يتناول هذا المقال اصل قبيلة المباركي وتمثل قبيلة المباركي (المعروفة أيضًا بآل الشيخ مبارك) نموذجًا فريدًا للقبيلة العربية التي حافظت على جذورها الضاربة في التاريخ، بينما نسجت خيوطًا من العلم والثقافة والنفوذ الاجتماعي عبر أرجاء شبه الجزيرة العربية وخارجها. هذا التقرير الشامل يتجاوز السرد المقتضب ليقدم دراسة معمقة لتاريخ هذه العائلة العريقة، أصولها، هجراتها، فروعها، شخصياتها البارزة، وانتشارها الجغرافي الواسع، مستندًا إلى المصادر التاريخية ومراجع الأنساب الموثوقة.
اصل قبيلة المباركي
- الأصول النجدية الضاربة: تجمع المصادر التاريخية ومراجع الأنساب على أن أصول قبيلة المباركي تعود إلى بني تميم، إحدى أشهر وأعرق قبائل العرب في نجد. فهم ينتمون تحديدًا إلى عمرو بن تميم، ثم إلى بني جندب بن العنبر.
- موطن الأجداد الأول: استقر فرع من هؤلاء الأسلاف في بلدة القفار، الواقعة في إقليم الجبل بمنطقة حائل في شمال نجد. كانت القفار مركزًا مهمًا لبني تميم.
- الهجرة الكبرى (القرن 8 الهجري / 14 الميلادي): في منعطف تاريخي مهم، هاجر قسم من هؤلاء التميميين، عُرفوا باسم آل مزروع، من موطنهم في القفار باتجاه الشرق. استقر هؤلاء المهاجرون في عدة مواطن جديدة، أبرزها:
- روضة سدير: إحدى مدن إقليم سدير الخصيب شمال الرياض.
- القارة: بلدة معروفة في منطقة الأحساء بالمنطقة الشرقية.
- مواقع أخرى: كما تشير الروايات إلى استقرارهم في مناطق أخرى غير محددة بدقة في تلك الحقبة.
- الانتقال إلى الأحساء والاستقرار: تظهر السجلات بوضوح أن أحد أبرز أفراد هذه الهجرة، قاسم بن حمد النجدي (جد الشيخ مبارك لاحقًا)، استقر مع عائلته في الأحساء، وبالتحديد في محلة السياسب بمدينة المبرز. أصبحت العائلة تعرف في محيطها الجديد باسم “آل حمد النجدي”، نسبة إلى جدهم حمد وإلى أصلهم النجدي، واشتهرت المحلة والبئر فيها باسمهم.
الشيخ مبارك بن علي: النجم المتألق ومحور التحول
- الميلاد والنشأة: ولد مبارك بن علي الأحسائي حوالي عام 1150 هـ (1737 م) في المبرز بالأحساء، في كنف عائلة آل حمد النجدي التي كانت معروفة بالتقوى والعلم.
- التميز العلمي والقضائي: برع الشيخ مبارك في علوم الشريعة الإسلامية، متخصصًا في الفقه المالكي. نال مكانة علمية مرموقة، وتقلد منصب القضاء في الأحساء في عقد 1190 هـ (حوالي 1770 م). كان حكمه موضع ثقة واحترام المجتمع، واتسم بالعدل والحكمة والفهم العميق للنوازل.
- تحول هوية العائلة: كان لبروز الشيخ مبارك العلمي والقضائي أثر بالغ في تحول هوية العائلة. فبينما كانت تعرف سابقًا بـ”آل حمد النجدي”، أصبحت تُعرف تدريجيًا واشتهرت على نطاق واسع بـ“آل الشيخ مبارك”، نسبة إلى هذا العالم الجليل الذي أصبح علماً بذاته.
