قبائل وصاب السافل: صفحة من تاريخ محافظة ذمار وكنوز أنسابها

تتألق محافظة ذمار بتاريخها العريق، وتحتضن بين جنباتها مديريتين عريقتين هما وصاب السافل ووصاب العالي. وفي هذه السطور، نتتبع خيوط الماضي لنستجلي تاريخ وقبائل مديرية وصاب السافل، مستندين إلى ما توفر من معلومات قيمة من مصادر متعددة.
في سالف العصر، كانت أرض وصاب بأكملها تُعرف باسم “جُبْلان العَرْكبة”، وهو اسم مشتق من إحدى قراها القديمة التي مثلت حاضرة المنطقة ومهداً لحكم الملوك الشراحيين الذين بسطوا نفوذهم على هذه البقاع.
تتحدد حدود وصاب السافل جغرافياً بتماسها شمالاً مع وادي رمع الذي يفصلها عن بلاد ريمة، وتمتد شرقاً لتجاور مديريتي عتمة وقفر حاشد وبلاد يريم، بينما تحدها من الغرب بلاد زبيد، وتقع بلاد الحزم وجبل راس في جنوبها. وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أن وصاب العالي تقدر مساحتها بنحو 700 كيلومتر مربع، ويقطنها حوالي 160 ألف نسمة يعتمدون في معيشتهم على الزراعة وتربية المواشي والتجارة، بالإضافة إلى عدد من المغتربين.
وعلى صعيد التقسيم الإداري، تنقسم وصاب العالي إلى عدة مراكز إدارية بارزة، منها: جبل خيور، بنو الوائلي، شَجَب، العول، كبود، الأجبار، السانة، جَعُر، بنو حفص، بنو ربيعة، الشوكا، الأثلوث، بنو شنيف، بنو النمار، غيثان، جبل مَطْحن، ظفران، السيف، حَبُر، بنو الحبيشي، بني كندة، تريس، عرَاف، المنارة، بلاد السَّدِح، الروضة، بني الحداد. وتتميز هذه المنطقة بتضاريسها الجبلية الشاهقة وأراضيها الخضراء الخصبة التي تحتضن في ثناياها العديد من الآثار الحضارية والقلاع الحصينة، من أبرزها “قلعة الدن” المعروفة تاريخياً بـ “حصن نَعْمَان” والتي يعود تاريخها إلى أكثر من ألفي عام، بالإضافة إلى قلعة الوائلي، وحصن مدنن في بني كندة، وخرائب مدينة عركبة الشهيرة التي لم يبق منها سوى حصنها الذي يُقال إن له سبعة أبواب، وكذلك قلعة شعاف المأهولة حتى يومنا هذا، فضلاً عن المآثر القديمة في مناطق القائمة وجعر وكبود والجبجب ونقذ وغيرها. ويُذكر أن المنطقة شهدت نشأة مدارس إسلامية عريقة أسسها علماء أجلاء مثل مدرسة العلامة الحبيشي ومدرسة العلامة موسى بن عبد الله العراقي في ذي مُرَجَّى غربي السدف بحصن نعمان، ومدرسة المهدوي في قرية جُباح حصن جَعُر.
أما وصاب السافل، فتتميز بكثافة سكانية تصل إلى نحو 150 ألف نسمة. وبفضل موقعها الاستراتيجي بين واديين زراعيين خصبين هما رماع وزبيد، يعتمد غالبية سكانها على الزراعة كمصدر رئيسي للدخل. وتشتهر المنطقة بطبيعتها الخلابة وتنوع محاصيلها الزراعية، حيث تنتج الحبوب بأنواعها المختلفة، والبن ذو الجودة العالية، والفواكه المتنوعة، وأشجار النخيل الباسقة. كما يولي الأهالي اهتماماً خاصاً بتربية النحل، الذي ينتج أجود أنواع العسل الذي ينافس شهرة العسل الدوعني والجرداني، ويعود ذلك إلى اتساع المنطقة وكثرة أشجارها، خاصة أشجار العلب الكثيفة التي يتغذى عليها النحل، وتوجد بكثرة في مناطق المجومي وبني حسام والداثر. ويُعرف أهالي وصاب السافل بمهاراتهم في الصناعات الحرفية والإنتاجية، ومن أبرزها صناعة الحصير من سعف النخيل، والذي يستخدم في أغراض متعددة مثل مفارش الأرض وتنجيد الأسرَّة والكراسي. كما يتقنون صناعة السلال المختلفة الأحجام من القصب المتوفر بكثرة في بني سخمل. ومن الحرف التقليدية أيضاً صناعة الفخار المعروف باسم “المدر”، والذي يستخدم كأواني للطهي أو لحفظ المياه، وقد اكتسب هذا الاسم نسبة إلى جبل مدر في بني سواد وقرضان. وتشتهر وصاب السافل كذلك بالحياكة وصناعة المنسوجات المتنوعة مثل المعاوز واللحافات والملايا والملابس المختلفة، وتعتبر مناطق بني حطام وبني عبد الله الموطن الأصلي لهذه الصناعة. وإلى جانب ذلك، اهتم عدد كبير من السكان بالثروة الحيوانية والمتاجرة بالمواشي وتربيتها كالأغنام والأبقار، خاصة في مناطق بني سلمة ووادي الخشب وجربان، وهي مناطق تشتهر بإنتاج الجبن البلدي والسمن البلدي المصنوع من ألبان المواشي. وتنتشر تربية الحيوانات بشكل عام في مختلف مناطق المديرية، بينما تعتبر منطقة الصنع قرضان موطناً لتربية الجمال.
تضم وصاب السافل عدداً من المراكز الإدارية الهامة، من أبرزها: بني حطام (التي تضم مركز المديرية)، بني سوادة، قرضان، المصباح، جبل قَّور، بني الحسام (التي تحتضن حصن يناخ)، بني سلمة، بني معانس، بني غليس، بني عريف، بني مرجف، بني شماخ، بني لاهب، جبل بني غشيم، بني العزب، بني عباس، الأسالمة، وبني مزيج، بالإضافة إلى مناطق أخرى تضم عدداً من القرى والمآثر القديمة، خاصة في حصن المصباح المطل على سهل تهامة، وحصن يناخ، وحصن قوارير، وجبل القاهرة (أحد أجزاء جبل بني حي).
وقد أشار الهمداني في كتابه “صفة الجزيرة” إلى وصاب باسم جبلان العركبة، ووصفها بأنها بلد واسع، وذكر أن سكان العركبة هم الشراحيون من آل يوسف ملوك تهامة من عهد المعتصم إلى أيام المعتمد، وأن الوصابيين ينتمون إلى سبأ الأصغر، وهم من نسل وصاب بن مالك بن زيد بن سدد بن زرعة.
وقد تم إنشاء طريق حديثة تربط بين ذمار ووصاب العالي مروراً بمديرية مغرب عنس ثم مديرية عتمة، وصولاً إلى مركز المديرية “بلدة الدن”، ومنها تتفرع طريق أخرى إلى وصاب السافل ومن ثم إلى تهامة، وذلك عبر المناطق التالية: الدن – الأحد – مشرافة – الحسينية.
وفي “معجم البلدان اليمانية” لياقوت، ورد ذكر وصاب كاسم لجبل يحاذي زبيد، ويضم عدة بلدان وقرى وحصون، ووصف أهله بأنهم “عصاة لا طاعة عليهم لسلطان اليمن إلا عنوة”. كما جاء في مادة جبلان أن “جبلان العركبة” هي بلد واسع باليمن يسكنه الشراحيون، ويقع بين وادي زبيد ورمع. وتم التمييز بينها وبين “جبلان ريمة” التي تقع بين وادي رمع ووادي سهام ووادي صيحان والعرب، والتي تشتهر بتربية الأبقار الجبلانية وإنتاج الزرع والعسل، ويسكنها بطون من حمير والصرادف. وقد نسب جبلان ريمة إلى جبلان بن سهل بن عمرو بن قيس بن معاوية بن جشم بن عبد شمس بن وائل بن الغوث بن قطن بن عريب بن زهير بن أيمن بن الهميسع بن حمير.
وعلق القاضي إسماعيل الأكوع على كلام ياقوت بأن “جُبْلان العركبة” هي ما يُعرف اليوم بوصاب، وأن العركبة كانت مدينة خربة وحاضرة وصاب، يسكنها الملوك الشراحيون، وتقع في أسفل مخلاف جَعُر من جهة الغرب. بينما “جُبْلان ريمة” فهي ريمة بنواحيها الأربع: الجعفرية والسلفية وبلاد الطعام وكسمة.
وأوضح القاضي الحجري أن وصاب بلد واسع يقع في الغرب الجنوبي من صنعاء على مسيرة أربع مراحل، وينقسم إلى ناحيتين: وصاب العالي ومركزها دن وصاب، ووصاب السافل ومركزها الأحد، وقد عُرفت قديماً بـ “جبلان العركبة”. كما أشار إلى أن بلاد وصاب تتصل شمالاً بوادي رمع الفاصل بينها وبين بلاد ريمة، وجنوباً بوادي زبيد الفاصل بينها وبين بلاد حبيش والعدين، وشرقاً بناحية عتمة وقفر حاشد التابعين لمغرب عنس وقضاء يريم، وغرباً ببلد زبيد، وأن كل ناحية تنقسم إلى مخاليف وعزل.
وقد أكد العلامة عبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن بن عمر بن محمد بن عبد الله بن سلمة بن علي بن حبيش بن إبراهيم بن أحمد بن حبيش الحبيشي ثم المذحجي الوصابي الشافعي، مصنف تاريخ وصاب المسمى “الاعتبار في التواريخ والأخبار”، على أن العركبة كانت مدينة عظيمة ذات سور يمتد على رؤوس الجبال، ولها أربعة أبواب في كل جهة، وبابها الغربي يقع بين جبلين مستقيمين ويدخل منه القادمون من تهامة، ويجري دونه نهر دائم، وقد جُرت إليها أنهار من جهة المشرق لتصل إلى قصورهم وبيوتهم ومساجدهم، ومن غربي المدينة كانت تجري أنهار دائمة تسقي أرض “سخمل”، وهي مدينة قديمة تعود إلى زمن الجاهلية، وكان ملوكها من الشراحيين من حمير. وذكر أن سبب خرابها كان سيلاً عظيماً، فانتقل أهلها إلى جبل قريب منها يُسمى غيثان. وأشار إلى أن موقع العركبة اليوم في عصره (سنة 1360هـ) يقع بين مخلاف القايمة ومخلاف الجبجب من وصاب العالي، وتحديداً شماليها عزلة المنارة من الجبجب، وجنوبيها عزلة بني الموت، وشرقيها عزلة غيثان من مخلاف القايمة، وأن بقعة المدينة لا تزال تُعرف بالعركبة حتى اليوم.
كما نقل الحبيشي أن وصاباً سميت باسم وصاب بن سهل الجمهور بن زيد بن عمرو بن قيس بن معاوية بن جشم، الذي ينتهي نسبه إلى حمير الأكبر، بينما يرى البعض أن اسمها الأصلي هو أصاب، ثم أبدلت الهمزة واواً.
وفي “صفة الجزيرة”، ذكر الهمداني أن جبلان العركبة بلد واسع يسكنه الشراحيون من آل يوسف ملوك تهامة، وأن الوصابيين من سبأ الأصغر، وهم من نسل وصاب بن مالك بن زيد بن سدد بن زرعة، وهو حمير الأصغر من سبأ الأصغر، وأن جبلان تقع بين وادي زبيد ووادي رمع، بينما جبلان ريمة تقع بين وادي رمع ووادي سهام ووادي صيحان. وأشار إلى أن الأبقار الجبلانية تجلب من جبلان إلى صنعاء وغيرها، وأنها بلاد كثيرة الأبقار والزرع والعسل، وسوقها يُسمى تهامة قعار، ويسكنها بطون من حمير من نسل جبلان وحي الصرادف ومن بني حي بن خولان، وهم ملوكها.
وقد فصلت المصادر مخاليف وعزل وصاب العالي، فذكرت منها مخلاف بني الحدادي (ويُعرف أيضاً بمخلاف نعمان)، ومخلاف بني مسلم، ومخلاف جعر، ومخلاف كبود، ومخلاف نَقِذ، ومخلاف القايمة، ومخلاف بني شعيب، ومخلاف الجبجب، مع ذكر العزل التابعة لكل مخلاف.
أما وصاب السافل، فتشمل عزلة بني حطام، وعزلة بني سوادة، وعزلة جربان، وعزلة العارس، وعزلة قرضان، وعزلة المصباح، وعزلة بني حسن، وعزلة بني عبد الله، وعزلة قوّر، وعزلة بني الحسام (وفيها حصن يناخ)، وعزلة بني سلمة السافلة، وعزلة بني سلمة العالية، وعزلة الأجراف، وعزلة بني غليس، وعزلة بني مرجف. ومن مخلاف السافل مخلاف بني حي، ومنه عزلة بني أحمد، وعزلة بني الشماخ، وعزلة بني مزيج، وعزلة بني عياش.
وتضم وصاب السافل جبل قور الذي يحتضن آثار عمارة قديمة في أعلاه، وجبل المصباح، وبني مرجف، وجبل بني معانس، وجبل بني علي، وجبال بني حي (منها جبل القاهرة الذي يحوي عمائر قديمة)، وجبل غراب، وجبل بني عمر، وجبل بني عباس، وجبل خبش، وجبل عباد.
وقد نبغ من وصاب العديد من العلماء، منهم بنو الحبيشي، ومنهم صاحب تاريخ وصاب الذي ذكر أن ولادته كانت سنة 774هـ، ومن أسلافه وأقاربه جملة من العلماء منهم أبو محمد عبد الرحمن بن عمر بن محمد بن سلمة الحبيشي المتوفي سنة 780هـ. ومن علمائها أيضاً أحمد وموسى ابنا يوسف بن موسى بن علي التباعي الحميري. ومنهم أبو محمد الخضر بن محمد بن مسعود سلامة الوصابي، وأبو الحسن علي بن الحسن الوصابي المتوفي سنة 657هـ.
إن وصاب السافل، بتاريخها الممتد عبر العصور وكنوز أنسابها العريقة، تبقى شاهداً حياً على أصالة هذه الأرض وإسهامات أبنائها في مختلف المجالات.