مقدمة: شهر محرم وأهميته الدينية
شهر محرم هو الشهر الأول في التقويم الهجري، ويحظى بمكانة دينية عظيمة لدى المسلمين عامة، ولدى الشيعة على وجه الخصوص. يعتبر هذا الشهر رمزاً للتضحية والثبات في سبيل الحق، حيث تُحيى فيه ذكرى أهم الأحداث التاريخية التي شكلت الهوية الدينية للطائفة الشيعية.
بالنسبة للشيعة، ليس شهر محرم مجرد بداية للسنة الهجرية، بل هو شهر الحزن والعزاء على استشهاد الإمام الحسين بن علي (ع) وأهل بيته وأصحابه في واقعة كربلاء التي وقعت في العاشر من محرم سنة 61 هـ. وتُقام خلال هذا الشهر طقوسٌ ومجالسُ عزاء متنوعة تعكس مدى ارتباط الشيعة بهذه الذكرى الأليمة، والتي تُعتبر من أهم المناسبات الدينية في المذهب الشيعي.
في هذا المقال، سنستعرض بالتفصيل أهم المناسبات التي يُحييها الشيعة في شهر محرم، والطقوس المرتبطة بها، والتطور التاريخي لإقامة هذه الشعائر، بالإضافة إلى الفروقات بين رؤية الشيعة والسنة لهذا الشهر الفضيل.
الفصل الأول: أهم المناسبات الدينية في شهر محرم عند الشيعة
يمتلئ شهر محرم بعدد من الأحداث التاريخية التي تحظى باهتمام بالغ من قبل الشيعة، حيث تُقام المجالس والمواكب لإحياء هذه الذكريات. وفيما يلي أبرز هذه المناسبات:
1. اليوم الأول من محرم: رأس السنة الهجرية
يُعتبر أول محرم بدايةً للتقويم الهجري، ويحتفل به المسلمون كبداية للسنة الجديدة. ومع أن هذا اليوم يحمل طابعاً فرحياً عند بعض الطوائف، إلا أن الشيعة يحيونه في إطار الحزن على مأساة كربلاء، حيث تبدأ معه أيام العزاء على الإمام الحسين (ع).
2. اليوم الثاني من محرم: وصول الإمام الحسين إلى كربلاء
في هذا اليوم وصل الإمام الحسين (ع) وأهل بيته إلى أرض كربلاء بعد رحلة طويلة من المدينة المنورة، حيث حاصرتهم جيوش يزيد بن معاوية ومنعوهم من الوصول إلى الماء. يُحيي الشيعة هذه الذكرى بقراءة القصائد الحزينة وسرد تفاصيل الرحلة وما لاقاه الإمام وأصحابه من ظلمٍ وعطش.
3. من 2 إلى 9 محرم: إحياء ذكرى استشهاد الإمام الحسين
تُعرف هذه الفترة بـ “العشر الأوائل من محرم”، حيث تُقام المجالس الحسينية يومياً، ويتم فيها سرد أحداث معركة كربلاء، وذكر مظلومية أهل البيت (ع)، وتُقرأ المقاتل (كتب تحكي تفاصيل الواقعة) لإبكاء الحاضرين.
4. اليوم العاشر من محرم: يوم عاشوراء
هو اليوم الأكثر أهمية في شهر محرم، حيث شهد استشهاد الإمام الحسين (ع) وأهل بيته وأنصاره في معركة كربلاء. يُحيي الشيعة هذا اليوم بالحزن الشديد، حيث تقام المواكب العزائية، ويُمارس اللطم على الصدور، وتُقرأ القصائد الرثائية، كما تُقام مسرحيات تعيد تمثيل الواقعة (التشابيه).
في بعض الدول ذات الأغلبية الشيعية مثل العراق وإيران، يكون يوم عاشوراء عطلة رسمية، وتُغلق الأسواق والمؤسسات احتراماً لهذه الذكرى.
5. اليوم الحادي عشر من محرم: مسير السبايا إلى الكوفة
بعد معركة كربلاء، سُبيت نساء وأطفال أهل البيت (ع) وسُيقوا إلى الكوفة ثم إلى الشام. يُحيي الشيعة هذه الذكرى بإقامة مجالس العزاء، وخاصةً في “ليلة الوحشة” التي تُضاء فيها الشموع تعبيراً عن وحشة الإمام الحسين (ع) بعد مقتله.
6. اليوم الثالث عشر من محرم: دفن شهداء كربلاء
في هذا اليوم دُفن شهداء كربلاء بمساعدة قبيلة بني أسد، ويُقام العزاء على الأجساد الطاهرة التي ظلت ثلاثة أيام ملقاة في العراء دون دفن.
7. اليوم الخامس والعشرين من محرم: شهادة الإمام زين العابدين (ع)
يُعتبر الإمام زين العابدين (ع) من أهم الأئمة عند الشيعة، حيث استمر بنشر تعاليم الإسلام بعد واقعة كربلاء. يُقام العزاء عليه في هذا اليوم، وتُقرأ الزيارات الخاصة به.
الفصل الثاني: الطقوس والشعائر الشيعية في شهر محرم
تتنوع الطقوس التي يمارسها الشيعة في شهر محرم، وتختلف من بلد إلى آخر، ولكنها تشترك في الهدف نفسه، وهو إحياء ذكرى استشهاد الإمام الحسين (ع). ومن أبرز هذه الشعائر:
1. إقامة المجالس الحسينية
تُعقد المجالس في الحسينيات والمساجد والبيوت، حيث يلقي الخطباء قصصاً عن معركة كربلاء، ويقرأ الرادود الحسيني القصائد المبكية، ويُشارك الحضور بالبكاء واللطم.
2. المواكب العزائية
تخرج المواكب في الشوارع، حاملةً رايات سوداء وعلامات الحداد، ويُردد المشاركون هتافات مثل “يا حسين” و”لَبَّيْكَ يَا حُسَيْن”.
3. التطبير وضرب السلاسل
في بعض المناطق، يمارس البعض طقوساً مثل التطبير (ضرب الرؤوس بالسيوف) أو ضرب الظهور بالسلاسل، تعبيراً عن الحزن. ورغم أن بعض المراجع الدينية لا تشجع هذه الممارسات، إلا أنها لا تزال موجودة في بعض المجتمعات الشيعية.
4. إقامة مسرحيات “التشابيه”
تُقام عروض مسرحية تعيد تمثيل أحداث كربلاء، خاصةً في يوم عاشوراء، حيث يُجسّد الممثلون شخصيات المعركة مثل الإمام الحسين (ع) والعباس (ع) وشمر بن ذي الجوشن.
5. إطعام الزوار (الموائد الحسينية)
تُنظم موائد طعام مجانية للزوار والمشاركين في المجالس، وتُسمى “الموائد الحسينية”، حيث يُعتبر إطعام الناس في هذا الشهر من الأعمال المستحبة.
الفصل الثالث: التطور التاريخي لإحياء مناسبات محرم عند الشيعة
لم تكن شعائر محرم بالشكل الحالي منذ البداية، بل مرت بمراحل تطور عبر التاريخ:
1. العهد الأموي والعباسي
بعد واقعة كربلاء، منع الحكام الأمويون إقامة أي مظاهر عزاء على الحسين (ع)، لكن الشيعة كانوا يقيمون المجالس سراً في البيوت.
2. العهد البويهي (القرن الرابع الهجري)
مع صعود الدولة البويهية الشيعية في العراق وإيران، أصبحت شعائر محرم رسمية، حيث أُعلنت أيام العزاء عطلاً رسمية، وأُقيمت المواكب العلنية.
3. العهد الصفوي (القرن العاشر الهجري)
جعلت الدولة الصفوية المذهب الشيعي مذهباً رسمياً لإيران، واهتمت بنشر شعائر محرم، حيث كان الملوك يشاركون في المواكب.
4. العهد الحديث
اليوم، تُقام شعائر محرم في كل الدول الشيعية، وأصبحت كربلاء والنجف مركزاً عالمياً للملايين الذين يزورونها في الأربعينية (زيارة الأربعين).
الفصل الرابع: الفرق بين رؤية الشيعة والسنة لشهر محرم
- عند الشيعة: هو شهر عزاء على الإمام الحسين (ع)، وتُقام فيه الطقوس الحزينة.
- عند السنة: هو شهر عبادة وصيام، حيث يُستحب صوم يوم عاشوراء لأنه اليوم الذي نجا فيه النبي موسى من فرعون.
الخاتمة
شهر محرم ليس مجرد شهر في التقويم الهجري، بل هو رمز للثبات في وجه الظلم عند الشيعة. من خلال إحياء هذه المناسبات، يُجدد الشيعة ارتباطهم بقيم الإمام الحسين (ع) وتضحياته. ورغم الاختلاف في الطقوس بين المذاهب، يبقى شهر محرم فرصةً للمسلمين للتقرب إلى الله بالعبادة والتضحية.