- اللقب وتمييز الهوية: واجه أبناء الشيخ مبارك وأحفاده تحديًا في توحيد النسبة الكتابية في الوثائق الرسمية والأختام. فظهرت كتابات مثل “ابن مبارك”، “ابن مبارك بن حمد”، “بن الشيخ مبارك”. ومع مرور الوقت، استقر الأمر لدى أحفاده على نسبة أنفسهم مباشرة إلى “الشيخ مبارك” تمييزًا لهم ولإرثه. واجهوا لاحقًا تشابهًا في الأسماء مع عائلات أخرى مرموقة مثل “آل الشيخ” (ذرية الشيخ محمد بن عبد الوهاب في نجد) و”آل مبارك” من أسرة الصباح الحاكمة في الكويت. لذا، وبمبادرة من عميد الأسرة لاحقًا (يوسف بن راشد)، وبتصريح رسمي من وكالة وزارة الداخلية للأحوال المدنية في القرن الرابع عشر الهجري، استقر الاسم الرسمي على “آل الشيخ مبارك” للتفرد والتمييز.
- الإرث والوفاة: ترك الشيخ مبارك إرثًا علميًا وأخلاقيًا ضخمًا، تلقفه أبناؤه وأحفاده. توفي حوالي عام 1230 هـ (1815 م) بعد حياة حافلة بالعلم والقضاء.
شجرة عائلة المباركي
لم تشتهر عائلة الشيخ مبارك بكثرة الفروع القبلية التقليدية بقدر ما اشتهرت بسلالة واحدة متفرعة أنجبت عددًا كبيرًا من العلماء والأدباء والمثقفين. فهم أسرة علم وحكم أكثر من كونهم قبيلة بفخوذ متعددة. يركز النسب على ذرية الشيخ مبارك بن علي، وأبرز أبنائه الذين شكلوا أعمدة الأسرة:
- عبد اللطيف بن مبارك (ح. 1788 – 1868): خلف والده في العلم والقضاء، وكان فقيهًا مالكيًا وقاضيًا مرموقًا في الأحساء. يعتبر المؤسس الفعلي لسلالة العلماء في الأسرة.
- عبد الرحمن بن عبد اللطيف (1837 – 1892): جمع بين العلم والسياسة، وكان قاضيًا مالكيًا بارزًا.
- إبراهيم بن عبد اللطيف (1849 – 1932): فقيه مالكي ومدرس ديني شهير، واصل مسيرة العلم ونشر المعرفة.
- راشد بن عبد اللطيف (1857 – 1922): فقيه مالكي ومدرس ديني، اشتهر أيضًا بأنه مؤسس حي الصالحية في الهفوف بالأحساء، وهو حي لا يزال يحمل الاسم حتى اليوم ويعد من أحيائها التاريخية.
- أبناء آخرون للشيخ مبارك وأحفاد بارزون: برز من الأبناء والأحفاد شخصيات لامعة في مجالات متعددة:
- عبد العزيز بن حمد (1862 – 1941): فقيه مالكي وشاعر معروف.
- عبد اللطيف بن إبراهيم (1871 – 1923): فقيه مالكي ومدرس وشاعر.
- عبد العزيز بن عبد اللطيف (1892 – 1924): شاعر واعد رحل شابًا.
- يوسف بن راشد (1900 – 1995): فقيه مالكي ومؤرخ مهم، له إسهامات في توثيق تاريخ الأحساء والأسرة، وكان له دور في توحيد اسم العائلة.
- أحمد بن عبد العزيز (1908 – 1988): قاضي وفقيه مالكي مرموق.
- عبد الرحمن بن علي (1909 – 2001): فقيه وقاضي مالكي وشاعر.
- أحمد بن راشد (ح. 1914 – 1995): شاعر وصحفي.
- عبد الله بن علي (1921 – 2014): مؤرخ أدبي وأكاديمي مرموق، كان عميدًا للأسرة قبل وفاته.
- أحمد بن علي (1922 – 2010): كاتب وشاعر ودبلوماسي سعودي.
- راشد بن عبد العزيز (1935 – 2015): أستاذ جامعي وشاعر وكاتب.
- قيس بن محمد (1960 – ): فقيه مالكي معاصر وأستاذ أكاديمي، يمثل الجيل الحالي من علماء الأسرة.
- فهد بن عبد الله (1955 – ): اقتصادي وإداري بارز.
عائلة المباركي في السعودية
- الاستقرار والتجذر: ظلت الأحساء، وتحديدًا مدينتا الهفوف والمبرز، الموطن الرئيسي والأكثر تجذرًا لعائلة آل الشيخ مبارك منذ استقرار قاسم بن حمد النجدي فيها.
- حي الصالحية: يشكل تأسيس راشد بن عبد اللطيف لحي الصالحية في الهفوف علامة فارقة في تاريخ العائلة وارتباطها بالأحساء. أصبح الحي مركزًا سكنيًا وعلميًا لأفرادها.
- مجلس الأسرة: للعائلة مجلس معروف في حي البصيرة بالهفوف، وهو بمثابة صالون ثقافي واجتماعي يجمع أفرادها ويرعى شؤونهم، ويمثل رمزًا لوحدتهم ووجاهتهم الاجتماعية.
- العمادة: يتولى شؤون العائلة عميد يُختار من كبارها وعقلائها. بعد وفاة عبد الله بن إبراهيم آل الشيخ مبارك في 4 مايو 2014، أصبح إبراهيم بن يوسف آل الشيخ مبارك عميد الأسرة.
قبيلة المباركي جازان
- الوجود القبلي: في منطقة جازان جنوب غرب السعودية، يوجد فرع لقبيلة المباركي (آل الشيخ مبارك) يحمل الطابع القبلي بشكل أوضح، وإن كان يشارك نفس الأصول التميمية والنسب إلى الشيخ مبارك أو فرع قريب منه. يُعتبرون من القبائل البارزة والمحترمة في المنطقة.
- مركز التواجد: يتركز وجودهم بشكل ملحوظ في محافظة صامطة وعدد من القرى والهجر التابعة لها في منطقة جازان.
- المظاهر الاجتماعية البارزة:
- حفل المعايدة السنوي: تشتهر قبيلة المباركي في جازان بإقامة حفل ضخم لمعايدة أبناء القبيلة وكبار المنطقة في عيد الفطر المبارك سنويًا. يمثل هذا الحفل تقليدًا اجتماعيًا راسخًا يعكس التماسك القبلي والوجاهة الاجتماعية.
- التكريم والرعاية: تلعب القبيلة دورًا فاعلاً في رعاية أبنائها وتحفيزهم. تشتهر بتكريم الطلاب المتفوقين دراسيًا، والمتميزين في مختلف المجالات، والأشخاص البارزين في العمل الخيري والاجتماعي، مما يعزز قيم التفوق والعطاء داخل المجتمع القبلي.
- التميز في المشهد القبلي: على الرغم من تنوع القبائل في جازان (مثل بني شبيل، بني شراحيل)، فإن لقبيلة المباركي مكانة متميزة ونفوذاً اجتماعياً واضحاً، مدعومًا بحضورها الفاعل وتقاليدها الراسخة مثل حفل المعايدة وأنشطة التكريم.
قبيلة المباركي في الكويت
- هجرة متأخرة نسبيًا: قدم فرع من عائلة المباركي إلى الكويت في فترة زمنية تُرجعها بعض المصادر إلى النصف الأول من القرن العشرين أو ما قبله بقليل، قادمين من وادي الدواسر في نجد (مما قد يشير إلى صلة بفرع آل مزروع القديم أو فرع آخر).
- موطن الاستقرار: استقر هؤلاء الوافدون الجدد في منطقة جبلة (الجبلة) داخل مدينة الكويت القديمة.
- الاندماج في النسيج الاقتصادي: برز أفراد هذه الأسرة في مجالات اقتصادية حيوية ارتبطت بتاريخ الكويت:
- الطواويش (تجار اللؤلؤ): مثل جاسم محمد المباركي.
- النواخذة (قادة سفن الغوص): مثل مبارك جاسم المباركي، حمد مبارك المباركي، عبدالله محمد المباركي، خالد محمد المباركي. يوضح هذا دورهم البارز في صناعة اللؤلؤ التي كانت عماد الاقتصاد الكويتي.
- الشخصيات المعاصرة: من أبرز شخصيات هذا الفرع في العصر الحديث السفير جاسم مبارك المباركي، ممثلاً انتقال العائلة من المجالات التقليدية إلى مواقع دبلوماسية رفيعة.
- نسيج المصاهرات: مثل معظم الأسر الكويتية الأصيلة، نسجت أسرة المباركي في الكويت شبكة واسعة من المصاهرات مع عائلات كويتية مرموقة، تشمل: الصلال (من شمر)، الدوسري، المشاري (الزبير)، الوقيان، اللافي، الكليب، بورسلي، السرحان، الصرعاوي، العصفور (جبلة)، الفريح، الحوطي، الطيار، النصف، العتيبي، المزيني، العتيقي، الجارالله، والدخيل. تعكس هذه المصاهرات مكانتهم الاجتماعية وقدرتهم على الاندماج في النسيج الاجتماعي الكويتي.
عائلة المباركي في الجزائر ودول المغرب العربي
- تشابه الأسماء واختلاف الأصول: من المهم التمييز بين عائلة آل الشيخ مبارك في الجزيرة العربية وعائلات تحمل لقب “مباركي” في الجزائر ودول المغرب العربي (تونس، ليبيا، المغرب) وحتى في مالي وموريتانيا. هذا تشابه في اللقب وليس بالضرورة اتصالاً في النسب القريب.
- الأصول الشريفة (الإدريسية): تنحدر أهم العائلات الجزائرية التي تحمل لقب “مباركي” من أصول شريفة، تعود إلى الأدارسة (ذرية الإمام إدريس بن عبد الله الكامل)، وهم من الحسنيين أو الحسينيين.
- الفروع الرئيسية في الجزائر: تُذكر عائلتان رئيسيتان:
- المباركي العمراني الجوطي الإدريسي الحسني الهاشمي: فرع من الأشراف الإدريسيين.
- المباركي المحمدي الإدريسي الحسني الهاشمي: فرع آخر من الأشراف الإدريسيين.
- أصول مغربية: غالبًا ما تعود جذور هذه العائلات الجزائرية إلى مناطق في المغرب، مثل منطقة الغرب (تطوان، شفشاون، وزان) قبل هجرتها واستقرارها في غرب الجزائر (مثل تلمسان، معسكر، مستغانم).
- عائلات أخرى في الحجاز وتهامة: تجدر الإشارة أيضًا إلى وجود عائلات تحمل اسم “مباركي” في منطقة الحجاز وتهاما بغرب السعودية. بينها:
- سادة أشراف: مثل بني مبارك العجلاني الحمزي الرسي الغمري الحسني الهاشمي، الذين ينتسبون إلى الشريف مبارك بن أحمد بن زيد… بن رميثة بن محمد أبو نمي الثاني.
- قبائل عربية: قد تحمل بعض القبائل أو العشائر في هذه المنطقة نفس اللقب دون صلة نسب مباشرة مع الأسرتين السابقتين.
الخاتمة: إرث متجدد
قبيلة المباركي، أو آل الشيخ مبارك، ليست مجرد اسم في سجل القبائل، بل هي سلالة حملت مشعل العلم والقضاء والثقافة والأدب عبر قرون. من جذورها التميمية في نجد، وهجرة آل مزروع المؤسسة، وصولاً إلى بروز النجم الأعلى الشيخ مبارك بن علي الذي أعطى العائلة اسمها ومجدها، وامتداد فروعها في الأحساء حيث ازدهرت كعائلة علم ووجاهة، وفي جازان حيث حافظت على الطابع القبلي الفاعل، وفي الكويت حيث برزت في مجالات التجارة والغوص والدبلوماسية.
شكلت سيرة رجالاتها من الفقهاء والقضاة (كعبد اللطيف بن مبارك وإبراهيم بن عبد اللطيف ويوسف بن راشد) والأدباء والشعراء (كعبد العزيز بن حمد وأحمد بن راشد) والمؤرخين (كعبد الله بن علي) والاقتصاديين (كفهد بن عبد الله) والعمائم الحاليين (كقيس بن محمد) لوحة زاخرة بالإنجاز الفكري والاجتماعي. إنها قصة عائلة تجسد استمرارية الإرث العربي الإسلامي في العلم والحكم والمجتمع، وقدرتها على التكيف والازدهار في مواطن متعددة، حافظةً على هويتها وملتزمةً بدورها الرائد، من واحات الأحساء إلى سهول جازان ومياه الخليج، حاملةً اسم الشيخ مبارك بن علي كشمس لا تغيب.
مواضيع ذات صلة: