اسم ابن بقار لا يمثل مجرد اسم عائلة أو لقب فحسب، بل هو رمزٌ عريقٌ في تاريخ قبيلة شمر، يختزل في طياته قصصًا من المجد، الشجاعة، والكرم الفائق. على الرغم من أن هذا اللقب قد يُشير إلى عدة شخصيات عبر التاريخ، إلا أن الأشهر والأكثر تأثيرًا هو الشيخ أرحمة بن بقار الشمري، المعروف بلقبه الخالد “كريم سبلا”. لقد أصبح هذا اللقب مرادفًا للجود والعطاء، ومثلًا يُضرب به في حسن الضيافة. يتعمق هذا المقال في تفاصيل هذه الشخصية التاريخية الفذة، مُستكشفًا معاني لقب ابن بقار، أصوله القبلية، مكانته الرفيعة، وأبرز الأمثلة التاريخية التي جسدت هذا الاسم على مر العصور.
معنى “ابن بقار” وأصل لقب “كريم سبلا”
عند الحديث عن ابن بقار، يتبادر إلى الذهن مباشرةً الشيخ أرحمة بن بقار الشمري، الذي يُعد أيقونة في الكرم والضيافة. هو من قبيلة شمر العريقة، وتحديدًا من عشيرة الأسلم، إحدى أهم فروع شمر. هذه القبيلة التي امتد نفوذها عبر الجزيرة العربية، كانت ولا تزال منارةً للقيم العربية الأصيلة.
أرحمة بن بقار: شيخ الكرم
الشيخ أرحمة بن بقار الشمري، من آل بعير، أحد شيوخ عشيرة الأسلم، كان رجلًا ذا كرم وفروسية لا يُضاهيان. لكن ما ميزه وجعله خالد الذكر هو لقبه “كريم سبلا”. هذا اللقب لم يأتِ من فراغ، بل له قصة تُجسد عمق كرمه وفطنته في الضيافة.
كان الشيخ أرحمة يمتلك لحية طويلة، اعتاد أن “يسبلها” في حضرة ضيوفه. و”سبل اللحية” يعني تمشيطها أو مسحها باليد. لكن هذه الحركة البسيطة كانت تحمل مغزىً عميقًا بالنسبة لأهل بيته وخدمه. فسبل اللحية كان إشارة منه، دون الحاجة للحديث أو إصدار الأوامر الصريحة، لأهل بيته وخدمه ومن حوله كي يقوموا بتقديم واجب الضيافة للضيف.
يُروى أنه إذا مسح لحيته مرة واحدة، كان ذلك يعني إشارة للعبيد بنحر الذبائح من الغنم. أما إذا مسحها مرتين، فهذا يعني أن ينحروا له جزورًا (جملًا) إكرامًا للضيف، تعبيرًا عن أقصى درجات الكرم. لقد عرف أبناؤه وخدمه المطلوب من طريقة مسحه على لحيته، فكانوا يُسارعون لتنفيذ الأمر وتقديم الواجب على أكمل وجه.
بهذه الطريقة الفريدة، أصبح كل من يُعرف بالكرم يوصف بـ”كريم سبلا”، إشارةً إلى هذا الشيخ الكريم الفارس. وقد أصبحت هذه الإشارة معروفة ومشهورة، وتُستخدم لوصف أي شخص يتصف بالكرم والسخاء، حتى لو لم يكن من قبيلة شمر أو من ذرية الشيخ أرحمة، فقد تحول اللقب إلى مثال يُضرب به في الجود.
أهمية “كريم سبلا” كرمز للكرم العربي
الكرم والضيافة يُعدان من أبرز القيم العربية الأصيلة، وقد ارتقى الشيخ أرحمة بن بقار بهذه القيم إلى مستوى الأسطورة. لقد اشتهر بكرمه وسخائه الفائق، وكان يُضرب به المثل في هذا المجال، ليس فقط في قبيلته شمر، بل في الجزيرة العربية بأسرها.
يُظهر الشعر الشعبي مدى ترسخ هذه الصفة في وجدان الناس. ففي إحدى القصائد التي قيلت في الشيخ أرحمة بن بقار:
وحنا ليامن صاحب الجود جادي *** كريم سبلا بالكرم ينثنيله وحنا ليامن صار عج الطرادي *** غزازت اللويات بظهور خيله وحنا بضرب مصقلات الهنادي *** الراس من حد المناكب نشيله من دور عصفر فعلنا باستنادي *** خيالة الشعبة نهار الدبيله وحنا هلا الحق الحقيق الوكادي *** نعرف حق حقوق حقه وميله ونعرف سلم سلوم كل البوادي *** وموارث من الله عطانا دليله بأمر الشيوخ معربين الجدادي *** ملاذ ملجأ الملتجي يلتجيله ترا بيت ابن بقار ظلعن يشادي *** سورن يحيط أسوار كل القبيله وخوينا لوهو عن الدرب غادي *** عباتنا يضفي خماله شليله ندمحله الزلة وبأمره نهادي *** وما يشتكي وحنا الذي نشتكيله
هذه الأبيات تُجسد مكانة ابن بقار في الكرم والشجاعة، وتُصوره كحصنٍ منيع يُلتجأ إليه، وكبيتٍ يُقدم العون لكل من ضل أو لجأ. إن وصفه بـ”ظلعن يشادي” و”سورن يحيط أسوار كل القبيلة” يُبرز دوره كحامي وداعم لقبيلته ومن حوله. كما أن “خوينا لو هو عن الدرب غادي، عباتنا يضفي خماله شليله” تُشير إلى العفو والستر على من يُخالطهم، وهذا من أسمى معاني الكرم والأخلاق.
شيوخ آل بقار عبر التاريخ: إرث من القيادة والفُروسية
تاريخ آل بقار ليس مقتصرًا على الشيخ أرحمة وحده، بل هو سلسلة من الشيوخ والقادة الذين حملوا راية القيادة والكرم والفروسية عبر الأجيال. هؤلاء الشيوخ كان لهم دور بارز في الأحداث التاريخية التي شهدتها الجزيرة العربية.
الشيخ رشيد بن فريح آل بقار (حوالي 1721-1744م):
يُعد الشيخ رشيد بن فريح آل بقار، المعروف بـ”راع العبية”، من الفرسان البارزين في تاريخ آل بقار. لقد طال عهده وتوسع سلطانه، حيث كان يُجبى له الخراج من ديار سدير والمحمل شرقًا، ومن نواحي العلا غربًا، ومن الجوف وبلاد حوران شمالًا. هذه السيطرة الواسعة تُشير إلى قوة نفوذه في ذلك العصر.
تقوى الشيخ رشيد بأخواله وأصهاره آل جذيل (أهل الحصان)، الذين كانوا يُشكلون جناحًا قويًا في عزوة آل بعير، إلى جانب آل زيد (التراقصة) وآل زبيدات. كان لهذا التحالف شأن كبير في الانتصارات التي حصلت على بقية فروع قبيلة طيء تحت راية شمر، خاصة في عهده وفي عهد ابنه الشيخ غياض ومن بعدهما.
أولى الشيخ رشيد اهتمامًا كبيرًا بتشييد الأسوار والقلاع، ومنها “سور رشيد وقلعته” التي لا تزال باقية حتى اليوم، مما يدل على اهتمامه بالتحصينات الدفاعية والاستقرار. كما اهتم بجلب وتربية السلالات المميزة من الخيل الأصيلة، فكان له العديد من الاصطبلات في مناطق مختلفة مثل صهوة جو والثنية وجبال سلمى ورمان. كان يُكنى بـ”أبو غياض” وبـ”راع العبية”، وهو أول من لُقب بـ”خيال الشعبتين”، وصار يُعرف لاحقًا بـ”بناخي آل همزان” لكون أخواله هم الجذلة.
