في رؤية استشرافية جريئة، توقع الشريك المؤسس لعملاق التكنولوجيا مايكروسوفت، بيل غيتس، حدوث انقلاب نوعي في سوق العمل والخدمات المهنية بحلول عام 2035، حيث يرى أن الذكاء الاصطناعي سيتمكن من أداء مهام الأطباء والمعلمين وغيرهم من المتخصصين.
وأشار غيتس إلى أن “النصائح الطبية عالية الجودة والدروس الخصوصية المتقدمة” ستصبح متاحة للجميع وبشكل مجاني تقريبًا، وذلك بفضل التطور المتسارع لقدرات الذكاء الاصطناعي في محاكاة وإتقان المهارات البشرية المعقدة.
خلال سلسلة من اللقاءات الإعلامية في مطلع عام 2025، استعرض غيتس ملامح عصر جديد وصفه بـ “الذكاء المجاني”، وهو زمن ستصبح فيه المعرفة والخدمات المتقدمة في متناول أوسع شريحة من الناس وبتكلفة ضئيلة، مدفوعة بتقنيات الذكاء الاصطناعي المتطورة.
نهاية عصر ندرة الخبرات المتخصصة:
أكد غيتس على أن المهن التي لطالما اعتُبرت بمنأى عن تأثير الأتمتة، مثل مجالي الطب والتعليم، ستكون في طليعة القطاعات التي ستشهد تحولًا عميقًا، وربما استبدالًا جزئيًا أو كليًا بالذكاء الاصطناعي.
وتوقع أنه في غضون أقل من عقد من الزمن، ستوفر هذه التقنيات “نصائح طبية عالية الجودة” و”دروسًا تعليمية متقدمة” بصورة مجانية، مما سيجعل الخبرات التي تُعد اليوم نادرة ومكلفة، في متناول يد الجميع.
ويرى غيتس أن هذا التحول سيساهم بشكل كبير في معالجة النقص المزمن في الكفاءات المؤهلة في القطاعات الحيوية كالصحة والتعليم، خاصة في الدول النامية مثل الهند ودول القارة الإفريقية، حيث لا يزال الوصول إلى الخدمات المتخصصة يمثل تحديًا كبيرًا.
مواضيع ذات صلة:
الذكاء الاصطناعي: ثورة تقنية تعيد تشكيل مستقبلنا
تحول شامل يطال سوق العمل والمجتمع:
لا تقتصر رؤية غيتس على قطاعي الصحة والتعليم فحسب، بل تمتد لتشمل طيفًا واسعًا من الصناعات، بما في ذلك المصانع، والإنشاءات، والضيافة، وحتى بعض الوظائف اليدوية والعمالية، وذلك بالتوازي مع التطور المذهل في تقنيات الروبوتات. ومع التزايد المستمر في قدرات أنظمة الذكاء الاصطناعي، يتوقع غيتس أن تتولى هذه الأنظمة مهام حيوية في مجالات مثل الخدمات اللوجستية، والتصنيع، والنقل، والزراعة – وهي قطاعات توفر ملايين الوظائف حول العالم.
ويتجاوز تأثير توقعات غيتس الجانب التكنولوجي ليشمل أبعادًا اجتماعية عميقة.
فهو يرى أن المجتمعات ستحتاج إلى إعادة تقييم جذرية لمفهوم العمل ذاته، مع الاعتماد المتزايد على الذكاء الاصطناعي في إنجاز المهام الروتينية والمعقدة على حد سواء. ويتوقع أن يفضي هذا التحول إلى مستقبل يتميز بتقليل ساعات العمل الأسبوعية، والتقاعد المبكر، وتوفير المزيد من أوقات الفراغ.
بل إن غيتس أشار إلى احتمالية ظهور “عالم ما بعد العمل”، حيث لم تعد الوظائف تمثل الركيزة الأساسية لتنظيم حياة الأفراد.
وفي هذا السياق، صرح غيتس قائلاً: “الوظائف هي نتاج لندرة الموارد… من الصعب على الإنسان أن يعيد برمجة عقله ليتخيل مستقبلًا يخلو من ذلك”، مؤكدًا على الحاجة إلى إعادة تعريف مفاهيم القيمة والإنتاجية في عالم لم تعد فيه الندرة هي المحدد الرئيسي لنمط الحياة.
مرحلة انتقالية بين الإثارة والقلق:
يقر غيتس بأن هذا التحول المستقبلي يحمل في طياته مزيجًا من الإثارة والقلق العميق. فمن ناحية، قد يؤدي الذكاء الاصطناعي إلى ما أسماه بـ “وفرة انكماشية” – وهي حالة تشهد انخفاضًا في أسعار السلع والخدمات نتيجة الوفرة الهائلة. لكن من ناحية أخرى، يحذر من المخاطر المحتملة لاضطراب الاقتصاد، وارتفاع معدلات البطالة، وتعميق فجوة عدم المساواة، إذا لم يتم توزيع مكاسب الذكاء الاصطناعي بشكل عادل ومنصف. ولمواجهة هذه التحديات، دعا غيتس إلى تبني سياسات مبتكرة مثل الدخل الأساسي الشامل، وتقليل ساعات العمل، ووضع أطر جديدة لإعادة توزيع الثروة.
وظائف صامدة وتغيرات جذرية:
على الرغم من توقعاته الطموحة، لا يعتقد غيتس أن الذكاء الاصطناعي سيقضي على جميع أشكال النشاط البشري. فهو يشير إلى أن الوظائف التي تتطلب الإبداع، والذكاء العاطفي، وقدرات حل المشكلات المعقدة، والتواصل الإنساني الحقيقي – مثل المعالجين النفسيين، والفنانين، ومقدمي الرعاية – ستحافظ على أهميتها، على الأقل في المستقبل القريب. كما يرى أن مجالات مثل البرمجة، والطاقة، والبيولوجيا ستظل بحاجة إلى العنصر البشري، وإن كان الذكاء الاصطناعي سيُحدث فيها تغييرات جوهرية.
وحذر غيتس من المخاطر المصاحبة للتبني السريع للذكاء الاصطناعي، مثل انتشار المعلومات المضللة، والتحيزات الخوارزمية، وتركز النفوذ في أيدي شركات التكنولوجيا العملاقة. ولهذا، شجع الشباب والمبتكرين على توجيه مسار تطوير الذكاء الاصطناعي نحو أهداف تتمحور حول الإنسان، مؤكدًا على أهمية المصادر المفتوحة والتعاون الدولي كأدوات لنشر فوائد هذه التكنولوجيا على نطاق واسع.
الطريق إلى مستقبل غير مسبوق:
تمثل رؤية بيل غيتس دعوة ملحة للتفكير المستقبلي وتحذيرًا مبكرًا من التحولات القادمة. فـ “عصر الذكاء المجاني” يحمل وعودًا هائلة بإتاحة المعرفة والخدمات للجميع، وانتشال ملايين الأفراد من قيود الندرة، وإحداث تغييرات جذرية في أنماط حياتنا وعملنا. ومع ذلك، فإنه يلقي على عاتق المجتمعات مسؤولية جسيمة لإعادة تعريف مفاهيم العمل، والقيمة، والأمن الاقتصادي في عالم قد لا يكون فيه العمل البشري ضروريًا “في معظم الأمور”.
وكما أقر غيتس نفسه: “إنه أمر بالغ الأهمية… ومثير للقلق بعض الشيء – بالنظر إلى سرعته الهائلة وغياب الحدود الواضحة.”
إن الطريقة التي ستدير بها البشرية هذا الانتقال التاريخي – من خلال تحقيق التوازن بين الابتكار والشمولية، والتقدم والهدف – هي التي ستحدد الإرث الحقيقي لثورة الذكاء الاصطناعي.