الدم الذي أثار الجدل: قصة البرزان من مطير بين العلم والتراث

دماء تشفي من “الغليث”.. حقيقة أم أسطورة؟
في أعماق صحراء نجد، حيث تتدفق قصص البطولة والأصالة، تبرز أسرة تحمل سرًّا طبيًّا أثار حيرة العلماء لقرون: البرزان من مطير. قبيلة يؤمن أبناؤها – وبعض المجتمعات المحيطة – أن في عروقهم دماءً تشفي من داء السعار (الكلب) أو ما يسمونه “الغليث”. هذه القناعة المتوارثة، المثبتة بتجارب شعبية مذهلة، تتعارض مع حقائق الطب الحديث، فتحولت إلى لغز ثقافي يختزل صراعًا بين التراث والعلم. لكن من هم البرزان حقًّا؟ وما حكاية هذا الدم الذي وُصف بـ”الثروة الوطنية”؟ هذا التحقيق الشامل يكشف الأبعاد الخفية لقبيلة أرّخها الحمض النووي، وخلّدتها أشعار الفحول، وحيكت حولها الأساطير.
الأصل الجيني الحاسم: الحمض النووي يُسكت المشككين
لطالما دارت تساؤلات حول النسب الحقيقي للبرزان، لكن الفحوصات الجينية الحديثة حسمت الجدل بشكل قاطع. وفق أحدث الدراسات الوراثية التي أُجريت على عينات من الفخوذ الثلاثة الرئيسية للبرزان – المهادية، الموانعة، المقبول – ظهرت النتائج مذهلة:
جميع العينات انتمت للتحور الجيني FTB62836، وهو فرع من السلالة FGC1717 → FGC1715 → FGC1713، وهي السلالة المميزة لقبيلة مطير دون غيرها.
هذه النتائج دحضت كل الادعاءات التي حاولت نسب البرزان إلى غير مطير، وأثبتت تجذرهم في شجرة القبيلة منذ قرون. التكتل الجيني الواضح بين فخوذ البرزان ومطير يُعد دليلًا علميًّا لا يقبل الشك، ويؤكد أنهم الذرية الصافية لغطفان، تلك القبيلة العدنانية العريقة التي ذكرتها المصادر التاريخية.
الأسطورة التي لا تموت: دم البرزان وداء السعار
جذور المعتقد: من عبد الله بن الزبير إلى الصحراء
تروي الروايات الشعبية قصةً غريبةً تشرح سر هذه الدماء:
“عندما احتجم الرسول صلى الله عليه وسلم، أمر عبد الله بن الزبير بإخفاء دمه. لكن ابن الزبير شربه! فقال له الرسول: ويل للناس منك وويل لك من الناس“.
هذه الحادثة – وفق المعتقد – منحت دماء ذريته (البرزان) قوة شفائية من داء الكلب. وقد نقل المؤرخ حمد الجاسر هذا الموروث، مشيرًا إلى أن البرزان هم أحفاد عبد الله بن الزبير بن العوام.
شهادات واقعية: 47 ذئبًا و92 مصابًا!
أكثر الحوادث إثارةً وردت في تقارير المستكشف ديكسون (1935-1950):
في عام 1947، هاجمت مجموعة من 47 ذئبًا قريةً في حفر الباطن، عضّت خلالها 92 شخصًا. يروي ديكسون أن المصابين شربوا دماء البرزان فشفوا، بينما رفض خمسة العلاج فماتوا!
الطب vs التراث: معركة لا تنتهي
رغم انتشار اللقاحات الحديثة، ظل أبناء الصحراء – حتى أواخر القرن العشرين – يلجؤون لدم البرزان. في عام 2010، نشرت جريدة “الرياض” دراسةً نفت وجود أي خصائص علاجية في دمائهم، ووصفت الفكرة بـ”الخرافة الطبية”. لكن أنصار الفكرة يردون:
“هذه هبة إلهية لا تفهمها مختبرات الغرب!”.
البرزان: ثروة وطنية أم تراث يُحفظ؟
مطالب بـ”مصنع أدوية” للدم النادر!
في 26 سبتمبر 2019، أطلق الإعلامي قبلان السويدي في جريدة “حول الخليج” صيحةً غريبة:
“دم البرزان ثروة وطنية نادرة.. نناشد الملك سلمان بإنشاء مصنع أدوية لاستخراج عقار منه”.
وأيده الدكتور عبد العزيز الدواس قائلًا:
“هذه الفئة النادرة تستحق الدعم المالي مقابل دمائها”.
