متى بدأ تدوين الحديث؟ وماهي مراحل تدوين الحديث الشريف

د. رصين الرصين
حتى لا يظل هذا (الوهم) والمعلومة (الخاطئة) يترددان: أن (حديث رسول الله) تم تدوينه في القرن الثاني، إليكم هذه المعلومات:
أولا: علينا أن تفرق بين مصطلحين 1- الكتابة 2- والتدوين، والفرق بينهما هو:
أن الكتابة: جهود فردية – أو جماعية – ولكن بعيدا عن (الدولة)
فهي إذن مشروع أنجره أفراد (أو جماعة) برغبة (شخصية ذاتية)
من كتاب علماء، وكتاب غير علماء
والتدوين مشروع سياسي استراتيجي؛ فهو إذن مشروع دولة، وقد أنجزته دولة – بقرار سياسي – اتخذه أمير المؤمنين وخليفة المسلمين.. وقامت على تنفيذه (لجنة) من كبار الحفاظ والعلماء
ثانيا: على ضوء هذا الكلام اعلموا:
1- أن القرآن والسنة انتهت كتابتهما – وليس تدوينهما – في حياة رسول الله
2- ثم بدأ تدوين القرآن عام (25 هـ) بقرار سياسي من أمير المؤمنين عثمان بن عفان
3- وبدأ تدوين السنة عام(100 هـ) بقرار سياسي من أمير المؤمنين عمر بن عبدالعزيز
ثالثا: في الفترة السابقة للتدوين، كان أصحاب رسول الله – كسائر عرب الجاهلية – أميين؛ ولذا كانوا يعتمدون على (الذاكرة الجماعية) التي بها حفظوا: 1- الشعر الجاهلي 2- والقرآن 3- وحديث رسول الله
وطبعا كان ثمة مثقفون يجيدون القراءة والكتاب، خاصة بين القرشيين المهاجرين، والأنصار الذين تعلموا الكتابة من يهود المدينة.. ولكن طبعا عدد هؤلاء كان محدودا.. ويأتي على رأسهم (كتاب الوحي) من (الشباب) الذين كانوا يكتبون لرسول الله القرآن وغير القرآن.. منهم – من المهاجرين – علي بن أبي طالب، ومن الأنصار أبي بن كعب
رابعا: القرآن توفر له عشرات من أصحاب رسول الله كانوا يحفظون كل (جديد) ينزل منه؛ وذلك لأن الحاجة لحفظه وتدوينه ظهرت سريعا، بمجرد وفاة عدد كبير من (القراء الحفاظ) في حروب الردة في خلافة أبي بكر، وفي الفتوح العمرية، التي كان يشارك فيها مجاهدين أولئك القراء الحفاظ..
أما حديث رسول الله فلم تظهر الحاجة لتدوينه، إلا متأخرا بعد انقراض جيل الصحابة، ووفاة آخر صحابي من أصحاب رسول الله -على رأس المئة الأولى للهجرة – وقد كان هذا في خلافة عمر بن عبدالعزيز
خامسا: طبعا الذاكرة (الجماعية) لأصحاب رسول الله حفظت لنا القرآن.. وبعد أن تم (تدوينه) صدرت النسخة النهائية الكاملة الموحدة منه وأحرقت سائر النسخ – التي اختلط فيها كلام الله بكلام رسول الله وبالتفسير وكان فيها قرآن منسوخ.. وصدرت عام (25 هـ) أول نسخة من المصحف العثماني وقد سميت (الإمام) ثم من (الإمام) نسخت عشرات النسخ، ووضع – في الجامع الكبير لكل مدينة تابعة لدولة عثمان – نسخة.. ومن تلك النسخة بدأ الكتاب ينسخون مئات النسخ..
إلا أن القرآن ظل يتناقل حفظه بالطريقة الشفوية بالسماع: من سلسلة الرجال والنساء – من الحفاظ – إلى أحد أصحاب رسول الله (الحفاظ) من لجنة تدوين المصحف: كأبي بن كعب وعلي بن أبي طالب وسعيد بن زيد وزيد بن ثابت..
خامسا: على ضوء ما سبق، نفهم أن الفترة الفاصلة بين بدء تدوين القرآن – ووفاته صلى الله عليه وسلم – لم تزد على خمس عشرة سنة، والفترة الفاصلة بين تدوين حديث رسول الله – ووفاته صلى الله عليه وسلم – لم تزد على (تسعين سنة) وخلال تلك السنين التسعين، كان أصحاب رسول الله يحفظون حديث رسول الله.. إلا أنه لم يوجد صحابي (واحد) يحفظ كل أحاديث رسول الله – كما هو شأن القرآن الذي كان يحفظه كاملا عشرات من أصحاب رسول الله – على رأسهم لجنة تدوين القرآن، وإصدار المصحف (الإمام)
لكن وجد رجال من أصحاب رسول الله، كانوا يكتبون حديث رسول الله في حياته منهم: عبدالله بن عمرو بن العاص.. وليس صحيحا أن رسول الله نهى عن كتابة حديثه: الأحاديث التي وردت حول هذا المعنى كلها (ضعيفة)
لكن كان من الطبيعي ألا يهتم أصحاب رسول الله بتدوين كلام رسول الله، إلا بعد عصر (التدوين) وهو العصر الأموي، الذي أصبحت فيه الكتابة (شائعة) وبدأ عدد الأميين يتناقص، وبدأ نسبة الأمية تنخفض..
