يتناول هذا المقال أصل قبيلة جرهم احدى اقدم القبائل العربية واولها سكنا في مكة المكرمة ، كما يتناول هذا المقال تاريخ جرهم وزعامتها للبيت الحرام، ولطالما شكّلت مكة المكرمة بؤرةً روحيةً وتاريخيةً لا تُضاهى في قلب شبه الجزيرة العربية.
وقبل أن تُشرِفَ برسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، شهدت صفحاتٌ مُؤسِّسةٌ كُتبت بمدادٍ من الأحداث الجِسام، كانت قبيلة “جرهم” اليمنية حجر الزاوية فيها. لم تكن مجرد قبيلة نازلة، بل كانت الفاعل الرئيسي في تشكيل ملامح مكة الدينية والاجتماعية والسياسية في حقبة غابرة، حاملةً إرثًا من المجد والسقوط، يُجسِّد درسًا في مسؤولية الحِفاظ على المقدسات. هذا المقال يستعرض بإسهابٍ تاريخ هذه القبيلة العريقة، من لحظة استيطانها الوادي غير ذي الزرع، إلى ذروة سيادتها، وصولاً إلى أفول نجمها المُرتبط بانحرافها عن رسالتها السامية.
الاستيطان الأول: جرهم وولادة معجزة زمزم
تشير المصادر التاريخية الموثوقة عن أصل قبيلة جرهم ، وعلى رأسها سيرة ابن إسحاق كما نقلها ابن هشام في “السيرة النبوية”، وكتاب “الروض الأنف”، إلى أن قبيلة جرهم هي أول من سكن مكة المكرمة بعد نزول السيدة هاجر وابنها الرضيع النبي إسماعيل عليه السلام بأمر من الله تعالى على يد أبيه الخليل إبراهيم عليه السلام. كانت مكة آنذاك وادياً قاحلاً غير ذي زرع، تجسيداً لدعوة إبراهيم الخليل: “رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ” (إبراهيم: 37). استجابةً لهذا الدعاء المبارك، تفجرت معجزة بئر زمزم تحت قدمي إسماعيل الصغير، لتروي ظمأه وظهر أمه، وتصبح نواة الحياة في هذا الوادي المقفر.
هذه المعجزة لم تكن فقط إنقاذًا لهاجر وإسماعيل، بل كانت نداءً إلهياً جذب إليه قلوب الناس. وكان أول من استجاب لهذا النداء، وأول من هبّ لمواساتهم وجوارهم، هم أفراد قبيلة جرهم اليمنية القحطانية. يُذكر أنهم نزلوا بقيادة مضاض بن عمرو في منطقة قيقعان أعلى مكة. كانت هذه اللحظة التأسيسية بمثابة عقد اجتماعي وديني مبكر: وجود البيت الحرام (الذي أعاد إبراهيم وإسماعيل بناءه لاحقاً)، وبئر الحياة (زمزم)، وقبيلة تستوطن المكان وتتولى خدمته. وبالتالي فان أصل قبيلة جرهم أصل قحطاني يماني.
الصِّهْرة والتأثير: جرهم وأصل العرب المستعربة
لم تقتصر علاقة جرهم بإسماعيل عليه السلام على الجوار وحسن المعاشرة. فقد تولوا تعليمه اللغة العربية التي أتقنها بفصاحة نادرة منذ صغره، لتصبح لغته الأم بعد أن نشأ بينهم. بلغ التأثير مداه عندما تزوج إسماعيل عليه السلام منهم مرتين:
- الزواج الأول: تزوج إسماعيل امرأة من جرهم، لكن هذا الزواج لم يدم طويلاً. بناءً على توجيهات أبيه إبراهيم عليه السلام بعد زيارته، والتي استندت إلى ملاحظته لعدم كرم الضيافة عند الزوجة الأولى، قام إسماعيل بطلاقها.
- الزواج الثاني والأهم: تزوج إسماعيل من السيدة بنت مضاض بن عمرو الجرهمي نفسها (أو رعلة بنت مضاض حسب بعض الروايات). كانت هذه الزيجة محورية. فقد أنجبت له أولاده الاثني عشر الذين صاروا رؤوساً للقبائل العربية العدنانية الكبيرة. وأشهرهم ابنه البكر نابت (أو نبيط) الذي تولى حكم مكة ورعاية البيت الحرام بعد أبيه إسماعيل عليه السلام.
بهذه المصاهرة المزدوجة، أصبحت جرهم أخوال العرب المستعربة (العدنانيين)، أي العرب المنحدرين من صلب إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، الذين تعربوا بعد أن تزوجوا في جرهم وتعلموا لغتهم. وهكذا، ارتبط أصل أهم فروع العرب بنسباً وثقافةً بقبيلة جرهم اليمنية القحطانية.
السيادة والصراع: صعود حكم جرهم وحرب قطوراء
بعد وفاة نابت بن إسماعيل، لم يستمر حكم مكة في ذريته مباشرة. فبحسب الروايات التاريخية، انتقلت ولاية البيت وحكم مكة إلى قبيلة جرهم، وتحديداً إلى مضاض بن عمرو بن سعد بن الرقيب بن هين بن نبت بن جرهم. كان هذا الانتقال نقطة تحول جعل جرهم القوة السياسية والدينية الأولى في مكة.
لكن سيادتهم لم تكن بلا منازع. إذ برزت قبيلة أخرى تسمى قطوراء (أو العماليق حسب بعض المصادر)، تسيطر على مدخل آخر لمكة وتفرض بدورها رسوماً على الداخلين عبر منطقتها. أدى التنافس على النفوذ والموارد إلى اندلاع حرب ضارية بين جرهم وقطوراء. تروي الأخبار تفاصيل دقيقة عن هذه الحرب:
- خروج جرهم: خرج أبناء جرهم من معقلهم في قيقعان حاملين الرماح والسيوف، وكان صوت سلاحهم يعلو “يُقعقِع”، فاشتُق اسم معركتهم أو مكان خروجهم من هذه القعقعة.
- خروج قطوراء: بقيادة زعيمهم السميدع، خرجت قطوراء من جهة أجياد (واشتُق اسم أجياد لاحقاً من كثرة جيادهم – خيولهم – في ذلك اليوم).
- المواجهة والنهاية: دارت رحى الحرب، وانتهت بانتصار ساحق لجرهم. قتل زعيم جرهم مضاض بن عمرو زعيم قطوراء السميدع في مبارزة فاصلة. بعد الهزيمة، لجأت قطوراء إلى الصلح، وسلّمت مقاليد الحكم الكامل لمكة وولاية البيت لمضاض بن عمرو الجرهمي. وهكذا، اكتملت سيادة جرهم على مكة بعد أن صفّت المنافس الأقوى.
الانحراف والسقوط: انتهاك الحرمة وطمس زمزم
سارت جرهم على سُنّة الحكم عبر أجيال متعاقبة. وبحلول الجيل الثالث من حكامها، دبّ الفساد في نفوس بعض زعمائها. وصلت الولاية إلى عمرو بن الحارث بن مضاض الجرهمي، وشهدت هذه الفترة انحرافاً خطيراً:
- استحلال أموال الكعبة: تخلت القبيلة عن أمانة السدانة، وبدأت تستحل الأموال المُهداة للبيت الحرام (النذور والهدايا)، وتستأثر بها لأنفسهم، منتهكين بذلك حرمة المال المخصص لخدمة البيت وعمارته.
- انتهاك حرمة البيت ذاته: لم يقتصر الأمر على الأموال، بل تجاوزوه إلى انتهاك حرمة الكعبة نفسها بطرق غير محددة بوضوح في المصادر، لكنها تدل على تجاوز كبير للحدود الدينية والأخلاقية التي كان من واجبهم الحفاظ عليها.
- التخلي عن الوظيفة الأساسية: نَسُوا أو تناسوا وظيفتهم الأساسية كسدنة: حفظ قدسية البيت، والقيام على شؤونه، وخدمة زائريه وحجاجه. تحول سعيهم إلى التركيز على النفوذ والسلطة والثراء على حساب المهمة المقدسة التي أوكلت إليهم.
هذا الانحراف لم يمر مرور الكرام. كانت قبيلة خزاعة (وهي قبيلة يمنية قحطانية أخرى مهاجرة، تنزل جوار الحرم) تراقب الوضع. فلما رأوا ما آل إليه أمر جرهم من تساهل في الحرمة واستحلال للأموال والحرم نفسه، قرروا محاربتهم لانتزاع ولاية البيت.
أدرك عمرو بن الحارث الجرهمي أنه خاسرٌ للحرب لا محالة. وقبل خروجه من مكة منتصراً عليه، دبّر انتقاماً أخيراً:
- دفن كنوز الكعبة: قام بدفن كنوز قبيلته، والتي قيل إنها تضمّنت غزالتين من ذهب وغيرها من نفائس الكعبة التي استولوا عليها، في منطقة داخل مكة (غالباً في بئر زمزم نفسها أو قريباً منها). لم يكن هدفه الحفاظ عليها فحسب، بل حرمان خزاعة منها.
- طمس بئر زمزم: الفعل الأكثر جسامة، قام بطمس بئر زمزم وإخفاء معالمها تماماً، انتقاماً من مكة وأهلها ومن سينتزع الولاية منه. اختفت البئر المباركة، وظلت مطمورة ومجهولة المكان، حتى أعاد عبد المطلب بن هاشم (جد الرسول صلى الله عليه وسلم) اكتشافها وحفرها من جديد في فترة لاحقة، بناءً على رؤيا صادقة.
الرحيل المُر: بكائية عمرو بن الحارث ونهاية عهد جرهم
خرجت جرهم من مكة مهزومة منكرة، تاركةً وراءها المجد الغابر والولاية المقدسة التي أضاعوها بسوء تصرفهم. كان مشهد الرحيل مؤلماً ومفجعاً لأبناء القبيلة، خاصةً لزعيمهم عمرو بن الحارث. عبر عن حسرته وألمه على زوال النعمة والملك بقصيدة بكائية مشهورة، تُعد من أشهر مراثي الجاهلية، وردت في “السيرة النبوية” لابن هشام (الجزء الأول، صفحة 105). يقول مطلعها:
وَقَائِلَةٍ وَالدَّمْعُ سَكْبٌ مُبَادِرُ وَقَدْ شَرِقَتْ بِالدَّمْعِ مِنْهَا الْمَحَاجِرُ
كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْحَجُونِ إِلَى الصَّفَا أَنِيسٌ وَلَمْ يَسْمُرْ بِمَكَّةَ سَامِرُ
(أي: وتقول (القبيلة) والدمع سكب مستعجل، وقد امتلأت مآقيهم بالدمع حتى كادوا يشرقون به. كأن لم يكن بين الحجون (جبل بمكة) إلى الصفا (جبل آخر) أنيس (أي ساكن)، ولم يسهر بمكة ساهر).
ويصف نزوحهم عن البيت ومفارقتهم لمكة ومكانتهم السابقة:
بَلَى نَحْنُ كُنَّا أَهْلَهَا فَأَزَالَنَا صُرُوفُ اللّيَالِي وَالْجُدُودُ الْعَوَاثِرُ
وَكُنَّا وُلَاةَ الْبَيْتِ مِنْ بَعْدِ نَابِتٍ نَطُوفُ بِذَاكَ الْبَيْتِ وَالْخَيْرُ ظَاهِرُ
فَأَخْرَجَنَا مِنْهَا الْمَلِيكُ بِقُدْرَةٍ كَذَلِكَ يَا لَلنَّاسِ تَجْرِي الْمَقَادِرُ
(أي: بلى، نحن كنا أهلها (مكة) فأزالنا تقلبات الليالي والأيام والنوائب العظيمة. وكنا ولاة البيت بعد نابت بن إسماعيل، نطوف به والخير ظاهر (بسبنا). فأخرجنا منها الملك (الله) بقدرته، كذلك يا للناس تجري المقادير).
هذه القصيدة لم تكن مجرد رثاء، بل أصبحت مَثَلاً يُضرب لكل من زال ملكه أو نعمته، يتشاءم الناس من سماعها أو ترديدها. خرجت جرهم إلى اليمن، حاملةً معها حسرتها على فقدان شرف خدمة البيت الحرام والسقاية، وخسرت بذلك مكانةً لم تستعدها أبداً. ويروى أنهم انقرضوا أو تفرقوا بعد خروجهم من مكة.
