في خارطة القبائل العربية العريقة، تبرز قبيلة “الحشيبري” (أو الحشابرة) كواحدة من الكيانات الاجتماعية المهمة التي حفرت اسمها بعمق في تاريخ اليمن وجزيرة العرب. السؤال المتكرر ” الحشيبري وش يرجع ؟” ليس مجرد استفسار عن نسب، بل هو استكشاف لمسار تاريخي حافل، وامتداد جغرافي واسع، وإرث ثقافي واجتماعي متجذر. هذا المقال يستدل من بطون الكتب والمصادر الموثوقة، ليروي حكاية هذه القبيلة، من جذورها الضاربة في عمق التاريخ إلى فروعها الممتدة في حاضر اليمن، مستخدمًا أسلوب الهرم المقلوب ليقدم لك الجوهر أولًا، ثم يغوص في التفاصيل الثرية التي تشكل الإجابة الشاملة.
الأصول التاريخية: الحشيبري وش يرجع؟ جذور ضاربة في بني سعد وقرابة نبوية
لبّ الإجابة على سؤال “الحشيبري وش يرجع؟” يكمن في النسب الذي تتفق عليه المصادر التاريخية المعتبرة. ترجع قبيلة الحشيبري في أصلها ونسبها إلى قبيلة “بني سعد” العربية العريقة. والأهم من ذلك، أن بني سعد هؤلاء هم تحديدًا أولاد ضمرة بن الحارث، وهذا الرابط يكتسب أهمية كبرى في السياق الإسلامي، إذ أن الحارث بن عبد العزى هو والد حليمة السعدية، المرضعة الشهيرة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم. وهذا يجعل ضمرة بن الحارث أخًا للنبي صلى الله عليه وسلم في الرضاعة.
هذه القرابة الروحية والدموية المميزة شكلت مصدر فخر كبير لقبيلة الحشيبري عبر العصور. ولهذا النسب الرفيع، اكتسبت القبيلة احترامًا ومكانة مميزة في الوسط اليمني والعربي، وأصبح بعض الناس يلقبونها بـ “قبائل السادة”، ليس بالمعنى الاصطلاحي الضيق للسادة الأشراف من ذرية آل البيت، بل احترامًا وتقديرًا لهذا المقام الرفيع في صحبة النبي صلى الله عليه وسلم وقرابته من خلال الرضاعة. وهي مكانة اعترف بها الوسط الاجتماعي والثقافي في المنطقة.
الموطن الأصلي: البدايات في بادية بني سعد بين مكة والطائف
على عكس الاعتقاد الشائع بأن اليمن هي الموطن الأول للحشابرة، تشير المصادر التاريخية الموثوقة بوضوح إلى أن الموطن الأصلي الأقدم لقبيلة الحشيبري يقع خارج اليمن. العالم والمؤرخ السعودي الكبير حمد الجاسر، في موسوعته القيمة “معجم قبائل المملكة العربية السعودية”، يحدد هذا الموطن بدقة. فقد كانت قرية “البطنين” في بادية بني سعد، الواقعة في المنطقة الفاصلة بين مدينتي الطائف ومكة المكرمة في الحجاز، هي المهد الأول الذي انطلقت منه هذه القبيلة.
هذا التوثيق الجغرافي المهم ينسجم مع النسب الذي يرجع لبني سعد، القبيلة الحجازية المعروفة التي استضافت النبي صلى الله عليه وسلم في طفولته. هجرة لاحقة، أو تحركات قبلية مع الزمن، هي التي أدت إلى استقرار فرع كبير من الحشابرة في اليمن، حيث اشتهروا وأصبح وجودهم بارزًا. ذكرهم أيضًا المؤرخ اليمني الكبير محمد بن علي الشوكاني في كتابه “طلع البدر في أعيان القرن الثالث عشر”، مما يؤكد مكانتهم في النسيج اليمني.