فلما جاءت خلافة عمر بن عبدالعزيز، طلب منه العلماء ما طلب أصحاب رسول الله من (سلفه عثمان) أن يدون حديث رسول الله.. فأوكل هذه المهمة إلى رجل من كبار واشهر رواة حديث رسول الله – الذي اشتهر بتدريس حديث رسول الله – وهو التابعي محمد بن شهاب الزهري (124 هـ) وهو من مواليد مدينة رسول الله: قلعة العلم ومستقر أكثر أبناء أصحاب رسول الله.. والفقهاء (السبعة) وقد ولد في منتصف القرن الأول الهجري (50 هـ)
وطبعا هو في طبقة متأخرة من التابعين (صغار التابعين) ومن هنا تأتي قيمته وأهميته في حفظ حديث رسول الله؛ لأنه كان قد جمع وحفظ علوم جميع أصحاب رسول الله، التي ورثها مشايخه من كبار وأواسط التابعين..
أما هو فلم يدرك من أصحاب رسول الله سوى (صغارهم) الذين مات رسول الله وهم (أطفال) دون العاشرة، أو أكبر قليلا: كعبدالله بن الزبير وأنس بن مالك والحسن والحسين وعبدالله بن جعفر وقثم بن العباس
وقد أخذ الزهري العلم والفقه وروى حديث رسول الله عن مئات من التابعين من أبناء أصحاب رسول الله: كأبان بن عثمان بن عفان، وإبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، وعامر بن سعد بن أبي وقاص، والمحرر ابن أبي هريرة وعروة بن الزبير بن العوام.. وكذلك من أحفاد أصحاب رسول الله مثل: حمزة بن عبدالله بن عمر بن الخطاب، وعبدالله بن عبدالله بن عمر، وحفص بن عاصم بن عمر، وأحفاد علي بن أبي طالب: علي بن الحسين، والحسن بن محمد، وعبدالله بن محمد، وإسماعيل بن محمد بن أبي وقاص، ومحمد بن عروة بن الزبير، وخالد بن المهاجر بن خالد بن الوليد..
وأخذ عنه العلم والفقه وحديث رسول الله مئات من علماء السلف – على رأسهم: الإمام مالك بن أنس، وعمر بن عبدالعزيز نفسه وكذلك: الأوزاعي والليث بن سعد..
ومنذ العصر الأموي، كان كل من يشتغل برواية حديث رسول الله، يكتب ما يرويه بالسند المتصل إلى رسول الله.. ولا يقبل منه حديث إلا بشرطين:
1- أن يكون يحفظه غيبا 2- أن يكون قد كتبه (بالحرف)
وكان لكل فقيه وعالم وراوٍ – وحتى طالب علم – (كتاب) يكتب فيه حديث رسول الله؛ لكي لا ينساه.. لأن أحاديث رسول الله (متناثرة) وليست مجموعة بين دفتين كما هو شأن كتاب الله..
وظل الأمر هكذا إلى أن صدر القرار السياسي – من دولة أمير المؤمنين عمر بن عبدالعزيز – بتدوين حديث رسول الله..
وكما – في عهد أمير المؤمنين عثمان (25 هـ) – تشكلت لجنة من كبار الحفاظ برئاسة (أبي بن كعب) لتدوين القرآن وإصدار أول نسخة من (المصحف)
كذلك تماما – في عهد أمير المؤمنين عمر بن عبدالعزيز (100 هـ) – تشكلت لجنة من كبار العلماء ورواة حديث رسول الله برئاسة (محمد بن شهاب الزهري) لتدوين (السنة) وقد كان ابن شهاب الزهري، يحفظ أكثر من ألفي حديث..
وإذا عرفنا أن مجموع أحاديث رسول الله، لا يتجاوز (ستة آلاف حديث) فإننا سندرك مدى أهمية وعبقرية هذا الرجل (الحافظ) الذي كان يحفظ أكثر من (ثلث سنة رسول الله) المروية بالسند شفاها وسماعا.. والمتناثرة في مئات الصحف والكتب (الصغيرة) التي قد لا يتجاوز عدد الأحاديث فيها مئة حديث!
وإذا عرفنا أن عدد أحاديث الصحيحين (البخاري ومسلم) يتجاوز أربعة آلاف حديث.. عرفنا أهمية هذين السفرين الجليلين؛ لأنهما:
1- يجمعان أكثر من ثلثي أحاديث رسول الله
2- ونسبة الصحة والوثاقة فيهما تتجاوز 90%
والخلاصة: أن علماء السلف – من التابعين وأتباعهم – حفظوا سنة رسول الله.. ودونوها.. فلم يضع منها شيء تماما كما حفظ آباؤهم ومشايخهم – من أصحاب رسول الله – كتاب الله: القرآن الكريم ودونوه.. فلم يضع منه شيء!
لكن الفرق الجوهري هو: أنه يمكن أن يكون – في أحاديث رسول الله المروية – حوالي ألف حديث.. ما بين: ضعيف وباطل ومنكر وموضوع ؛ وذلك أنها ليست محفوظة بنسبة 100% كما هو شأن القرآن الكريم..
وهنا يأتي دور وجهد علماء الحديث من السلف – من بعد ابن شهاب الزهري – الذين وضعوا (قواعد دقيقة وصارمة) يعرفون ويميزون بها الحديث الصحيح، من غير الصحيح!





