ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين – تدبير إلهي يتجلى في وجه المكر البشري

يعَد قوله تعالى في كتابه العزيز: ﴿وَإِذۡ يَمۡكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثۡبِتُوكَ أَوۡ يَقۡتُلُوكَ أَوۡ يُخۡرِجُوكَۚ وَيَمۡكُرُونَ وَيَمۡكُرُ ٱللَّهُۖ وَٱللَّهُ خَيۡرُ ٱلۡمَٰكِرِينَ﴾ [الأنفال: 30]، آيةً عظيمةً تجسد حقيقة كونية وإيمانية لا تتبدل ولا تزول: وهي أن تدبير الله تعالى غالب على كل تدبير، وأن مكره سبحانه أعظم من مكر المخلوقين. هذه الآية ليست مجرد سردٍ لحدثٍ تاريخي، بل هي درسٌ عميقٌ في الثقة بالله، والاعتماد عليه في مواجهة أصعب المحن وأشد المكائد. إنها تُبرز الفارق الشاسع بين مكر المخلوق الذي ينبع من الحقد والضعف، ومكر الخالق الذي هو عين الحكمة والقدرة المطلقة.
سياق النزول: مؤامرة دار الندوة
لِفهم عُمق هذه الآية، لا بدَّ من استحضار السياق الذي نزلت فيه، وهو سياقٌ مليءٌ بالتوتر والخطر الذي أحاط بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم في مكة المكرمة. لقد بلغ إيذاء المشركين حداً لا يُطاق، وأصبح وجود النبي صلى الله عليه وسلم بينهم يُشكِّل تهديداً مباشراً لسيادتهم ونفوذهم في جزيرة العرب. ففي ليلةٍ مشهودةٍ عُرفت بـ”ليلة الهجرة”، اجتمعت قريش في دار الندوة، وهي بمثابة برلمان لهم ومكانٍ لاتخاذ القرارات المصيرية. كان هذا الاجتماع ضمَّ كبار قريش وزعمائها، وعلى رأسهم أبو جهل، الذي كان أشدَّهم عداوةً للإسلام والمسلمين.
كانت الأجواء مشحونةً، والتفكير مُنصباً على إيجاد حلٍّ جذريٍّ “لمشكلة” محمد صلى الله عليه وسلم. وقد ذكر المفسرون أن الشيطان حضر هذا الاجتماع في هيئة شيخٍ نجدي، ليُدلي برأيه ويُشعل فتيل الشر. تناقش القوم في ثلاثة خيارات رئيسية، كلُّها تهدف إلى القضاء على دعوة الإسلام أو إضعافها بشكلٍ كبير:
- الإثبات (الحبس): اقترح بعضهم أن يتم تقييد النبي صلى الله عليه وسلم وحبسه في بيتٍ أو سجنٍ، ومنعه من الاتصال بالناس والدعوة إلى دينه. وكان ظنهم أنَّ هذا سيُضعف من تأثيره ويُطفئ نور دعوته. وقد ورد في تفسير السعدي أنهم أرادوا “أن يثبتوه عندهم بالحبس ويوثقوه”. هذا الرأي يُشير إلى محاولة قمع الدعوة بالإكراه المادي.
- القتل: وهو الخيار الأكثر تطرفاً وخطورة. فقد رأى بعضهم، وعلى رأسهم أبو جهل، أن الحلَّ الأنجع هو قتل النبي صلى الله عليه وسلم. ولكن كانت هناك معضلة تواجههم: كيف يقتلون محمداً دون أن يثيروا ثأر بني هاشم، عشيرته؟ فكان اقتراح أبي جهل الخبيث أن يتم اختيار شابٍّ قويٍّ من كل قبيلة من قبائل قريش، ويُعطى كلُّ واحدٍ منهم سيفاً صارماً، ثم يهجمون على النبي صلى الله عليه وسلم ويقتلونه دفعةً واحدةً كقتل رجلٍ واحد. وبذلك، يتفرق دمه بين القبائل، ولا يستطيع بنو هاشم محاربة جميع قريش، فيرضون بالدية. هذا المكر يُظهر مدى خبثهم ودهاءهم في التخطيط، لكنه في النهاية ارتد عليهم.