الشيخ غياض بن رشيد آل بقار (بداية عهده حوالي 1744م):
تولى الشيخ غياض بن رشيد آل بقار، ابن الشيخ الفارس “راع العبية”، القيادة بعد والده. اشتهر هذا الشيخ الجليل بإنجازاته الحضارية الفريدة، ومنها “قصر غياض الشهير” في بلدة قفار التاريخية، والمعروف قديمًا بـ”قصر آل بعير”. كان غياض فارسًا وقائدًا محنكًا، وطال عهده وتوطد سلطانه، حيث كان يُجبى له الزكاة من نفس المناطق التي كان والده يحكمها.
تقوى الشيخ غياض بخوال والده وأخواله وأصهاره آل جذيل، وقد ناب عن والده في قيادة بعض المعارك ضمن حروب السيادة الطائية، لا سيما الحرب على حلف بني صخر الكبير، إلى أن تمت كسيرتهم ورحيلهم من بلاد طيء (جبال شمر). كما ساهم في كسيرة حلف آل عروج بني لام والفضول. استمرت المعارك الطاحنة حتى حُسمت تمامًا لصالح حلف شمر، وذلك في عهد الشيخين الجليلين عبد الله بن سعد آل بقار وابنه رحمة بن عبد الله آل بقار (كريم سبلا)، الذي جندل الشيخ وديد بن عروج (مقدم بني لام).
الشيخ أسعد آل بقار (توفي حوالي 1765م):
هو أسعد بن منديل بن حمود بن خليف بن فريح بن ماجد بن رشيد بن سعد بن عجيان بن بقار. عاصر الشيخ مطلق الجربا، ونشب بينهما خلاف كبير عندما توعد الجربا بقتل مطلق الصديد، الذي كان دخيلًا عند أسعد. بعد ذلك، أعطى الشيخ أسعد بن بقار الصقرية إلى الصديد، ومن ثم حصلت بينهما معركة كبيرة انتهت بهزيمة الجربا ومن معه. قال أسعد بن بقار قصيدة بهذه المناسبة محذرًا الجربا قبل المعركة، مما يدل على شجاعته وفصاحته.
الشيخ عبد الله بن سعد آل بقار (توفي عام 1770م):
كان الشيخ عبد الله بن سعد آل بقار من الشيوخ البارزين في آل بقار، وقد توفي عام 1770م، تاركًا خلفه إرثًا من القيادة.
الشيخ رحمة بن عبد الله بقار (كريم سبلا – 1709-1789م):
ولد الشيخ رحمة بن عبد الله بقار في قفار سنة 1709م، وتولى الحكم من عام 1770م إلى 1789م. عاصر العديد من المعارك، ومن أشهرها مع قبيلة الفضول من بني لام بقيادة مقدم بني لام الشيخ وديد بن عروج. وقد قُتل ابن عروج في هذه المعارك على يد الشيخ رحمة بن بقار، الذي كانت فرسه تُسمى “أم المخاريز”.
كما ذكرنا سابقًا، أُطلق عليه لقب “كريم سبلا” لكرمه الشديد، ولإشارته المميزة بسبل لحيته عند قدوم الضيوف. لقد أُغتيل هذا الشيخ غدرًا وهو طاعن في السن عام 1789م، على يد ابن عمه سنان بن طوالة، مما أدى إلى تولي آل طوالة شيخة مشايخ الأسلم من شمر. ساعد على تراجع نفوذ آل بقار أيضًا هجرة الشيخ ناصر بن بقار ومن معه إلى العراق، نظرًا لضعف وجودهم في جبال شمر بعد هجرة أبناء عمومتهم ومصدر قوتهم من آل جذيل وآل قدير من آل أسلم.
الشيخ ناصر بن رحمة (تولى الحكم لفترة وجيزة بعد والده):
تولى الشيخ ناصر بن رحمة العهد لفترة وجيزة بعد اغتيال والده سنة 1789م. في عهده، سقط حكم آل بقار في جبال شمر بعد معركة العدوة عام 1205هـ. انتقل الشيخ ناصر ومعه غالبية آل بعير إلى العراق، وهي هجرة أثرت على تواجدهم في نجد.