سؤال أخلاقي: أين الحد بين التقدير والاستغلال؟
هل يصح تحويل المعتقد الشعبي إلى سلعة؟ الأكيد أن هذه الدعوات أثارت جدلًا حادًّا:
- المؤيدون: يرونها فرصة لتحويل التراث إلى منفعة اقتصادية.
- المنتقدون: يحذرون من استغلال ثقافة القبيلة وتجارة “الدم الزعيم”.
ديار البرزان: من حفر الباطن إلى منفوحة
تمتد منازل البرزان في مساحات شاسعة من نجد، أهمها:
- حفر الباطن: المقر الرئيسي لفخوذ البرزان.
- القيصومة: مناطق الرعي التقليدية.
- منفوحة: موطن فخذ “العفسة” المرتبط بالبرزان.
هذه الديار لم تكن مجرد موطن، بل ساحةً حفظت قصص البطولة التي تغنى بها الرواة، وشهدت مواسم الشتاء والصيف التي شكلت هوية القبيلة.
أعلام البرزان: شعراء كالسيوف، ورجال كالجبال
الشاعرة مويضي البرازية: صاحبة اللسان الفصيح
لم تكن مويضي مجرد شاعرة، بل كانت ظاهرة أدبية. تميزت بـ:
- سرعة البديهة في الرد على الخصوم.
- شعر المديح والهجاء الذي يحمل قوةً نادرة.
- الدفاع عن قيم الشرف والكرم في قصائدها.
أشعارها كانت سلاحًا اجتماعيًّا يُحسم به النزاعات، ويُرفع به من شأن المقدامين.
فلاح بن حماد البرازي: شاعر القبيلة وسفيرها
هو الوجه الثقافي الأبرز للبرزان في العصر الحديث. عُرف بـ:
- توثيقه لتاريخ القبيلة في قصائده.
- مشاركته الفاعلة في أعراس المطيري ومناسباتهم.
- دفاعه عن قيم “حمران النواظر” (أي الكرام).
عبدالله بن حنايا ومحسن أبو شيربات: حكّام الصحراء
من رجالات البرزان الذين حكموا بالعرف القبلي، وحلّوا المنازعات بحكمةٍ جعلتهم مراجع اجتماعية يُلجأ إليها في الأزمات.
قبيلة مطير: الجذور الضاربة في عمق التاريخ
النسب العدناني: من غطفان إلى مطير
يكاد يجمع المؤرخون على أن مطيرًا هي ذرية غطفان بن سعد بن قيس عيلان، القبيلة العدنانية المشهورة في الجاهلية. يؤكد محمد العبيد:
“مطير هم غطفان.. أهل تلك المياه منذ الجاهلية”.
بينما يوضح حمد الجاسر:
“لم يبق من غطفان إلا بنو عبد الله، وهم نواة مطير اليوم”.
لماذا سُمّيت “مطير”؟ ثلاثة تفسيرات
- الاسم الدال على الكرم: من “المطر” رمز العطاء.
- النسبة لمكان: “ماطر” في الحجاز.
- الارتباط بفرع “المطارنة”: أحد بطونها القديمة.
الفروع الثلاثة الكبرى: العمود الفقري للقبيلة
تنقسم مطير إلى ثلاث جماجم رئيسية:
- بني عبدالله: أكبر الفروع، ومنهم البرزان.
- علوي: في الحجاز ونجد.
- بريح: في نجد والكويت.
خاتمة: البرزان.. بين إرث الدم وإثبات الجينات
قصة البرزان من مطير ليست مجرد سرد تاريخي، بل هي مرآة تعكس تعقيد الهوية العربية. فهُم من جهة: أبناء التحور الجيني FTB62836 الذي يوثق انتماءهم المطلق لمطير. ومن جهة أخرى: حملة أسطورة دموية تجاوزت حدود الصحراء إلى الأدبيات العالمية. قد يرفض العلم الحديث فكرة “الدم الشافي”، لكنه لا يستطيع إنكار قوة هذا التراث في تشكيل الوعي الجمعي. البرزان اليوم – بشعرائهم، رموزهم، وديارهم الممتدة من حفر الباطن إلى منفوحة – يمثلون نموذجًا فريدًا لـقبيلة حافظت على هويتها رغم رياح التحديث، تاركةً للتاريخ مهمة الحكم على أسرار دمائها.
“دم البرزان قد لا يشفي الجسد في مختبرات العلم، لكنه يشفّ عن روح الصحراء التي لا تموت”.
مواضيع ذات صلة: