مدينة القطن حضرموت : جوهرة الوادي ومركز التاريخ والعراقة

تتربع مدينة القطن حضرموت كجوهرة تاريخية وإدارية في قلب وادي حضرموت الخصيب، إلى الغرب من مدينة سيئون بنحو 42 كيلومترًا. تُعرف هذه المدينة بكونها المركز الإداري لمديرية القطن، وتشتهر منذ القدم بخصوبة أراضيها الزراعية، التي تزرع فيها أنواع القمح والحبوب الأخرى. لا يقتصر دورها على الجانب الزراعي والإداري، بل تتجلى أهميتها التاريخية والثقافية من خلال سوقها التجاري السنوي الذي ينطلق في منتصف شهر جمادى الثاني ويستمر لمدة أسبوع، والذي ارتبط تاريخيًا بالزيارة الحولية لقبر العلامة عمر بن عبدالله الهدار. هذا الارتباط بين النشاط الاقتصادي والموروث الديني يُعطي مدينة القطن حضرموت بُعدًا فريدًا يعكس عمق تاريخها وحضورها الاجتماعي.
إن ما يميز مدينة القطن حضرموت ليس فقط موقعها الاستراتيجي وثرائها الزراعي، بل أيضًا ما يحيط بها من معالم تاريخية عريقة تروي قصصًا عن حضارات سابقة وصراعات وحروب ومعارك عبر العصور. من أبرز هذه المعالم: العجلانية، حورة، هينين، وقبر النبي صالح، التي تُشكل مجتمعةً نسيجًا تاريخيًا غنيًا يعزز مكانة هذه المديرية كمركز ثقافي وحضاري مهم في حضرموت.
مواضيع ذات صلة: قبائل حلف بني ضنه في حضرموت
مدينة القطن حضرموت والوادي: أرض خصبة وموقع استراتيجي
تقع مدينة القطن حضرموت في الجزء الغربي من وادي حضرموت الرئيسي، الذي يُعرف في هذا الموضع بـ”الكسر”. تُعرف هذه المنطقة بهذا الاسم لأنها تكسر وتستقبل مياه السيول القادمة من الأودية المحيطة، ما يجعلها منطقة غنية بالمياه الجوفية والتربة الخصبة، ومناسبة للزراعة، خاصة القمح وأنواع الحبوب الأخرى التي تشتهر بها المدينة. هذا الموقع الجغرافي الفريد لم يُسهم فقط في ازدهارها الزراعي، بل جعلها نقطة استراتيجية على مر العصور، وشهدت العديد من الأحداث التاريخية والمعارك.
تُشير التسمية القديمة لـ مدينة القطن حضرموت بـ”قطن” (بحذف ال التعريف) إلى ارتباطها بأحد حكام كندة الأوائل. فقد سميت المدينة نسبة إلى قطن بن عمرو بن سعد بن حبيش بن دريد بن صعب بن امريء القيس بن الرائش بن الحارث بن معاوية بن مرتع بن كندة، وهو أحد حكام وسلاطين كندة القدامى وأول من بنى حصونها. هذا يوضح عمق الجذور التاريخية للمدينة وارتباطها الوثيق بقبيلة كندة العريقة التي كانت من أوائل من سكنها.
أقدم سكان مدينة القطن حضرموت وأسرها الكندية
كانت مدينة القطن حضرموت موطنًا للعديد من القبائل والحضارات عبر التاريخ، مما يدل على أهميتها كموقع سكني مستقر. أول من سكنها كانت قبيلة “حضرموت” القديمة، ثم تلتها قبيلة “كندة” في فترة ما قبل الإسلام، وبالتحديد بطن “الحوارث” منهم. بعد ذلك، غلب على المنطقة بطن آخر من “كندة” يُسمى “تجيب” وهو من “السكون”، الذين يُشكلون أغلب سكان القطن ووادي الكسر حتى اليوم. وقد دعا للسكونيين الصحابي الجليل معاذ بن جبل بقوله: “اللهم اغفر للسكون اللهم احشرني مع السكون”، وتزوج منهم، مما يدل على مكانتهم وفضلهم.
لا تزال العديد من أسر كندة تسكن مدينة القطن حضرموت وقراها حتى اليوم، مما يعكس استمرار هذه الأسر في الحفاظ على تراثها وأصولها. من أبرز هذه الأسر التي ذكرتها المصادر: آل باشامخة، آل كرمان، آل عقبة، آل عمارة، آل باصهي، آل مرتع، آل اسحاق، آل بلعجم، آل باعكابة، آل با شراحيل، آل باريق، آل با مطرف، آل باسهل، آل بامعروف، آل باكلثوم. هذه الأسر لم تكن مجرد ساكنين، بل أخرجت العديد من العلماء والفقهاء الذين أثروا الحياة العلمية والدينية في حضرموت.
مواضيع ذات صلة: أشهر ﻗﺒﺎﺋﻞ ﺣﻀﺮﻣﻮت : نظرة معمقة في قبائل حضرموت
علماء وفقهاء مدينة القطن حضرموت: إرث علمي عريق
تُعرف مدينة القطن حضرموت بأنها ولادة للعلماء والفقهاء على مر العصور، خاصة من قبيلة كندة. هؤلاء العلماء تركوا بصمة واضحة في تاريخ المنطقة وأسهموا في إثراء الفكر الإسلامي. من أبرز هؤلاء العلماء:
- العلامة الفقيه عبدالله بن محمد كرمان الكندي: توفي عام 1241 هجرية.
- العلامة عمر سعيد باصهي الكندي: توفي عام 816 هجرية.
- العلامة الفقيه عبدالله بن دلهم بن مرتع الكندي: توفي عام 491 هجرية.
- العلامة عبدالله بن صلاح بن مرتع الكندي: توفي عام 482 هجرية، وقد رحل من القطن واستوطن ظفار حتى أصبح قاضيها.
- العلامة شيبان بن أحمد بن اسحاق الكندي: توفي عام 445 هجرية.
- العلامة الفقيه علي بن حسين باعكابة الكندي: توفي في 19 محرم 896 هجرية.
- العلامة الفقيه علي بن عبيد باريق الكندي: توفي عام 998 هجرية.
- العلامة الفقيه محمد بن أحمد باسهل الكندي: توفي في 22 ذي القعدة 998 هجرية.
- العلامة الفقيه سالم بن يحيى بن أحمد بامعروف الكندي: توفي في 17 محرم 960 هجرية.
هؤلاء العلماء يُشكلون جزءًا لا يتجزأ من الإرث الفكري لـ مدينة القطن حضرموت، ويعكسون دورها كمركز للعلم والمعرفة على مر العصور.
مواضيع ذات صلة : شجرة قبائل حضرموت
حصون مدينة القطن حضرموت: قلاع تاريخية وبطولات كندية
تُعتبر حصون مدينة القطن حضرموت شاهدًا على تاريخها العسكري والدفاعي. يُذكر أن جميع حصون “القطن” (قطن) بناها بطنا “الحوارث” و”تجيب” من كندة. ورغم أن بعض هذه الحصون قد تم تغيير أسمائها أو تعرضت للتخريب بعد السطو عليها عنوة، إلا أنها تظل ملكًا تاريخيًا لقبيلة كندة.
كانت قبيلة كندة، ببطونها الأربعة (السكون ومنهم تجيب، السكاسك، الصدف، ومعاوية الأكرمين (الحوارث))، هي القوة الحاكمة في مدينة القطن حضرموت وقرى وادي الكسر. فكل من ينسب إلى السكون، تجيب، أو الحوارث، فإن أجدادهم حكموا هذه المنطقة. هذا يبرز الدور المحوري لقبيلة كندة في تشكيل المشهد السياسي والعمراني لـ مدينة القطن حضرموت والمنطقة المحيطة بها.
وادي الكسر: أرض الخير والشعر
يُعد وادي الكسر، الذي تقع فيه مدينة القطن حضرموت، من أوسع وأخصب مناطق وادي حضرموت. تمتد حدوده من وادي العين وحتى حذية قرب شبام. وقد سمي بوادي الكسر لأنه “يكسر السيول عن مدينة شبام”، مما يعني أنه يمتص كميات كبيرة من مياه الأمطار والسيول، مما يساهم في خصوبة أراضيه.
وقد ذكر هذا الوادي في المصادر التاريخية والشعر العربي القديم، حيث قال عنه الهمداني في “صفة جزيرة العرب” (ص 171): “ويسكن الكسر في وسط حضرموت ‘تجيب’ منهم إلى اليوم بها أربعمائة فارس”. وقد اشتهر الوادي باسم “كسر قشاقش” نسبة لقرية كندية تُسمى “قشاقش”. وقد ورد ذكر هذا الوادي في شعر أبي سليمان الطائي قائلاً:
“و أوطن منا في قصور براقش فمأود وادي الكسر كسر قشاقش”
هذا يُسلط الضوء على الأهمية الثقافية والتاريخية لوادي الكسر كمركز للحضارة والشعر العربي.
المعالم التاريخية المحيطة بـمدينة القطن حضرموت
لا تقتصر أهمية مديرية القطن على مركزها الإداري، بل تضم العديد من المعالم التاريخية التي تُشكل جزءًا لا يتجزأ من هويتها.
1. العجلانية: قلعة تاريخية وقرية عريقة
تقع قرية العجلانية إلى الجنوب الغربي من مدينة سيئون (64 كيلو مترًا)، وإلى الغرب من مدينة القطن حضرموت (20 كيلو مترًا)، في وسط وادي حضرموت الرئيسي، وتحديدًا في منطقة “الكسر”. أُقيمت على مرتفع جبلي يُشرف على مسيال الفارحة، الذي يسير فيه سيل وادي العين في طريقه إلى الباطنة.
تُعد العجلانية قرية قديمة الذكر في التاريخ، وقد ذكرها الهمداني في القرن الثالث الهجري كإحدى قرى الكسر. ونظرًا للمعارك العنيفة التي شهدتها منطقة الكسر على مر العصور، شُيدت في العجلانية قلعة دفاعية في عهد السلطنة الكثيرية الأولى في القرن العاشر الهجري. يُعتقد أن القعيطيين هم من دمروا هذه القلعة بعد استيلائهم على القرية في القرن الماضي. تُحافظ مباني القرية التقليدية على الأسلوب المعماري السائد في وادي حضرموت، مما يضفي عليها طابعًا أصيلًا.
مواضيع ذات صلة: أسرار ومعلومات عن موسم البلدة بالمكلا
2. حورة: حصن حميري ومركز السلطان بدر بوطويرق
تُعد مدينة حورة معلمًا تاريخيًا بارزًا، تقع إلى الجنوب الغربي من مدينة القطن حضرموت (27 كيلو مترًا)، وإلى الجنوب الغربي من سيئون (72 كيلو مترًا). ورد ذكر حورة عند الهمداني في كتابه “الإكليل” بأنها من حصون حمير، مما يدل على أن تاريخ ظهورها يعود إلى فترة ما قبل الإسلام، واستمر فيها الاستيطان حتى اليوم.
شهدت حورة، كغيرها من مدن وقرى الكسر، العديد من الأحداث التاريخية والمعارك الحربية. وقد اتخذها السلطان الكثيري الشهير بدر بوطويرق (922-977 هـ) مركزًا سياسيًا وعسكريًا في القرن العاشر الهجري أثناء فترة إخضاعه لدوعن وضمها لأراضي سلطنته التي كانت تتخذ من سيئون حاضرة لها. أشهر ما خلفه السلطان بدر بوطويرق في حورة هو حصن ما زالت آثاره قائمة إلى اليوم، وإن لم يُعرف متى تم تهديمه. وفي القرن العاشر الهجري، أقام الشيخ عمر عبدالله باوزير سدًا في الوادي المجاور لحورة، لسقي أشجار النخيل الكثيفة المزروعة في أراضيها، مما يدل على العناية بالزراعة والتنمية في تلك الفترة.
3. قبر نبي الله صالح: معلم ديني وتاريخي
يقع قبر النبي صالح عليه السلام في شعب “عسنب” الذي يقع في وسط وادي سر، ويبعد عن سيئون نحو 63 كيلو مترًا في الجهة الشمالية الغربية منها. تُشير بعض الروايات التاريخية إلى أن النبي صالح، بعد أن أهلك الله قومه ثمود، جاء إلى أرض حضرموت، وعندما قدم إليها حضره الموت، فسميت “حضرموت” بهذا الاسم.
النبي صالح هو النبي الذي بعثه الله إلى قومه ثمود، والذين كانوا من قبيلة عاد. وبعد أن كذبوه ولم يؤمنوا به، أهلكهم الله. فما كان من النبي صالح إلا أن رحل مع مؤمني قومه، الذين آمنوا به، من الحجر إلى حضرموت، بجوار ديار عاد والبقية الباقية منهم. يُعتقد أن نفوسهم نزعت إلى مجاورة إخوانهم، توخيًا لجوار من تصلهم بهم أواصر القرابة النسبية وتجمعهم رابطة الدم. يُذكر أن الذين كانوا مع النبي صالح من المؤمنين بلغ عددهم أربعة آلاف، وعندما خرج بهم إلى حضرموت، بنى الأربعة آلاف مدينة يقال لها “حضورا” في حضرموت. ويذكر الإخباريون أن القبر الذي دُفن فيه النبي صالح في حضرموت يقع في تلة جبل، والبئر بسفحه.
يُعد قبر النبي صالح قبرًا مشهورًا ومعروفًا في حضرموت ويقصده الزوار. وهو عبارة عن بناء مستطيل طوله حوالي 30 قدمًا (كقبر النبي هود عليه السلام تقريبًا)، ويقع على سفح جبل في شعب عسنب. يحيط به حائط وخدود ومنازل مبنية من الحجر مطلية بالكلس، تبدو زاهية ومنيرة. يشعر الزائر حوله بالأنس والروحانية، وحوله بئر يستقي منها الزوار والسكان القريبون من هذا الموضع. هذا المعلم يُضفي على مدينة القطن حضرموت والمنطقة المحيطة بها بُعدًا دينيًا وتاريخيًا عميقًا.
4. قرية هينين: مركز المقاومة الكندية
تقع قرية هينين في واد يحمل اسمها (وادي هينين)، وهو وادٍ كبير يصب في وادي حضرموت الرئيسي من جهة الشمال. تبعد هذه القرية عن سيئون نحو 62 كيلومترًا في الجهة الشمالية الغربية منها، وتعتبر واحدة من أشهر قرى “الكسر”.
شهدت منطقة الكسر، ومنها قرية هينين، منذ العصور الغابرة معارك عسكرية ضارية. من أبرز هذه المعارك الحرب التي شنها الملك السبئي “شعرم أوتر ملك سبأ وذي ريدان” في نهاية القرن الثاني ومطلع القرن الثالث الميلادي. وقد جاء في النقش الموسوم بـ “Ir. 32” أن منطقة الكسر كانت تمثل المدخل الذي يتجه إليه الغزاة من الطريق الغربية للوصول إلى وادي حضرموت. وقد ذكر النقش السابق أن قائد جيش الملك “شعرم أوتر” قد دمر مدينة أطلق عليها النقش اسم (ص و أ ر ن). هذه المدينة قد اندثرت، ولكن الاسم (صوأرن) يُطلق اليوم على مسيال (سائلة ماء) تتفرع من مسيال وادي دوعن. وهناك أطلال قرية العادية، التي تقع إلى الجنوب من هينين، ويُعتقد أنها المدينة التي كان يُطلق عليها (صوأرن) في فترة ما قبل الإسلام، ثم انتقل الاسم ليُطلق على مسيال (صوأرن)، ويؤكد ذلك استمرار وجود الاسم منذ القرن الثالث الميلادي حتى اليوم.
كانت آخر معركة عسكرية ضخمة حدثت في منطقة الكسر في فترة توسع نفوذ الإمام المتوكل إسماعيل في وادي حضرموت سنة 1070 هجرية، حيث استخدم السلطان الكثيري في حينها قرية هينين كقاعدة له، مما يؤكد أهميتها العسكرية والاستراتيجية.
وقد ذكر الهمداني في “صفة جزيرة العرب” (ص 171) عن هينين: “والكسر قرى كثيرة منها قرية يقال لها هينن، فيها بطنان من تجيب، يقال لهم: بنو سهل وبنو بدا فيهم مئتا فارس، تخرج من درب واحد، ورأسهم اليوم محمد بن الحصين التجيبي”. هذا يوضح أن هينين كانت مركزًا للقوة الكندية، ووجود “مسجد القوم” (الصحابة) بجانب مقبرة تعد من أقدم المقابر بحضرموت، ودفن بها شهداء الصحابة، يُعزز مكانة هينين الدينية والتاريخية.
قرى كندة في وادي الكسر: شاهد على تاريخ عريق
تُشكل قرى كندة في وادي الكسر تاريخًا حافلًا بالبطولات، والشعر، والحروب، والمآثر، والوفود. سكنتها تجيب وعمرتها وجالت وصالت بها. وقد ذكر الهمداني: “بوادي الكسر قرية أخرى يقال لها حورة فيها بطنان يقال لهم بنو حارثة وبنو محرية من تجيب ورأسهم اليوم حارثة بن نعيم ومحمد ومحرية أبناء الأعجم وقرية يقال لها قشاقش وقرية يقال لها صوران وقرية يقال لها سدية الرأس فيها محمد بن يوسف التجيبي وقرية يقال لها العجلانية وقرية لها منوب”. هذه القرى، إلى جانب مدينة القطن حضرموت، تُشكل ملامح حضارية وتاريخية لوادي الكسر، وتُبرز الدور المحوري لقبيلة كندة في هذه المنطقة.
خاتمة
تُعد مدينة القطن حضرموت، بفضل موقعها الاستراتيجي، خصوبة أراضيها، وعمق تاريخها المرتبط بقبيلة كندة العريقة، مركزًا حضاريًا واقتصاديًا ودينيًا لا يُستهان به في وادي حضرموت. إن المعالم التاريخية التي تحتضنها، من العجلانية وحورة إلى قبر النبي صالح وهينين، تُقدم صورة متكاملة عن تاريخ المنطقة، وتُؤكد على أن هذه المدينة ليست مجرد تجمع سكاني، بل هي متحف حي يروي قصصًا عن حضارات غابرة، وبطولات، وإرث علمي متجذر. إن الحفاظ على هذا التراث الفريد، والعمل على إبرازه، يُسهم في إثراء الذاكرة الثقافية للمنطقة والوطن العربي بأكمله.