الشيخ عبار بن ناصر:
هو الشيخ عبار بن ناصر، وُلد في بلدة قفار بجبال شمر.
الشيخ مذخر بن عبار:
شارك الشيخ مذخر بن عبار في معركة الجوف بين الأمير سعود بن عبد العزيز آل رشيد (أمير جبل شمر) من جهة، وبين نواف بن النوري الشعلان (شيخ الرولة) من جهة أخرى. أسفرت المعركة عن هزيمة الشيخ الشعلان ومن معه، وأُصيب الشيخ مذخر بن بقار في يده جراء تلك المعركة، مما يدل على شجاعته ومشاركته في الأحداث الكبرى.
الشيخ حمود بن مذخر بن عبار بن بقار (توفي عام 2008م):
تولى الشيخ حمود الشيخة بعد وفاة والده. تميز بالشجاعة والكرم ومكارم الأخلاق، وكان من الرجال الذين تركوا أثرًا طيبًا في مجتمعهم. توفي عام 2008م.
الشيخ فرحان بن حمود آل بقار:
هو الشيخ الحالي لآل بقار، أطال الله في عمره ووفقه لما فيه الخير، وبارك فيه. يُكمل الشيخ فرحان المسيرة العريقة لآل بقار، حاملًا لواء القيادة والكرم الذي توارثته هذه العائلة جيلًا بعد جيل.
أمثلة أخرى لاسم “ابن بقار”
على الرغم من أن الشيخ أرحمة بن بقار هو الشخصية الأبرز المرتبطة بهذا الاسم، إلا أن لقب ابن بقار يُطلق أيضًا على:
- قبيلة البقارة (البكارة): وهي قبيلة عربية كبيرة تُعرف بتواجدها في مناطق مختلفة، خاصة في سوريا والعراق.
- قرية البقار في النقب: وهي منطقة تُشير إلى تواجد سكاني يحمل هذا الاسم.
هذا التنوع في استخدام الاسم يُظهر عمق ابن بقار في الثقافة العربية، فهو ليس مجرد لقب لشخص، بل هو اسم يُشير إلى كيانات قبلية وجغرافية، مما يزيد من ثراء معناه.
الخلاصة: إرث الكرم والقيادة لـ “ابن بقار”
في الختام، يظل ابن بقار اسمًا يُشير إلى إرث عظيم من الكرم، الشجاعة، والقيادة. سواء كان المقصود به الشيخ الأسطوري أرحمة بن بقار “كريم سبلا” الذي جسّد أسمى معاني الضيافة، أو سلسلة الشيوخ الذين تعاقبوا على قيادة آل بقار في قبيلة شمر، فإن هذا الاسم يُجسد تاريخًا طويلًا من النفوذ والتأثير.
لقد أسهمت أسر ابن بقار على مر العصور في تشكيل النسيج الاجتماعي والسياسي للجزيرة العربية، من خلال بطولات فرسانهم، وحكمة شيوخهم، وكرمهم الذي أصبح مضرب الأمثال. من بناء القلاع والحصون، إلى قيادة المعارك الكبرى، وصولًا إلى العطاء السخي للضيوف والمحتاجين، تُعد سيرة ابن بقار نموذجًا يحتذى به في القيم العربية الأصيلة.
ومع أن حكم آل بقار قد شهد تقلبات وهجرات، إلا أن اسمهم بقي محفورًا في الذاكرة الجمعية كرمزٍ لا يُنسى. إن الشيخ الحالي، فرحان بن حمود آل بقار، يُكمل هذه المسيرة العريقة، محافظًا على الإرث الذي خلفه أجداده. إن قصص ابن بقار تُشكل جزءًا حيويًا من التاريخ الشفهي والمكتوب للمنطقة، وتظل مصدر إلهام للأجيال القادمة للحفاظ على قيم الأصالة والجود.
مواضيع ذات صلة:
مواضيع ذات صلة: