تعد أفخاذ قبيلة المناصير نموذجاً فريداً ومبهراً للتماسك الاجتماعي والتحالف الاستراتيجي في تاريخ البنية القبلية لمنطقة الخليج العربي. فهذا الكيان الاجتماعي الكبير، الذي يغلب عليه طابع “الحلف” التاريخي أكثر من كونه قبيلة تنحدر من أب واحد، يجسد قوة التضامن والهوية المشتركة التي تتجاوز روابط الدم المباشرة. لطالما شكلت أفخاذ قبيلة المناصير درعاً واقياً وحاجزاً طبيعياً لمنطقة الظفرة في إمارة أبوظبي، وأثبتت عبر التاريخ قدرة فائقة على الصمود والازدهار في بيئة صحراوية قاسية، محاطة بتحديات جمة. إن فهم طبيعة هذا الحلف وتشعباته هو فهم لجزء أساسي من نسيج التاريخ الاجتماعي والسياسي لدولة الإمارات العربية المتحدة.
نسب قبيلة المناصير
يرتبط اسم “المناصير” ارتباطاً وثيقاً بمعاني النصر والغلبة (“كثرة انتصاراتهم في الحروب”). وتتعدد الروايات حول أصل التسمية، وأشهرها تشير إلى أنها تعود إلى “منصور” من قبائل الظياغمة، تحديداً من ولد شهوان بن ظيغم. بغض النظر عن الدقة التاريخية المطلقة لأصل التسمية، فإن الثابت تاريخياً هو أن أفخاذ قبيلة المناصير نشأت كحلف قوي ضم فخوذًا وعشائر متنوعة الأصول والنسب، اجتمعت تحت مظلة واحدة بدوافع القوة والتضامن والمنفعة المشتركة في مواجهة تحديات البيئة والصراعات القبلية. هذا التنوع في الأصول – حيث لا ينتسب الجميع إلى أب واحد – لم يكن نقطة ضعف، بل كان مصدر قوة وثراء للحلف، وساهم في نسج هوية فريدة قائمة على الولاء المشترك والمصير الواحد. كان لهذا الحلف دور بارز ومحوري في تاريخ إمارة أبوظبي وتطورها.
مواضيع ذات صلة : اربع معلومات قد لاتعرفها عن قبيلة المناصير
التشكيلة الرئيسية التي تشكل أفخاذ قبيلة المناصير
يتميز هيكل أفخاذ قبيلة المناصير بالوضوح والتنظيم، حيث تنقسم القبيلة إلى ثلاث كتل كبرى (أقسام) رئيسية، تضم كل منها مجموعة واسعة ومتداخلة من الفخوذ والعشائر، تشكل بمجموعها النسيج الاجتماعي المتماسك للحلف:
- آل منذر (المناذرة): يمثلون أحد الأركان الأساسية للحلف، ويضمون تشكيلة غنية من الفخوذ، أبرزها:
- آل مانع: ويعتبر آل قران شيوخ المناذرة. تشير الروايات إلى أن نسبهم يعود إلى قبيلة الهواجر، وهناك روايات أخرى أكثر تفصيلاً تربطهم بنسب شريف. يتمتع هذا الفخذ بمكانة قيادية.
- الحويسات.
- المراشيد: وينقسمون إلى (ال أحمد، ال مرشود، ال الاصلي). تشير المصادر مثل المقريزي والنويري إلى أن أصلهم يعود إلى قبيلة السهول، التي تضاربت الأقوال في نسبها بين عامر بن صعصعة (العدنانية) وبني بحر (القحطانية).
- الحديلات.
- القصيلات.
- المطاوعة: ومنهم (الشعابنة، ال عبد المعين).
- الكعابرة.
- آل سيف.
- المعاوسة.
- الحمامدة.
- السواحيت.
- آل علي بن صالح.
- آل عبيد.
- الحرامشة.
- المداهمة.
- الربابعة.
- المصانعة.
- الحواليل.
- النوافع.