- الإخراج (النفي): وهو الخيار الأقلَّ عنفاً، ويهدف إلى إبعاد النبي صلى الله عليه وسلم من مكة ونفيه عنها، على أمل أن يتوقف تأثيره وينسى الناس دعوته. فإذا خرج من مكة، انقطعت صلته بقومه، وانطفأ نجم دعوته في نظرهم.
استقرَّ رأي قريش على اقتراح أبي جهل، وباتوا ليلتهم ينتظرون الفرصة المناسبة لتنفيذ مؤامرتهم. كانوا يعتقدون أنهم أحكموا الخطة، وأن مصير محمد صلى الله عليه وسلم أصبح في أيديهم. لكنهم غفلوا عن تدبير أعظم وأقوى.
مواضيع ذات صلة:
دعاء ابطال السحر والعين والحسد مكتوب | التوبة النصوح شروطها وفوائدها |
حسبي الله سيؤتينا الله من فضله | ياحي ياقيوم برحمتك استغيث |
“ويمكرون ويمكر الله”: التباين بين المكرين
هنا يأتي الجزء الأبرز من الآية الكريمة: “وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ”. هذا التعبير القرآني يُقدِّم لنا تَبايناً صارخاً بين مكر البشر ومكر الخالق.
مكر البشر: محدوديةٌ وخبث
مكر البشر هو ما دبَّره المشركون من خططٍ وأساليب لإلحاق الضرر بالنبي صلى الله عليه وسلم والقضاء على دعوته. إنه مكرٌ ينبع من:
- الضعف البشري: مهما بلغ دهاء الإنسان ومكره، فإنه يبقى محدود القدرة والعلم. لم يستطع المشركون أن يروا أبعد من خططهم المادية، ولم يتوقعوا أن هناك قوةً عليا تُبطل كيدهم.
- الخبث والسوء: مكرهم كان يهدف إلى الشر والعدوان، وإلى إطفاء نور الحق وإعاقة رسالة الهداية. إنه مكرٌ مذمومٌ لا خير فيه، يعكس الظلم والعداوة.
- الجهل بالغيوب: لم يعلموا أن الله تعالى كان مع نبيه، يُطلعه على خططهم، ويُدبر له مخرجاً لم يكن في حسبانهم.
مكر الله: كمالٌ وحكمة
أما “مكر الله” فهو ليس كالمكر البشري الذي يُوصف بالخديعة والغدر. إنما هو في حق الله تعالى:
- كمالٌ في التدبير والحكمة: مكر الله هو تدبيره العظيم الذي يُحبط كيد الكافرين ويُجازيهم بما يستحقون من حيث لا يشعرون. إنه كمالٌ في القوة والقدرة، وحكمةٌ بالغة في توجيه الأحداث بما يُحقق النصر لأوليائه.
- العدل المطلق: مكر الله هو عين العدل، فالله تعالى لا يمكر إلا بالماكرين الظالمين الذين يعتدون على الحق وأهله. إنه جزاءٌ للسيئة بالسيئة، ولكن على نحوٍ لا يُقاس بمكر المخلوق.
- القدرة المطلقة والعلم المحيط: الله تعالى يعلم كل شيء، ولا يخفى عليه خافية. فهو مُحيطٌ بكل جوانب المؤامرات، وقادرٌ على إحباطها بأيسر السبل.
ولذلك قال العلماء في تفسير “مكر الله” أنه يعني:
- استدراجه تعالى لهم: كأن يُمهلهم، ويُعطيهم فرصةً بعد فرصة، حتى يزدادوا في غيهم، ثم يأخذهم بغتةً من حيث لا يعلمون، كما قال تعالى: ﴿سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف: 182].
- مجازاتهم على مكرهم: يُطلق على جزاء الفعل اسم الفعل نفسه، فمكر الله هو جزاء مكرهم، إبطالٌ له وإيقاعٌ لوخامته عليهم. هذا ما يُعرف في البلاغة بـ”المشاكلة”.
- إلقاء الشبه وإفشال الخطط: كما حدث في قصة الهجرة، حيث ألقى الله الشبه على أحد المتآمرين، أو أعمى أبصارهم عن النبي صلى الله عليه وسلم، مما أفشل خطتهم.
“والله خير الماكرين”: غلبة التدبير الإلهي
ثم تختتم الآية بالقول الفصل: “وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلْمَاكِرِينَ”. هذه الجملة تُؤكد على تفوق مكر الله تعالى على أي مكرٍ بشري. إنها ليست تفضيلاً لمكر على مكر، بل إثباتٌ لِكمال وقوة وغلَبَة تدبير الله تعالى. “خير الماكرين” هنا تعني الأقوى والأشدُّ مكراً، أي الذي لا يغالبه غالب، والذي لا يمكن لأحدٍ أن يُفلت من تدبيره.
في هذه الليلة المصيرية، بينما كان المشركون يترصدون النبي صلى الله عليه وسلم أمام بيته، كان التدبير الإلهي يعمل على نحوٍ مُدهش:
- الوحي الإلهي: جاء الوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم يُبلغه بمؤامرة قريش، ويُأمره ألا يبيت في مضجعه. هذا هو أول مظاهر مكر الله تعالى: كشف المؤامرة قبل وقوعها.
- التضحية الشجاعة: أمر النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن ينام في فراشه ويتسجى ببردته، ليُضلل المشركين. هذا الفعل الشجاع كان جزءاً من الخطة الإلهية لتمكين النبي من الخروج بأمان.
- الخروج المعجز: خرج النبي صلى الله عليه وسلم على مرأى ومسمع من المترصدين، وذرَّ على رؤوسهم التراب، وهم لا يرونه. لقد أعمى الله أبصارهم عنه، فمرَّ من بينهم بسلام. هذا مشهدٌ يُجسد قوة الله وعجز البشر أمام تدبيره.
- الهجرة المباركة: أذن الله لنبيه بالهجرة إلى المدينة المنورة، حيث وجد الأمن والنصرة. هذه الهجرة لم تكن مجرد هروب، بل كانت نقطة تحول في تاريخ الإسلام، وبداية تأسيس الدولة الإسلامية.
دروس وعبر من الآية الكريمة
تُقدم لنا هذه الآية دروساً عظيمةً وعِبَراً لا تُحصى، تُعزز إيماننا وتُقوي يقيننا بالله تعالى:
1. الثقة المطلقة في تدبير الله:
الآية تُرسخ مبدأ الثقة المطلقة في تدبير الله تعالى. مهما أحاطت بنا المؤامرات والمكائد، ومهما بدا الموقف صعباً ومُحبطاً، فإن الله تعالى هو المدبر الحكيم الذي لا يُغالبه غالب. على المؤمن أن يُفوِّض أمره إلى الله، ويُوقن بأن الله سيُنجيه من كل كرب.
2. الجزاء من جنس العمل:
مكر الله بالماكرين يُظهر أن الجزاء من جنس العمل. فكما أنهم مكروا بالباطل، مكر الله بهم بالحق، وكما أنهم أرادوا الشر، ردَّ الله عليهم شرهم. هذا يُعطي المؤمن طمأنينة بأن الظالم لن يفلت من عقاب الله، وأن كيده سيعود عليه.
3. نصر الله لأوليائه:
الآية دليلٌ قاطعٌ على أن الله تعالى يُنصر أولياءه ويُؤيدهم، حتى لو بدا أنهم قلةٌ وضعفاء في مواجهة الأعداء الأقوياء. لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم وحده في مواجهة قبائل قريش بأكملها، لكن الله نصره وأعزه.
4. الإعداد والأخذ بالأسباب مع التوكل:
رغم أن الله تعالى هو خير الماكرين، إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتجاهل الأخذ بالأسباب. فقد أعدَّ للخروج، وأمر علياً بالنوم مكانه، واستعان بالصديق أبي بكر، وسلك طريقاً غير مألوف. هذا يُعلمنا أن التوكل على الله لا يعني التواكل، بل هو الأخذ بالأسباب مع اليقين بأن النتائج بيد الله.
5. كمال صفات الله تعالى:
الآية تُبرز كمال صفات الله تعالى من العلم والقدرة والحكمة والعدل. فالله تعالى يعلم الغيب والشهادة، وهو قادرٌ على كل شيء، وحكمته بالغة في تدبير الأمور.
6. أهمية الهجرة في الإسلام:
هذه الآية تُسلط الضوء على الأهمية العظمى للهجرة في تاريخ الإسلام. لم تكن مجرد هروب، بل كانت تحولاً استراتيجياً سمح للمسلمين ببناء دولتهم ونشر دعوتهم.
مفاهيم خاطئة حول “مكر الله”
قد يتبادر إلى ذهن البعض سؤال حول وصف الله تعالى بالمكر، وهل هذا يناسب جلاله وكماله؟ للإجابة على ذلك، لا بدَّ من التفريق بين المكر المذموم والمكر المحمود.
- المكر المذموم: هو الذي يصدر من المخلوق بقصد الإضرار بالغير بغير حق، وهو الذي يتضمن الخبث والخديعة والغدر. وهذا لا يليق بجلال الله تعالى.
- المكر المحمود (في حق الله): هو تدبير الله تعالى للجزاء بالباطلين، ومكرهم بهم جزاءً على مكرهم السوء، وهو غاية الحكمة والعدل. فالله تعالى لا يمكر إلا بالماكرين، ولا يخادع إلا المخادعين، ولا يستهزئ إلا بالمستهزئين. وصفة المكر في حق الله تدل على كمال قدرته وتدبيره الذي لا يضاهيه تدبير. فمكر الله هو نصرة للمظلوم وإيقاع بالظالم، وهو في حقيقته رحمة وهداية للمؤمنين.
ولهذا، فإن قول “والله خير الماكرين” يُفيد أن مكر الله تعالى لا يُضاهيه مكر، وأنه الغالب المنتصر، وأن أي مكرٍ من المخلوقين يبطل في مقابل تدبير الله تعالى.
أمثلة أخرى على مكر الله بالماكرين
لم تقتصر هذه الحادثة على ليلة الهجرة فحسب، بل إن التاريخ الإسلامي والقرآن الكريم يزخران بالأمثلة التي تُظهر كيف أن الله تعالى يمكر بالماكرين:
- قصة يوسف عليه السلام: عندما دبر إخوة يوسف عليه السلام له المكيدة وألقوه في غيابة الجب، كان الله تعالى يدبر له الخير ويرفعه إلى مكانة عظيمة. قال تعالى: ﴿كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ ۖ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ﴾ [يوسف: 76].
- قصة أصحاب الفيل: عندما أراد أبرهة هدم الكعبة، دبر الله تعالى لهم مكراً عظيماً، وأرسل عليهم طيراً أبابيل، فجعلهم كعصف مأكول.
- كيد المنافقين: وصف الله تعالى كيد المنافقين ومكرهم بقوله: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ﴾ [النساء: 142]. فخداع الله لهم هو استدراجهم وتزيين الباطل في أعينهم، ثم إيقاع العذاب بهم من حيث لا يحتسبون.
- كيد فرعون: عندما كاد فرعون وجنوده لموسى عليه السلام وقومه، دبر الله لهم مكراً وأغرقهم في اليم، بينما نجا موسى وقومه. ﴿وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ﴾ [الفجر: 10-14].
كل هذه الأمثلة تُؤكد على حقيقة أن مكر الله تعالى غالب، وأنه لا يُعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.
الخاتمة: رسالة طمأنينة ويقين
إن آية “ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين” تُعدُّ إحدى آيات الله البينات التي تُبرز قدرته المطلقة، وحكمته البالغة، وعدله الذي لا يغيب. هي رسالة طمأنينة ويقين لكل مؤمن يواجه مكائد الأعداء وتدابيرهم. فمهما اشتدت الخطوب، وعظمت المؤامرات، فإن تدبير الله تعالى أعظم وأجل، وهو كفيلٌ بنصرة الحق وإحباط كيد الباطل. على المؤمن ألا يخاف أو يحزن، وأن يُدرك أن الله معه، وأن كل مكرٍ يُدبر ضده، سيُدبر الله تعالى ما هو أعظم وأقوى لإفشاله ورده على أصحابه. فليكن شعار كل مؤمن في مواجهة التحديات: “ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين”. هذا اليقين هو مفتاح الصبر والثبات والنصر في الدنيا والآخرة.