جرهم الثانية والإرث التاريخي
يجدر الذكر أن اسم “جرهم” يظهر أحياناً في سياقات أخرى. فهناك ما يُعرف بـ “جرهم الثانية”، ويتم تناول أصل قبيلة جرهم الثانية بانها قبيلة قحطانية يمنية أخرى تُنسب إلى “جرهم بن قحطان بن هود” عليه السلام. وقد يكون هناك التباس أو تداخل في بعض الروايات بين الجرهْميين الأوائل (أصحاب قصة إسماعيل) وهؤلاء. كما ورد ذكر اسم “جرهم” (Gerrha) عند المؤرخين اليونان مثل إصطيفان البيزنطي، كمركز تجاري مهم على ساحل الخليج العربي، مما قد يشير إلى هجرة لاحقة لفرع منهم أو تشابه في الاسم.
عهد جديد وانزياح ديني: خزاعة وظهور عمرو بن لحي
بخروج جرهم، بدأ عهد جديد في تاريخ مكة بسيطرة قبيلة خزاعة. لكن هذا التغيير لم يقتصر على تبدل القبيلة الحاكمة. فمع خزاعة، دخلت مكة مرحلة انزياح ديني خطير. يعتبر عمرو بن لحي بن قمعة الخزاعي الرمز الأبرز لهذا الانزياح. يُنسب إليه نشر عبادة الأصنام في الحجاز بشكل عام، وفي مكة والحرم تحديداً. فقد جلب الصنم “هُبَل” من أرض البلقاء في الشام ونصبه عند الكعبة، وشجع القبائل على عبادة الأصنام ونصبها حول الكعبة، محرفاً بذلك دين إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام (الحنيفية) الذي كانت جرهم – في بدايتها – جزءاً من حَمَلته.
مواضيع ذات صلة : قبيلة خزاعة وش يرجعون
الخاتمة: دروس من عمق التاريخ
قصة قبيلة جرهم في مكة ليست مجرد سردية تاريخية، بل هي موسوعة من الدروس والعبر:
- أمانة المقدسات: اختيار جرهم لحماية البيت وزمزم كان تكريماً عظيماً. سقوطهم بدأ عندما تنكروا لهذه الأمانة واستحلوا حرماتها، مما أدى إلى زوال نعمتهم وخروجهم ذليلين. إنها تذكير أبدي بأن ولاية المقدسات مسؤولية جسيمة قبل أن تكون امتيازاً.
- دور المحور الحضاري: أثبتت مكة، بفضل موقعها الروحي (البيت) ومصدر حياتها (زمزم)، قدرتها على جذب القبائل (كجرهم ثم خزاعة) والتفاعل معها، لتصير بؤرة حضارية ودينية رغم طبيعتها الصحراوية القاسية.
- التأثير الثقافي والديني: كان لجرهم دور محوري في تعريب إسماعيل وذريته، مما جعلهم الآباء الثقافيين للعرب المستعربة (العدنانيين). كما أن سقوطهم الأخلاقي مهد الطريق لانحراف ديني كبير (الوثنية) على يد خزاعة.
- سُنة التداول: تاريخ مكة قبل الإسلام يظهر سُنة التداول في الحكم والولاية. فمن بني إسماعيل إلى جرهم إلى خزاعة ثم إلى قريش (بني كنانة، ذرية إسماعيل) قبيل البعثة المحمدية. كل حقبة حملت إنجازات وإخفاقات.
- رمزية زمزم: طمس جرهم لزمزم كان محاولة لطمس معجزة الحياة والنعمة. إعادة اكتشافها لاحقاً ترمز إلى خلود الحق وعودة النور الإلهي بعد فترات الظلام والانحراف.
إن دراسة تاريخ جرهم بالإضافة الى أصل قبيلة جرهم هو استحضار لأحد أهم الفصول المؤسسة في تاريخ مكة المكرمة، قبل أن يُشرِفها الله تعالى ببعثة خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم من صلب إسماعيل بن إبراهيم. فهم جزء لا يتجزأ من النسيج التاريخي المعقد الذي شكّل هوية المكان الأقدس، وترك وراءه إرثاً من المجد والانحدار، يبقى شاهدا على أن استمرار النعمة مرهون بالوفاء بشرطها: حفظ الأمانة وصون المقدسات.