منصباً بالغ الأهمية يضع في يديه مفاتيح توفير مستلزمات الجيش وتسيير آليته اللوجستية. هذه الخبرة العميقة في دهاليز الإمداد العسكري، التي اكتسبها في فترة حافلة بالتحديات، ستكون سلاحاً ذا حدين في مسيرته اللاحقة.
على خط النار: البقاء في زمن صالح
بعد تحقيق الوحدة اليمنية عام 1990، وجد الحسني نفسه، كغيره من الضباط الجنوبيين، في وضع جديد يتطلب إعادة تعريف للأدوار والولاءات. استطاع أن يجد مكانته في المنظومة الجديدة، ربما بفضل خبرته العملية وابتعاده النسبي عن الخطوط السياسية المتقدمة في البداية. تم تعيينه نائب مدير دائرة الإمداد والتموين بوزارة الدفاع اليمنية الموحدة عام 1994، في خضم حرب الانفصال التي قادها الرئيس الحالي عبد ربه منصور هادي (كوزير دفاع آنذاك) للدفاع عن الوحدة. ثم أصبح مديراً للدائرة نفسها عام 1996، وهو المنصب الذي شغله سابقاً في الجنوب قبل الوحدة، مما يعكس اعترافاً من النظام في صنعاء بكفاءته وقدرته على إدارة هذا الملف الحيوي.
لكن التحول الأكبر جاء في 11 فبراير 2006. في تعديل وزاري لحكومة عبد القادر باجمال، قام الرئيس الأسبق علي عبد الله صالح بتعيين اللواء الركن محمد ناصر أحمد الحسني وزيراً للدفاع، خلفاً للواء الركن عبد الله علي عليوة. لم يكن اختيار الحسني اعتباطياً. جاء تعيينه في سياق التوازنات السياسية والجغرافية المعقدة؛ فبينما ذهبت حقيبة الداخلية لشمالي، ذهبت الدفاع لوزير جنوبي، في محاولة لامتصاص بعض الاحتقان. كما كان محسوباً على ما يُعرف بـ”الزمرة” الجنوبية التي نزحت إلى صنعاء بعد أحداث يناير 1986 الدموية في عدن، وكان ولاؤها للنظام. تولى الحسني المنصب في وقت حرج، حيث كانت الحكومة تواجه الجولة الثالثة من الحرب ضد التمرد الحوثي في صعدة، وسط أجواء انتخابية رئاسية مشحونة.
أظهر صالح ثقته المستمرة في الحسني، فأعاده تعيينه وزيراً للدفاع في حكومة علي محمد مجور المشكلة في 5 أبريل 2007. كانت هذه الفترة من أصعب فترات الجيش اليمني، حيث تصاعدت حروب صعدة (الجولات الثالثة والرابعة والسادسة) وامتدت إلى محافظات أخرى مثل حجة والجوف وعمران، مستنزفةً موارد الجيش وبنيته. في الوقت نفسه، بدأت شرارة الحراك الجنوبي في العام ذاته (2007) تتصاعد، مطالبةً بحقوق أبناء الجنوب وخاصة العسكريين منهم، مما وضع وزير الدفاع الجنوبي في موقف بالغ الحساسية بين ولائه للنظام في صنعاء ومطالب أبناء منطقته. ورغم كل هذه العواصف، بقي الحسني في منصبه، حتى بعد أن أصدر صالح قراراً بإقالة الحكومة وتكليفها بتصريف الأعمال في 20 مارس 2011، في أعقاب مجزرة جمعة الكرامة الدامية واندلاع ثورة الشباب.
الرجل القادم من الجنوب: الصعود مع هادي وغيوم الاتهامات
مع توقيع المبادرة الخليجية في نوفمبر 2011، وتنحي صالح، وتسلم عبد ربه منصور هادي رئاسة البلاد، دخل الحسني مرحلة جديدة. في حكومة الوفاق الوطني التي شكلها رئيس الوزراء محمد سالم باسندوة في 27 نوفمبر 2011، احتفظ محمد ناصر أحمد الحسني بمنصب وزير الدفاع. كان هذا الاختيار محكوماً بعوامل عدة، أبرزها القرابة الجغرافية والولاء السياسي المشترك. ينحدر كل من الرئيس هادي والحسني من محافظة أبين الجنوبية، وكانت الروابط الشخصية والثقة المتبادلة بينهما، التي تعود على الأقل إلى أيام الدفاع عن الوحدة عام 1994 حيث كان هادي وزير دفاع، عاملاً حاسماً في استمراريته. لقد كان الحسني يمثل أحد الأعمدة الجنوبية الرئيسية في الجيش، واستمراره في المنصب كان محاولة من هادي لتوازن القوى داخل المؤسسة العسكرية المتناحرة.
استمر هذا التوازن الهش في التعديل الوزاري الذي أجراه هادي على حكومة باسندوة في 7 مارس 2014. بقي الحسني وزيراً للدفاع. لكن هذه الفترة شهدت تصاعداً خطيراً في نفوذ المتمردين الحوثيين، مستغلين حالة الضعف والانقسام السياسي والأمني. هنا بدأت غيوم الاتهامات الثقيلة تحوم حول وزير الدفاع. اتُهم علناً وضمنياً بـ:
- التعاون مع الحوثيين وتقديم تسهيلات لهم.
- إصدار أوامر بالانسحاب للوحدات العسكرية من مواقع استراتيجية أمام تقدم الحوثيين.
- تسليم معسكرات ومخازن أسلحة تابعة للجيش للمتمردين دون قتال يذكر.
- خذلان قوات الجيش ومنعها من القيام بواجبها في الدفاع عن الدولة الدستورية والنظام الجمهوري.
- الإهمال المتعمد في إدارة ملف المواجهة مع التمرد، مما أتاح للحوثيين التمدد بسرعة مذهلة.
في وقت كانت فيه صنعاء والمراكز الحيوية للدولة على المحك، بدا أداء وزارة الدفاع بقيادة الحسني، من وجهة نظر منتقديه، متراخياً وغير حاسم، بل ومتواطئاً. كانت التساؤلات تعلو: كيف يتقدم المتمردون بهذه السرعة؟ لماذا تنسحب القوات من مواقعها؟ أين الأوامر الصارمة؟ لماذا لا يتم تعبئة الجيش؟ ظلت إجابات الحسني الرسمية، إن وجدت، غامضة وغير مقنعة للكثيرين، بينما كانت العاصمة تنزلق نحو الهاوية.
محطات الدم: محاولتا اغتيال وعلامات استفهام
لم تكن رحلة الحسني خالية من المخاطر الشخصية. تعرض لمحاولتي اغتيال خطيرتين، أثارتا الكثير من علامات الاستفهام حول دوافعها ومرسليها.
- محاولة عدن (28 سبتمبر 2011): في وقت كان المشهد السياسي مضطرباً بفعل ثورة الشباب، تعرض موكب الحسني في مدينة عدن لهجوم مسلح. أسفر الهجوم عن مقتل حارسه الشخصي، بينما نجا هو بأعجوبة. وقعت هذه المحاولة في فترة تصريف الحكومة للأعمال بعد إقالة صالح لها، وسط أجواء اتهامات متبادلة بين أطراف الصراع.
- تفجير صنعاء المروع (11 سبتمبر 2012): بعد أقل من عام، وفي قلب العاصمة صنعاء، تعرض موكب الحسني لاستهداف أكثر دموية. انفجرت سيارة مفخخة بالقرب من موكبه أثناء خروجه من مبنى الحكومة. كان الدمار هائلاً؛ 11 جندياً من مرافقيه قتلوا، وتدمرت عدة سيارات في المشهد المروع. نجا الحسني مرة أخرى “بأعجوبة”، حسب وصف الأنباء وقتها.
أعلنت الحكومة فتح تحقيقات في الحادثتين، ووجهت الاتهامات في حادثة صنعاء خصوصاً إلى تنظيم القاعدة. لكن البعض تساءل: هل كانت هذه المحاولات انتقاماً من قبل خصوم سياسيين أو عسكريين داخل المشهد اليمني المعقد؟ أم كانت جزءاً من لعبة أكبر لتصفية حسابات؟ أم محاولة لإحداث فراغ في قيادة الجيش في لحظة حاسمة؟ بقيت الإجابات الرسمية غير كافية، وأضافت المحاولتان طبقة أخرى من الغموض والجدل إلى شخصية وزير الدفاع المثيرة للانقسام.
السقوط من القمة: نهاية مسيرة مثيرة للجدل
مع سيطرة الحوثيين على صنعاء في 21 سبتمبر 2014، وإجبارهم الرئيس هادي وحكومته على توقيع “اتفاق السلم والشراكة” في 21 سبتمبر 2014، انتهت فعلياً أطول فترة لوزير دفاع في اليمن الموحد. في الحكومة الجديدة التي تشكلت في 13 أكتوبر 2014 برئاسة خالد محفوظ بحاح، والتي شارك فيها الحوثيون، تم إبعاد اللواء الركن محمد ناصر أحمد الحسني من منصب وزير الدفاع. تم تعيين اللواء الركن محمود سالم الصبيحي (من محافظة لحج الجنوبية أيضاً) خلفاً له. كانت نهاية صامتة، وإن كانت متوقعة، لرجل قاد المؤسسة العسكرية خلال تسع سنوات حافلة بالأحداث الكبرى، تعاقب خلالها على رئاسة الجمهورية علي عبد الله صالح ثم عبد ربه منصور هادي، وشهدت ست حكومات وتعديلات.
لم يكن الإبعاد مجرد تغيير روتيني في المنصب. لقد كان تتويجاً لسيل جارف من اتهامات الخيانة والعمالة والتواطؤ التي طالته خلال الأشهر الأخيرة من سيطرة الحوثيين، خاصة بعد سقوط العاصمة بسرعة مذهلة وسط اتهامات الجيش بالتفكك وغياب الأوامر. غادر الحسني المنصب دون دفاع علني قوي عنه من الرئيس هادي، الذي اختاره وأبقاه، مما زاد من حدة الأسئلة حول طبيعة العلاقة بينهما ودور كل منهما في الأحداث الجسام التي أدت إلى انهيار الدولة.
إرث من الغموض والجدل: بين الأوسمة والاتهامات
ترك محمد ناصر أحمد الحسني إرثاً عسكرياً وسياسياً غاية في التعقيد والتناقض. فهو الضابط الجنوبي المتمرس، الحائز على أرفع الأوسمة العسكرية اليمنية: وسام الوحدة (22 مايو)، ووسام الشجاعة، ووسام الواجب، ووسام الإخلاص. هذه الأوسمة تشهد على فترات من الخدمة المميزة والتضحيات، بما في ذلك نجاته من محاولتي اغتيال دمويتين.
لكن ظله في الذاكرة الوطنية اليمنية يطغى عليه مشهد سقوط صنعاء والاتهامات التي لحقت به. هل كان رجلاً غير كفءً، غارقاً في بيروقراطية الإمداد التي نشأ فيها، ففشل في قيادة الجيش في زمن الحرب؟ هل كان أسير ولاءات قبلية وجغرافية ضيقة، قدمها على مصلحة الوطن؟ أم كان مجرد “رجل النظام” الذي نفذ الأوامر الصادرة إليه، سواء من صالح أو هادي، حتى لو كانت تعني التهاون مع الخطر الداهم؟ أم أن هناك قصة أخرى أكثر تعقيداً لم تُروَ بعد؟
يبقى محمد ناصر أحمد الحسني رمزاً من رموز المرحلة الانتقالية الصعبة في اليمن، بعد تنحي صالح. شخصية ارتبط صعودها بالتوازنات السياسية والجغرافية الهشة، واستمرارها بالثقة الشخصية للرئيس هادي، وسقوطها بانهيار الدولة التي كان من المفترض أن يدافع عنها. قصة تسع سنوات في قمة المؤسسة العسكرية تنتهي بسقوط العاصمة واتهامات بالخيانة، هي قصة لا تنفصل عن مأساة اليمن الحديث وتعقيدات بنيته السياسية والاجتماعية العميقة. إنها تذكير صارخ بأن المناصب العليا، في زمن الأزمات، ليست امتيازاً، بل هي محك حقيقي للولاء والكفاءة والحس الوطني، تاركةً إرثاً إما أن يُحتَفى به، أو يُدان إلى الأبد، في سجلات التاريخ.