- البورحمة: تشكل كتلة ضخمة ومتنوعة داخل حلف المناصير، وتضم فخوذاً قوية وعريقة:
- آل تعيب.
- آل وبران: ومنهم (ال سالمين، ال عضيد، ال عفصان).
- آل بلخيل: ومنهم (ال عفصان، الهواش، القطاري، القديمات، ال جابر، الشلابدة، ال مرخان، المسافرة، المسابته، ال هزيم). تعود أصول هذه الفخيذة إلى قبيلة الدواسر، فرع بني تغلب، مما يعكس طبيعة الحلف الجامعة.
- آل عصيان.
- الشحيمات.
- آل طريف.
- الطرارفة.
- العواصي: تثار احتمالات حول أصلهم، فقد يكونون من قبيلة شمر (الخرصة) الذين يسمون “العواصي” نسبة لرؤسائهم آل عاصي، ويسكنون حدود العراق. أو قد يكون تشابهاً في الأسماء فقط.
- المداعية.
- المخازمة.
- الشتاونة.
- الريالات.
- العتبيات: ومنهم (القضاضمة، ال الحمندي، ال مداعرة، ال بلصيد).
- الدلاوية.
- آل عقيدة.
- آل الصميم.
- آل غنيمة.
- آل مطر بن راية.
- آل تريس.
- آل بلشعر (أو آل بلعشير): الكتلة الثالثة الرئيسية، وتشمل فخوذاً لها ثقلها وامتدادها:
- آل غوينم: ومنهم (آل يريو، آل زيتون، آل نشيرة، آل ونيس، آل علي، آل سالمين بن ذباحة، آل يافور، آل نهيل).
- آل ثويبت: وتشمل (آل الحية، الحتارشة، المتانة، الزحاحفة، آل طويلب، آل مطر، آل الشغافرة، آل المر).
- آل رشيد: ومنهم (آل حيلمان، آل عذبة، آل مبارك، المساندة). ولآل حيلمان مكانة مشيخية في هذا القسم.
- الشدود: ومنهم (آل سيف بن العبد، آل حسين، آل بلشاعر، آل مرزوق، آل القطيري).
- المفالحة: ومنهم (آل الاعرج، الجميدات، آل صياح).
- آل عمير: ومنهم آل ربيع. ينتمي آل ربيع إلى الجد عمير. هاجر جزء منهم (مثل أحمد) إلى اليمن واستقروا في شبوة، بينما عاد جزء آخر أو استقر في أبوظبي (غياثي، العين، ليوا) حيث امتلكوا مزارع وبساتين، مع الحفاظ على طابعهم البدوي الرحل. هذا الانتشار مثال على حركية أفخاذ قبيلة المناصير.
القيادة: نموذج الحكم الذاتي للأفخاذ
يُعد غياب شيخ عام أو أمير واحد للقبيلة ككل سمة مميزة لـ أفخاذ قبيلة المناصير، تعكس طبيعتها كحلف. بدلاً من ذلك، يتمتع كل فرع رئيسي (آل منذر، البورحمة، آل بلشعر) وفخذ كبير داخلها بدرجة كبيرة من الاستقلالية في شؤونه الداخلية، ولديه شيوخه المحليين المعترف بهم. على سبيل المثال، آل قران هم شيوخ آل منذر، ولآل حيلمان مكانة مشيخية في آل بلشعر. هذا النظام اللامركزي القائم على الاستقلال النسبي للفخوذ ضمن الإطار الجامع للحلف كان نموذجاً عملياً لإدارة شؤون كيان كبير ومتنوع في بيئة صحراوية متحركة.
ديار أفخاذ قبيلة المناصير
تتركز سيادة أفخاذ قبيلة المناصير في منطقة الظفرة، الواقعة في الإقليم الصحراوي الغربي لإمارة أبوظبي. تعتبر الظفرة الموطن الأصلي والقلب النابض للحلف، وتشمل ديرتهم:
- كامل منطقة الظفرة: بما فيها الواحات والمراعي.
- سبخة مطي: تلك المساحة الشاسعة المغطاة بالملح، والتي رغم قساوتها وعدم صلاحيتها للمياه، كانت حاجزاً طبيعياً مهماً ضد الأعداء ومصدر فخر لأبناء المناصير الذين أتقنوا اجتيازها.
- الجزء الشمالي من المجن.
- خط الآبار المعروف بـ “العقل”: وهو شريط حيوي من مناهل المياه الممتدة من الجنوب إلى الشمال بمحاذاة ساحل البحر تقريباً، يشكل الممر الرئيسي لهجراتهم نحو مراعي قطر شتاءً. تضم “العقل” عشرات المناهل المعروفة مثل: عقلة النخلة، بلكري، بيوض، بوهارون، بئر راية، مشاش جابر، رغوان، حليوين، بومحارة، مقيطع، عقلة معطش، عقلة الرمث، سوداء نثيل، عقلة حايز، عقلة المناصير، عقلة فرهود، الخفوس، مشاش المطوع، عقلة زويد، القصيرة، عامرة، عقلة شقراء، عقلة زرقاء، الأزيرق، المرخية.
- جزء من ساحل الصلح البحري: حيث استقر قليل من أفراد القبيلة.
- قرى الجواء والحمرة: حيث يملك كثير من أفراد أفخاذ قبيلة المناصير بساتين النخيل، ويتقاسمون الملكية في الظفرة مع بني ياس في جو من الوفاق التام.
تتجاوز ديرة المناصير الظفرة لتشمل:
- التوغل في أراضي قطر: خاصة خلال الهجرات الشتوية للرعي، حيث يتفرقون في أنحاء شبه الجزيرة بعد اجتياز “العقل”.
- التوغل في أراضي المملكة العربية السعودية: في ديار قبيلتي المرّي والعجمان (وادي المياه والحبل) في سنوات الأمن وانقطاع الغزو.
- وجود محدود في إمارات أخرى: مثل دبي (بلدة جميراء كنموذج مبكر للاستقرار النسبي)، والعين، وغياثي، مع بقاء أبوظبي مركز الثقل.
تمتاز الظفرة بثلاث مميزات جعلتها الموطن الأمثل:
- وفرة المياه النسبية: مقارنة بالمناطق الجنوبية.
- وجود مراعي جيدة: خاصة في بينونة في المواسم المطيرة.
- توفر التمر: من واحات ليوا والحمرة، كغذاء أساسي.
لقب المناصير بـ “حجاب الظفرة” (حراس الظفرة) جاء إقراراً من الجميع بسيطرتهم الفعلية على هذه المنطقة الحيوية.
النمط الحياتي: روح البداوة وسيادة الإبل
يظل نمط الحياة البدوي الرحل هو السمة الغالبة على غالبية أفخاذ قبيلة المناصير، حيث يعكس سلوكهم وطريقة معيشتهم ارتباطاً وثيقاً بالصحراء ومواردها. وتتمثل أبرز معالم هذا النمط في:
- الاعتماد الأساسي على تربية الإبل: كان المناصير من أكثر قبائل الإمارات البدوية ثراءً في قطعان الإبل، نظراً لملاءمة الإبل لطبيعة تنقلاتهم الطويلة والشاقة. قلّما اقتنوا الأغنام لعدم ملاءمتها لهذه التنقلات.
- الرحيل الموسمي (الرعي): يمارسون نظاماً دقيقاً من الترحال الموسمي:
- الشتاء: يغادرون الظفرة عبر سبخة مطي متجهين شمالاً وشرقاً نحو مراعي قطر، معتمدين على مناهل “العقل”. في فترات الأمن، يتوغلون إلى ديار المرّي والعجمان في السعودية.
- الصيف: يعودون إلى الظفرة حيث تتوفر المياه والتمر.
- المعرفة العميقة بالصحراء: أتقن المناصير فنون البقاء والتنقل في أصعب الظروف. كانت سبخة مطي، برغم وعورتها، جزءاً من ديارهم يعتزون باجتيازها، ويعد الرجل الذي يجتازها خمسين أو مائة مرة أمراً عادياً بينهم.
- حياة شبه مستقرة في الواحات: توجد أقلية من أفراد أفخاذ قبيلة المناصير الذين استقروا نسبياً في قرى ليوا الصغيرة بالظفرة أو في بلدة جميراء قرب دبي، حيث امتلكوا بساتين النخيل ومارسوا حياة تجمع بين الزراعة المحدودة والرعي. حتى في هذه القرى، يظل الطابع شبه البدوي حاضراً.
الوحدة والتماسك: سر قوة الحلف
رغم التنوع الكبير في أصول أفخاذ قبيلة المناصير، فقد نجح الحلف في نسج رباط وثيق من التضامن والهوية المشتركة، تجلى في:
- الشعور القوي بالانتماء: يقر أفراد القبيلة بأنهم ليسوا من جد واحد، ولكنهم في الفكر والعادات يشكلون كتلة واحدة متماسكة.
- العزوة الحربية الموحدة: يستعمل المناصير وبنو هاجر (الذين تربطهم بهم صلات نسب قديمة حسب الروايات) نداء حرب واحد (عزوة)، وكانوا حلفاء تقليديين في المعارك.
- التضامن في مواجهة التحديات: واجه أفخاذ قبيلة المناصير هجمات متكررة من قبيلة المرّي من الغرب وقبائل عُمان المختلفة من الشرق. شجاعتهم وقوتهم في الحرب، رغم قلة عددهم النسبية مقارنة بأعدائهم، هي التي مكنتهم من الصمود والتحرك بحرية في رقعة شاسعة محاطة بالأخطار، وحفظت كيانهم. نادراً ما نعموا بفترات سلام طويلة.
- الاعتراف بالحقوق المشتركة: خصوصاً في مناهل “العقل” ومراعي قطر.
الخاتمة: أفخاذ قبيلة المناصير.. إرث التحالف وروح الصحراء
تشكل أفخاذ قبيلة المناصير نموذجاً استثنائياً في التاريخ الاجتماعي لمنطقة الخليج. فهي ليست مجرد تجمع قبلي تقليدي، بل هي حلف عريق نَجح، بقوة الإرادة والتضامن والانتماء المشترك، في تجاوز اختلاف الأصول ليشكل كياناً متماسكاً وقوياً. لقد حكمت أفخاذ قبيلة المناصير منطقة الظفرة بحكمة وقوة، ومارست سيادتها عليها بلقب “حجاب الظفرة” المستحق، بينما حافظت على علاقات وفاق مع جيرانها مثل بني ياس.
لقد صقلت البيئة الصحراوية القاسية، والتنقلات الموسمية الشاسعة عبر سبخة مطي وخط العقل، والتحديات الأمنية المستمرة، شخصية المنصوري، فجعلته بدوياً فخوراً، شجاعاً، صبوراً، عالماً بأسرار الصحراء، ومتمسكاً بحريته. كان الاعتماد على الإبل، وامتلاك نخيل الواحات، والترحال الموسمي، ملامح رئيسية لنمط حياتهم الذي يعكس تكيفاً دقيقاً مع البيئة.
رغم التحولات الكبيرة في دولة الإمارات والاستقرار الذي حل محل حياة التنقل، يظل إرث أفخاذ قبيلة المناصير حياً في ذاكرة أبنائها وفي تاريخ المنطقة. إن دراسة تفاصيل هذا الحلف، وفخوذه المتنوعة، ومناطق نفوذه، ونمط حياته، ليست فقط توثيقاً لتاريخ اجتماعي غني، بل هي إضاءة على آليات التضامن والبقاء التي أبدعها الإنسان ليعيش بكرامة وقوة في أحضان الصحراء. تبقى أفخاذ قبيلة المناصير شاهداً حياً على عبقرية التنظيم الاجتماعي البدوي وقدرته على خلق هوية جامعة تتجاوز النسب لتصنع مجداً مشتركاً في رمال الربع الخالي.