شخصيات

ابن مجلاد : فارس الدهامشة و”غدير الموت” من عنزة

يعد ابن مجلاد لقبًا يطلق على الشيخ برجس بن قاعد بن مجلاد، الذي اشتهر كأحد أبرز شيوخ قبيلة الدهامشة، إحدى فروع قبيلة عنزة العريقة. لم يكن ابن مجلاد مجرد شيخ قبلي عادي، بل كان فارسًا مغوارًا وقائدًا ملهمًا، تركت بصماته واضحة في تاريخ الجزيرة العربية من خلال شجاعته الفائقة، وقيادته الحكيمة في المعارك، ونخوته التي فاقت الوصف. ارتبط اسمه بلقب “غدير الموت”، الذي لم يأتِ من فراغ، بل كان تجسيدًا لهيبته وقوته التي بثّت الرعب في قلوب الأعداء. يستعرض هذا المقال سيرة هذا الفارس الأسطوري، مستندين إلى الروايات التاريخية والشعبية، لنسلط الضوء على حياته، صفاته، بطولاته، وسبب وفاته الغريبة.

نشأة “ابن مجلاد” ومكانته في قبيلة عنزة

وُلد الشيخ برجس بن قاعد المجلاد في القرن الثالث عشر الهجري، ونشأ وترعرع في أواسط وشمال هضبة نجد بالمملكة العربية السعودية. تربى برجس في أحضان والده الشيخ قاعد بن مجلاد، الذي كان له تأثير كبير في صقل شخصيته وتكوينه كقائد. بعد وفاة والده، شمّر برجس عن ساعد الجد والاجتهاد، ودخل ميدان البطولة والفروسية بقوة، ليُصبح فارسًا مغوارًا، مهيوب الجانب والجناب.

اشتهر ابن مجلاد بنصرته للحق ومحاربته للباطل، وإنصافه للمظلومين، وهي صفات تعكس قيم الفروسية الأصيلة التي تشربها من بيئته القبلية. كانت مكانته بين عرب شبه الجزيرة العربية رفيعة، فقد كان يُعرف على نطاق واسع باسم “برجس غدير الموت”. هذا الاسم، كما سنرى لاحقًا، لم يكن مجرد لقب، بل كان مؤشرًا حقيقيًا لندرته وشهرة شجاعته التي وصلت حد الأسطورة.

يُعد ابن مجلاد من الشيوخ الأوائل لقبيلة الدهامشة، التي تُعد من العمارات من عنزة. كان الشيخ برجس يُقيم في أغلب الأوقات في ناحية بيرحا أو بيرجا من سباخ القصيم، بالقرب من بريدة. هذا التواجد الجغرافي جعله قريبًا من طرق القوافل والمناطق الحيوية في نجد، مما عزز من دوره القيادي في المنطقة.

صفات “غدير الموت” وميزات شخصيته الفريدة

كانت شخصية ابن مجلاد مزيجًا فريدًا من القوة البدنية، الصلابة النفسية، والكرم الفائق، مما جعله محط إعجاب وتقدير الجميع.

وصفه الجسدي والنفسي:

  • متوسط القامة وقوي البنية: كان ابن مجلاد متوسط القامة، ولكنه كان قوي البنية، مفتول الساعد، عريض المنكبين، واسع الصدر. هذه الصفات الجسدية تُوافق الصورة الذهنية للفارس الشجاع الذي يعتمد على قوته في المعارك.
  • الصبر والكرم والطيب: كان معروفًا بصبره على تحمل تقلبات الدهر، وهي صفة أساسية في حياة البدو التي تتطلب صلابة وتحملًا للظروف الصعبة. كما كان معروفًا بالكرم والطيب، وهما صفتان من أهم صفات الشيوخ والقادة في المجتمع القبلي، حيث يُعتبر الكرم دليلًا على السخاء والنخوة.
  • الشجاعة والنخوة: يُعد ابن مجلاد من أبطال الفوارس الذين أنجبتهم أرض الجزيرة العربية. كان أشجع الرجال وأكرمهم وأكثرهم حمية ونخوة في الذود عن حقوق المظلومين من جماعته والتابعين له. كان خير من يُلاذ به عند الشدائد، وهو ما أكسبه ولاء واحترام قبيلته والقبائل الأخرى.