الامتداد الجغرافي في اليمن: من تهامة إلى المرتفعات
على الرغم من أصولهم الحجازية، أصبح اليمن هو الحاضنة الرئيسية والأكثر كثافة لقبيلة الحشيبري عبر القرون. توزع وجودهم بشكل لافت في عدة محافظات ومناطق يمنية حيوية، مما يعكس قوتهم وقدرتهم على التوطن والاندماج:
- تهامة ومركز الثقل (الزيدية وزبيد): تعتبر منطقة تهامة، وتحديدًا في مديرية الزيدية ومدينة زبيد التاريخية، القلب النابض والحاضن الأكبر لتجمعات الحشابرة. هنا يتواجدون بكثافة سكانية عالية، ويمارسون أدوارًا اجتماعية واقتصادية وسياسية مؤثرة. طبيعة تهامة الساحلية والزراعية شكلت جانبًا من هويتهم المعاصرة.
- تعز وحوض الأشراف: في محافظة تعز، وتحديدًا في منطقة “حوض الأشراف”، يوجد تجمع مهم آخر للحشيبري. تعز، بكونها مركزًا ثقافيًا وتاريخيًا رئيسيًا في اليمن، منحت القبيلة حضورًا في سياق حضري وإداري مؤثر.
- إب ومدينة اللواء الأخضر: الامتداد إلى المرتفعات الوسطى تمثل في وجود للحشابرة في محافظة إب الخضراء، المعروفة بجمال طبيعتها وغناها الزراعي، وخصوصًا في مدينة اللواء الأخضر. هذا التواجد يظهر قدرة القبيلة على التكيف مع بيئات جغرافية متنوعة.
- العاصمة صنعاء: كأي قبيلة يمنية كبرى، لم يغب الحشابرة عن العاصمة صنعاء. وجودهم فيها يعكس مشاركتهم في الحياة السياسية والإدارية والاقتصادية المركزية للبلاد عبر فترات مختلفة. ربما تكون هناك قرية أو منطقة تحمل اسم القبيلة أو إحدى فخوذها قرب صنعاء كما ورد في بعض الروايات.
هذا التوزيع الجغرافي الواسع داخل اليمن نفسه يشهد على حجم القبيلة وقدرتها على الانتشار والاستقرار في بيئات متنوعة، من الساحل التهامي الحار إلى مرتفعات إب المعتدلة وصنعاء الباردة.
الفخوذ والعشائر: النسيج الداخلي لقبيلة الحشيبري
مثل أي كيان قبلي كبير، تتكون قبيلة الحشيبري من مجموعة من الفخوذ والعشائر المترابطة بنسب أو تحالف. هذه البنية الداخلية هي التي تعطي القبيلة تماسكها وقدرتها على التنظيم. تشمل أبرز فخوذ الحشابرة (مع التنويه أن القائمة قد لا تكون حصرية ويمكن أن تختلف باختلاف المصادر الشفهية والمحلية):
- آل الهبة: يُعدون من الفخوذ الرئيسية المعروفة بقوتها ونفوذها الاجتماعي.
- آل الفقهاء: يشير الاسم إلى احتمال تخصص بعض أفرادها في العلم الشرعي أو القضاء في فترات تاريخية.
- آل المساوى: فخذ له مكانته وتمثيله ضمن البنية القبلية.
- آل المدني: قد تشير إلى فرع ارتبط بالمدينة المنورة أو له صلة بها في مرحلة ما.
- آل محجوب: فخذ معروف ومحترم ضمن التركيبة القبلية.
- آل بني البد: اسم يشير إلى تميزهم أو انتمائهم الفرعي القديم.
- آل المعافا: فخذ بارز، واسم قد يدل على الصلاح أو البركة في الاعتقاد المحلي.
- آل المشهور: اسم يوحي بانتشارهم أو شهرة فرعهم.
- آل شعيل: من الفخوذ المهمة والمتماسكة.
- آل عسلة: فخذ معروف له وزنه الاجتماعي.
- آل البلامي: فخذ ذو حضور في مناطق معينة.
- آل عجلان: من الفخوذ المعترف بها والمحسوبة على القبيلة.
- آل الأشخر: فخذ له تميزه وربما يرتبط باسم مكان.
- آل الهجن: اسم قد يشير إلى ارتباط بالخيول أو الإبل الهجينة (الهجن) في الماضي.
- آل الدحيب: فخذ معروف ضمن نسيج القبيلة.
هذه الفخوذ تشكل معًا الهيكل العظمي للقبيلة، ولكل فخذ مشيخته الخاصة وشخصياته البارزة، ويرتبطون جميعًا بالاسم الجامع “الحشيبري” والنسب الأصيل إلى بني سعد. العلاقة بين هذه الفخوذ تتراوح بين التضامن في مواجهة الخارج، والتعاون في الشؤون الاجتماعية، وأحيانًا التنافس الطبيعي على الموارد والنفوذ، لكن الإطار العام يبقى هو الانتماء القبلي الموحد.
المصادر التاريخية: شهادات علماء على أصالة النسب والوجود
لا تقف الإجابة على سؤال “الحشيبري وش يرجع؟” عند الروايات الشفهية، بل تستند بشكل أساسي إلى توثيق علماء ومؤرخين معتبرين عبر العصور. ذكرنا دور حمد الجاسر في تحديد الموطن الأصلي في الحجاز. أما في اليمن، فتوثق المصادر اليمنية حضورهم:
- الشوكاني و”طلع البدر”: ذكر المؤرخ والفقه الشهير محمد بن علي الشوكاني (ت 1834م) الحشابرة في كتابه الضخم “طلع البدر في أعيان القرن الثالث عشر”، وهو كتاب تراجم يوثق لأعلام اليمن في ذلك القرن. ذكره لهم ضمن أعيان اليمن يشير بوضوح إلى مكانتهم الاجتماعية والعلمية أو القيادية البارزة في ذلك الزمن.
- الشرجي و”طبقات الخواص”: العالم عبد الرحمن بن علي الشرجي (ت 1427م تقريبًا) أدرج ذكرًا للحشابرة في كتابه “طبقات الخواص من أهل الصدق والإخلاص”، وهو كتاب يركز على الصالحين والعلماء. هذا يدل على أن من أفراد القبيلة من بلغوا مراتب في العلم والصلاح جعلتهم يستحقون التوثيق في مثل هذا المصدر المتخصص.
- القاضي الحجري و”مجموعة بلدان اليمن وقبائلها”: المؤرخ والقاضي محمد بن أحمد الحجري (ت 1941م) خصص كتابًا قيمًا للجغرافيا والأنساب اليمنية بعنوان “مجموعة بلدان اليمن وقبائلها”. وجود الحشابرة في هذا الكتاب المتخصص في قبائل اليمن وبلدانها هو دليل قاطع على اعتبارهم قبيلة يمنية رئيسية وذات حضور جغرافي وتاريخي مؤثر ضمن نسيج القبائل اليمنية.
هذه الشهادات التاريخية المتعددة والمتنوعة (من حجازي ويمنيين، ومن كتب تراجم وطبقات وجغرافيا وأنساب) تقدم دليلًا متينًا لا يقبل الشك على أصالة نسب الحشيبري إلى بني سعد، وأصالة وجودهم وكثافتهم في اليمن، ومكانتهم الاجتماعية والعلمية التي حظوا بها عبر القرون. هم ليسوا قبيلة حديثة الظهور أو هامشية، بل جزء أصيل من التاريخ الاجتماعي والسياسي لليمن.
المكانة الاجتماعية والإرث الثقافي: بين النسب الرفيع والواقع المعاصر
تمنح قرابة الحشيبري النسبية من أخ النبي صلى الله عليه وسلم في الرضاعة (ضمرة بن الحارث) مكانة معنوية وأدبية خاصة لهم في الوسط اليمني والعربي عموماً. هذا الإرث الروحي يحمل قيمة كبرى في الثقافة العربية الإسلامية التي تقدّر صحبة النبي صلى الله عليه وسلم وأقاربه. وهو ما يفسر تلقيبهم أحيانًا بـ “قبائل السادة” كتعبير عن التبجيل والتقدير لهذا المقام، وليس بالضرورة انتماءً لذرية النبي من آل البيت بالمعنى النسبي الدقيق.
في الواقع المعاصر، تشارك قبيلة الحشيبري، كغيرها من القبائل اليمنية الكبرى، في تشكيل المشهد الاجتماعي والسياسي اليمني بكل تعقيداته. لهم مشايخهم وشخصياتهم البارزة في مختلف المجالات: السياسة، الاقتصاد، التعليم، وحتى المجال العسكري والأمني. قيم الكرم، والشجاعة، والنجدة، وحماية الجار، والالتزام بالعرف القبلي والعادات الأصيلة، هي قيم راسخة تشكل جزءًا من هوية الحشيبري كما هو حال القبائل العربية الأصيلة. كما أن لهم عاداتهم وتقاليدهم الخاصة في المناسبات كالأعراس والأعياد وفض النزاعات، والتي تتداخل مع العادات اليمنية العامة مع احتفاظها ببعض الخصوصية.
التحديات والهوية في الزمن الراهن
تواجه قبيلة الحشيبري، شأنها شأن المجتمع اليمني ككل، تحديات جسام في العقود الأخيرة. الصراعات السياسية والأزمات الاقتصادية الطاحنة، والنزوح الداخلي الناتج عن الحروب، كلها عوامل تضغط على النسيج الاجتماعي التقليدي للقبيلة وتؤثر على تماسكها الداخلي وعلاقاتها مع القبائل الأخرى. الهجرة بحثًا عن العمل والاستقرار، سواء داخل اليمن أو إلى دول الخليج، أدت إلى تشتت بعض أفراد القبيلة، مما يطرح تساؤلات حول الحفاظ على الترابط القبلي في الأجيال القادمة.
رغم هذه التحديات، تظل هوية “الحشيبري” مصدر فخر وانتماء قوي لأبنائها. الذاكرة الجماعية تحافظ على تاريخ النسب الرفيع والامتداد الجغرافي. يبقى السؤال “الحشيبري وش يرجع؟” ليس مجرد استعادة للماضي، بل تأكيد على استمرارية الهوية واستمرار الدور الاجتماعي في تشكيل مستقبل اليمن، وإن كان ذلك في إطار متغيرات العصر وتعقيداته.
خاتمة: الحشيبري.. جذور في التاريخ وامتداد في الجغرافيا
الإجابة الشاملة على سؤال “الحشيبري وش يرجع؟” تكشف عن طبقات متعددة من الهوية والتاريخ. هم في الأصل ينتمون إلى قبيلة بني سعد الحجازية العريقة، ويرتبطون بقرابة روحية ونسبية مع أخ النبي صلى الله عليه وسلم في الرضاعة، ضمرة بن الحارث. موطنهم الأصلي كان قرية البطنين في بادية بني سعد بين مكة والطائف. هاجر فرع رئيسي منهم لليمن، حيث أصبحوا أحد القبائل اليمنية الكبيرة والمهمة، منتشرين بكثافة في تهامة (الزيدية وزبيد)، وفي تعز (حوض الأشراف)، وفي إب (اللواء الأخضر)، وفي العاصمة صنعاء، مع وجود محتمل في مناطق أخرى.
تتكون القبيلة من فخوذ وعشائر عديدة (كآل الهبة، آل الفقهاء، آل المساوى، آل المدني، وآل محجوب وغيرهم) تشكل نسيجها الداخلي. توثق المصادر التاريخية الموثوقة (كحمد الجاسر، الشوكاني، الشرجي، القاضي الحجري) نسبهم ووجودهم ومكانتهم. يحملون مكانة اجتماعية معنوية مرموقة بسبب نسبهم، ويعيشون واقعًا معاصرًا مليئًا بالتحديات كبقية اليمن، لكن هويتهم القبلية وإرثهم التاريخي يظلان حيين في ذاكرة أبنائهم، شاهديْن على رحلة قبيلة عربية من بادية الحجاز إلى قلب اليمن السعيد، حافظت على اسمها ووجودها عبر حقب التاريخ. فهم ليسوا مجرد اسم في قائمة قبائل، بل هم جزء حي من نسيج الأرض والإنسان في جزيرة العرب.