الصوت المهيب وسر “غدير الموت”:

من أبرز الصفات التي اشتهر بها ابن مجلاد عند عرب البادية، والتي كُتبت عنها مقالات تاريخية، هو صوته المهيب. يُقال أن صوته كان له هيبة تخيف الخيل وتُرهب العدو لدرجة أن الخيل تبول من قوة صوته وشدته. هذه الصفة، وإن بدت مبالغًا فيها، إلا أنها حقيقة عرف بها بين البدو في الجزيرة العربية، وتُشير إلى مدى تأثير شخصيته على محيطه.

أما سبب تسميته بـ “غدير الموت”، فيرجع إلى موقفه في المعارك. يُروى أن ابن مجلاد إذا حضر معركة، وعندما يُقال له من أحد أعدائه: “يابرجس جاك الموت”، كان يرد عليه بصوت قوي: “أنا الموت! أنا الموت!”. وهكذا، أصبح كل شخص يقابل برجس في المعركة يُعَد ميتًا لا محالة، إلا إذا شاءت الأقدار أن ينجو من قبضته. كان هذا اللقب يعكس إيمانه الراسخ بأن الحياة لا قيمة لها إذا لم يفز بالمعركة ويقهر العدو. كان قوله المشهور عند خوض المعارك: “إنني سوف أفعل المستحيل، ولا حاجة لي في حياتي إذا لم أفز بهذه المعركة.”

مواضيع ذات صلة: شيخ قبيلة عتيبة : أصالة النسب وقيادة حكيمة عبر التاريخ

بطولات “ابن مجلاد” ومواجهاته التاريخية

شاركت أسر ابن مجلاد في العديد من المعارك والغزوات التي خلدها التاريخ الشعبي والمدون، مما عزز من مكانته كفارس وقائد لا يُشق له غبار.

معركة عروى:

من أبرز المعارك التي شارك فيها ابن مجلاد هي معركة عروى، التي انتصرت فيها قبيلة عنزة على قبيلة مطير. شارك برجس في هذه المعركة إلى جانب والده قاعد بن مجلاد، مما يُشير إلى امتداد قيادته من جيل إلى جيل.

إنصافه لأهل بريدة:

يروي الشيخ إبراهيم بن عبيد آل عبد المحسن في تاريخه “تذكرة أولى النهى والعرفان” حادثة وقعت سنة 1276هـ، تُبرز نخوة ابن مجلاد وشجاعته. في أحد الأيام، اعتدى غزاة على أحد رعاة وأهل بريدة، واستولوا على حلالهم. فاستنجد أهل بريدة بالشيخ برجس المجلاد. على الفور، جهّز الشيخ برجس جيشًا لاستعادة الحلال من الغزاة، وبالفعل، أعاد الحلال إلى أصحابه وأسر المعتدين.

يُصف الشيخ إبراهيم في هذا السياق قوة صوت برجس وتأثيره: “كان برجس ليثًا مغوارًا… كان موضع برجس من ناحية بيرحاء من سباخ بريدة. ومن شجاعته أن العدو أغار على سروح بريدة فأخذها… وكان العدو في عشر من الخيل وعشر من العمانيات. ولما أخذوا السروح وانطلقوا بها غنيمة باردة… فاخبروا برجس بالقصة يريدونه أن يفزع لهم، فألبى لهم ما يريدون برجس فورًا من مكانه وينتخي.

وكان إذا انتخى برجس تبول فرسه دمًا من قوة صوته، فسل سيفه وركب جواده وهبّ وراء الأعداء وهو يقول: من يقابل، من يقابل! فلا رغبة لي في الحياة. فأدركهم برجس في الأسياح وهو ينتخي فاستولى عليهم الخوف من برجس وسكن قلوبهم الذعر عندما سمعوا صوت برجس، ولم يشعروا به إلا وضربهم من جهة اليمين وخرج من الأخرى أي اليسار، فقتل فارسين خرجت أعنة فرسيهما تجران بالأرض من قوة الضربة، ورجع مرة أخرى ليضربهم بالسيوف، فطاروا خوفًا منه شاردين وقد تركوا جميع ما تحت أيديهم خوفًا من بطش برجس وقوته. فأتَى برجس بالخيل والإبل والسروح وهو يقول: دونك ياعبد العزيز: خذ الفرسين وعشر العمانيات! ورد على أهل بريدة سروحهم.” هذه القصة تُظهر شجاعة ابن مجلاد الفائقة، وقدرته على قلب موازين القوى بمفرده.

مواجهته مع الإمام فيصل بن تركي آل سعود:

على الرغم من قوة ابن مجلاد، إلا أنه لم يكن فوق السلطة. يُذكر أنه غُلِب مرة واحدة في حياته، وكان ذلك على يد الإمام فيصل بن تركي آل سعود، حاكم نجد آنذاك. غضب الإمام فيصل على برجس وهدده بالإبعاد إذا لم ينتهِ من الاعتداء على عماله ورجاله الذين ينتمون إلى جند الحكومة. هذه الحادثة تُظهر حدود نفوذ الشيوخ القبليين في ظل الدولة المركزية.

صداقته مع الشيخ ساجر الرفدي:

من أعز أصدقاء ابن مجلاد والمقربين له، الشيخ ساجر الرفدي، شيخ عشيرة السلقا من العمارات من عنزة. كان الشيخ ساجر معروفًا هو الآخر بالشجاعة والكرم، مثل ابن مجلاد. يُروى أنه في يوم من الأيام، كان برجس وساجر يُقيمان في بريدة أثناء حكم أميرها عبد العزيز بن محمد آل عليان. في ذلك الحين، أرسل أمير الجبل (محمد بن عبد الله الرشيد) رسالة إلى الإمام فيصل بن تركي يخبره بأمر برجس وساجر، حيث كانا يقومان بشن الغارات والغزوات على الموالين له من قبائل الشمال. فغضب الإمام فيصل وأمر بتجهيز حملة لتأديب برجس وصديقه ساجر. فداهمتهما تلك الحملة في أرض القصيم. نزح ساجر الرفدي إلى عرعر وبالقور، بينما نزل برجس جنوب بريدة في مكان يُقال له بيرحاء، المعروف الآن بسوق العقيلات. ومن هنا انفصل برجس وساجر عن بعضهما، ليُصبح ساجر في الشمال، وبرجس حول القصيم وبريدة.

وفاة “ابن مجلاد”: نهاية فارس أسطوري

تُعد وفاة ابن مجلاد من الروايات التي تضاربت حولها الأقوال، إلا أن الرواية الأكثر شيوعًا والأقرب للحقيقة تُشير إلى وفاته بطريقة غير متوقعة، لكنها لم تكن غدرًا أبدًا، بل كانت نتيجة خطأ غير مقصود.

يُذكر أن الذي قتل برجس كان من أبناء الشمامرة، جارًا لبرجس. كان برجس يُعلم ابن الشمري الرماية بالبندقية. وعندما ذهب برجس ليضع النيشان ليدرب ابن الشمري، ضغط ابن الشمري من غير قصد على زناد البندقية، فأصابت برجس رحمه الله.

على الرغم من إصابته البليغة، إلا أن شهامة ابن مجلاد وكرمه لم يتركاه حتى في لحظاته الأخيرة. عندما شعر بدنو أجله، أوصى أبناءه بألا يُلحقوا أي أذى بالشمري وأهله، مؤكدًا أن ابنه قتله بالخطأ. ويُروى أنه وهو على فراش الموت قال جملة شهيرة: “لا تصيحوا حريم جيرانكم”، وهي وصية لأبناء القبيلة بالحفاظ على كرامة الجار وحرمته.

هذه الرواية تُعد الأكثر تصديقًا بين الروايات التي اختلفت حول سبب وفاة برجس “غدير الموت”. وتُبرز هذه النهاية النبيلة أخلاق الفارس النبيل، الذي حافظ على قيم الكرم والشهامة حتى أنفاسه الأخيرة.

“ابن مجلاد” في الشعر الشعبي والتاريخ الشفوي

تُعد شخصية ابن مجلاد مصدر إلهام للعديد من الشعراء في الجزيرة العربية، الذين خلدوا بطولاته وصفاته في قصائدهم. يُصف أحد الشعراء المعاصرين لبرجس في أبيات قليلة:

يا محلا الفنجال في فية الجال اللي قيل يا عواد هات الفناجيل اللي مدح برجس صدق فيه ما عال الخوف ماله في ضميره مداخيل يا من خبر خيال يسوى ألف خيال برجس غدير الموت ذيب الرجاجيل وربعه محدّدة الجمل قدام الأبطال لهم على الجمع المعادي مصاويل

هذه الأبيات تُجسد شجاعة ابن مجلاد وبسالته، وتُبرز مكانته كفارس لا يُضاهى، وشيخ يُعتمد عليه في الشدائد. كما تُشير الأبيات إلى قوة قبيلته “محدّدة الجمل”، وهي كناية عن عنزة التي كانت تُحدد الجمل في المعارك للدلالة على الصمود وعدم التراجع.

لقد خلدت أخبار شجاعة ابن مجلاد في كتب التاريخ والأدب الشعبي، ليُصبح رمزًا للفروسية والنخوة، ومثالًا يُحتذى به في الشجاعة والكرم. يُقال أنه آخر شيوخ عنزة الذين هاجروا من نجد، مما يُضفي على شخصيته بعدًا تاريخيًا إضافيًا.

الإرث الخالد لـ “ابن مجلاد”

إن سيرة ابن مجلاد، الشيخ برجس بن قاعد المجلاد، ليست مجرد قصة فارس من الماضي، بل هي جزء لا يتجزأ من الإرث العريق لقبيلة عنزة، والجزيرة العربية بأسرها. لقد جسّد ابن مجلاد كل ما يُمكن أن يُرمز إليه بالفروسية العربية الأصيلة: الشجاعة التي لا تعرف الخوف، الكرم الذي يتجاوز حدود السخاء، النخوة التي تدفع للدفاع عن المظلومين، والهيبة التي تُرهب الأعداء.

لقبه “غدير الموت” لم يكن مجرد تسمية عابرة، بل كان عنوانًا لمشروع حياته الذي يقوم على الانتصار أو الموت في سبيل الحق. قصصه وبطولاته، من إنصافه لأهل بريدة إلى مواجهاته مع أقوى أمراء عصره، تُثبت أنه كان قائدًا لا يُستهان به، وشخصية مؤثرة في زمانها.

حتى وفاته، التي كانت خطأً غير مقصود، جاءت لتُبرز جانبًا آخر من شخصيته النبيلة، حيث أوصى بالحفاظ على جار قاتله، مما يُظهر عظمة أخلاقه حتى في أصعب اللحظات. لقد رحل ابن مجلاد، لكن ذكراه بقيت خالدة في الذاكرة الشعبية، وفي ثنايا كتب التاريخ. إنه يُعد مثالًا حيًا للأبطال الذين أنجبتهم الجزيرة العربية، وتظل قبيلة عنزة، التي أنجبت كليب بن وائل والزير سالم والملك عبد العزيز آل سعود، تفتخر بكونها أنجبت فارسًا بحجم ابن مجلاد، “غدير الموت”. إن تاريخ هذه القبيلة يحتاج إلى مئات، بل آلاف الكتب لتوثيق قصص أبطالها الذين سطروا أروع صفحات المجد على مر العصور.

مواضيع ذات صلة:

قبيلة بني خالد قبائل الكويت الهوله وش يرجعون
شجرة مطيررمز قبيلة مطيرفخوذ العتبان
قبيلة العجمان قبائل الدواسرالعبدلي وش يرجع 
غامد الهيلا قبيلة عتيبة قبائل نجد 
رمز قبيلة غامد قبيلة العجمينسب قبيلة حرب 
قبيلة غامد انسابها وديارهافخوذ قبيلة جهينة نسب قبيلة جهينة 
الحراجين وش يرجعون المطرفي وش يرجع قبيلة بلقرن 
قبيلة الغياثي قبيلة بني مهدي قبيلة يام الهمدانية
الجرفالي وش يرجعقبيلة هذيلاكبر قبائل الجنوب
قبيلة بني مالك قسرقبيلة شهرانالبقوم وش يرجعون
قبيلة اكلب وش ترجعشجرة قبيلة الاشراف كاملةقبيلة بلي نسبها وفروعها

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock