الاخبار المحلية

قصة الشيخ صالح حنتوس لحظة الشهادة في مواجهة الطغيان

الشيخ صالح حنتوس شهيدا مجيدا ، أراد الشهادة فكانت تلك هي اللحظة الفاصلة، الفصل الأخير الذي لا يحمل سوى خيارين: الخلود أو الفناء.

في منزله الوادع، آثر شيخ سبعيني أنهكته الأمراض المزمنة أن يستكمل رسالته التي بدأها معلمًا للقرآن الكريم. لكن إرادة قوى الظلم كانت ترمي إلى إذلاله وإسكاته، وإجباره على تسليم نفسه لسجون الحوثيين سيئة السمعة؛ وهذا بحد ذاته كان حكمًا بالموت قهرًا ومرضًا وعجزًا. لذا، استعصى الشيخ على أن يخط له الآخرون نهاية مهينة، واختار لنفسه خاتمة تليق برجل شامخ وعنيد.

يقول أحد الناشطين الحقوقيين : أتذكر صديقًا لي من قريتي، معلم قرآن أيضًا، اقتيد من بيته بالطريقة ذاتها. أمضى ثماني سنوات في سجونهم، وبعد محاكمات وابتزاز وترهيب له ولأسرته، لم يتمكنوا من إثبات تهمة واحدة من قائمتهم الطويلة، فأُفرج عنه. لم يكن هذا حادثًا فرديًا، بل تكرر لعشرات، بل مئات المرات. بعضهم وجدوا فسحة من العمر عندما أُفرج عنهم ضمن عمليات تبادل الأسرى. أما الشيخ صالح حنتوس، فكانت كلماته الصامتة تقول: “عذرًا، لم يبقَ في العمر متسع”.

قرر أن يُكثف ما تبقّى من حياته في لحظة تاريخية خالدة، ألقاها لتلاميذه من على سطح بيته القديم، كدرس أخير وعملي عنوانه: “قاوم البغي ما استطعت أو مُت وأنت تحاول”.
أما “شيوخ العار” الذين مهدوا لهذه الجريمة وبرروها، فمصيرهم أن يظلوا مجرد سماسرة رخيصين وأحذية لكل من يتسلط. كلٌّ سيلقى جزاءه عاجلاً أم آجلاً.

معلم القرآن… الذي أقام الحجة علينا جميعًا

وقف شامخًا كالجبل الأشم، لم تلن له قناة، ولم تنحنِ له هامة. أقام الحجة على الجميع بثباته وصموده في وجه عصابة الإجرام الحوثية.
ملامح وجهه النقي الصافي كانت تحكي عن رجل لا يعرف الزيف، وبطل لا يعرف الهزيمة. لم يخرج يومًا حاملًا سيفًا أو بندقية، بل حمل راية القرآن، حافظًا ومعلمًا له طوال خمسة عقود. تخرجت على يديه أجيال من حفظة الذكر الحكيم، الذين عرفتهم جبال ريمة وسهولها. وهذا بالذات ما أقلق “المسيرة الشيطانية” الحوثية التي تدّعي انتسابها للقرآن زورًا؛ فمنذ قدومها وهي تحارب حفظته وتفجر دور تعليمه.

عندما داهمته عصابة الإجرام، ظنوا أنهم أمام رجل أعزل. لكنهم لم يدركوا أن في قلبه سورة “الأنفال”، وعلى جبينه سورة “التوبة”، وأنه لطالما كان يتلو قول الله تعالى: “أُذن للذين يُقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير”.

استُشهد واقفًا. لم يهرب، لم ينحنِ أو يتراجع، بل كان طودًا شامخًا، شاهدًا على زمن الخذلان، وعار الصمت، وذل التواطؤ. كان يدرك أن الموت قادم لا محالة، لكنه آثر أن يأتيه منتصب القامة، كالأشجار التي تموت واقفة.
وزوجته… تلك المرأة الحرة، لم تكن مجرد ظل لزوجها. كانت درعًا يحميه وجدارًا يسنده. قاتلت معه حتى ارتقى إلى الله شهيدًا، ليس بالسلاح وحده، بل بالعزيمة، بالكرامة، بصوتها الذي ضجّ في وجه المعتدين الظالمين: «لن تأخذوا كرامتنا، لن تمسّوا عرضنا». كانت تدرك أن التضحية لا تكون بالدم فحسب، بل بالصبر والثبات عند اشتداد المحنة.
الشيخ معلم القرآن، صالح حنتوس، لم يكن شهيدًا عاديًا، بل صار رمزًا. رمزًا لكرامة لا تُشترى، لإيمان لا يُساوم، لعقيدة لا تنكسر. رمزًا لثورة قادمة بإذن الله ستجتث قوى البغي والظلم الحوثية التي أوغلت في ظلم وقتل اليمنيين واستباحة دمائهم، بينما لا يزال بعض المغفلين داخل اليمن وخارجه يصدقون أن هذه الجماعة يمكن أن تنحاز لقضية عادلة أو تنتصر لمظلومية أحد.
رحم الله حامل راية القرآن في وجه عصابة الظلم والطغيان، الشيخ الشهيد صالح حنتوس، وجعل منزلته في الدرجات العُلا من الجنة مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا.

اللحظات الأخيرة: حصار وكرامة

استُشهد الشيخ صالح حنتوس قرابة الساعة السابعة مساءً وهو يقاوم على سطح منزله. منذ تلك اللحظة، حاولت زوجته ووالدتها سحب جثته، لكن القصف المكثف كان يحول دون ذلك. تمكنت زوجته، قبل دقائق قليلة، من التسلل والصعود إلى السطح وسحبت جثمان الشهيد. الآن، يُحاصر الحوثيون المنزل، وإلى جانبها عمتي ذات الـ 85 عامًا، وقد منعوا عنهما الماء بعد أن قصفوا خزانات المياه على السطح.
هذه ليست مجرد مناجاة شخصية. لقد استُشهد الشيخ بسبب موقفه العام. لقد جرت تصفيته لأنه أصر على تعليم القرآن واللغة العربية، ورفض المساومة على عقيدته وكرامته وبلده وعرضه. الشيخ هو في حقيقته كل واحد منا. واستشهاده يمثل بطولة تعبر عن الشعب كله، لا عن شخصه فحسب.
لماذا لم يتركوه وشأنه؟ سلطة القهر والتجاهل
قد يتساءل البعض: لماذا لم يتركوا شيخًا سبعينيًا، لا يمكن أن يصدر عنه ما يعكر صفو سلطتهم؟ والإجابة تكمن في طبيعة السلطة التي يسعون لإقامتها.
يعود ذلك لسببين رئيسيين:
أولًا: هذه السلطة تقوم على العنف والقهر، وتعتبرهما الشكل الطبيعي للحكم. إنها ترفع سقف عنفها إلى درجة غير معقولة، كأن تهاجم شيخًا عجوزًا في بيته بكتيبة مسلحة بأسلحة ثقيلة! والهدف من هذا التصعيد هو ألا يظن أحد أنها قد تُبدي أي تهاون، مما قد يُفسّر كضعف ويُغري على مناوئتها.
ثانيًا: هذه العصابة لا ترى اليمنيين. بالنسبة لها، هم مجرد “عدم”. وبالتالي، هي لا تُبالي بصورتها، ولا تسعى لتقديم نفسها بطريقة جيدة، كما تفعل أي سلطة تسعى لشرعية ما. هي في الأساس مهتمة بتكريس صورتها كسلطة قهر، سلطة لا يمكن مقاومتها، أو حتى التفكير بذلك.

دمعة اليمن: “عظم الله أجركم” في زمن الحوثي

لم تمر اليمن بمرحلة استُهلكت فيها كميات هائلة من عبارة “عظم الله أجركم” كما حدث في عهد مليشيا الحوثي الإرهابية. لقد أدخلوا المآتم والعزاء إلى كل بيت، وجلبوا كل محنة وشر. لم يراعوا حرمة بيت أو مسجد، أو كرامة عجوز طاعنة في السن، أو شيخ بلغ من الكبر عتيًا.

ولن يُجبر كسر اليمنيين ويُعزّيهم فيما لحقهم من ضرر، إلا عندما يهبوا، بعون الله، هبة رجل واحد لإسقاط هذه المليشيا ودفن مشاريع موتها. ولعل ما نراه اليوم من تخبطها وارتكابها أبشع الجرائم المروعة بحق المواطنين في مناطق سيطرتها، ما هو إلا دليل ومؤشر على ذعرها وخوفها من نهايتها التي باتت قريبة بإذن الله. “إنهم يرونه بعيدًا ونراه قريبًا”


مديرية السلفية – ريمة: أرض النضال والحرية

من هذه المديرية تشكّلت أول مقاومة منظمة ومسلحة في أواسط القرن الثالث عشر الهجري، بهدف إجلاء المستوطنين من الحملات العسكرية الزيدية، الذين أسسوا الحصون واستوطنوا أعالي القمم، وجلبوا الذراري، واستقطعوا الأراضي الزراعية.
كان للسلفية دور بارز في طليعة أحرار سبتمبر المجيد، وسجلت حضورًا فاعلًا في ملحمة حصار السبعين يومًا. كما استعصت على الدولة المركزية خلال حروب الجبهة الوطنية، وكانت ملاذًا آمنًا لقيادات اليسار من مختلف مناطق اليمن.
سماها الراحل علي عبد الله صالح – رحمه الله – “عدن الصغرى”، إذ فشلت فيها كل الحملات، وفرضت وجودها بالتفاوض من موقع قوة. وقد التحق أبناؤها بالقوات المسلحة ككتلة واحدة، ومنحوا رتبًا عسكرية تقديرًا لتاريخهم النضالي، وبأسهم في القتال، على خلاف بقية مديريات الشمال.
من المؤسف حقًا أن تُدفع هذه المديرية العزيزة اليوم على يد صبية مراهقين، فاقدين لشرف الخصومة، ليكونوا مطية لآلة الموت القذرة الزاحفة من الكهوف، فتعتدي على رجل مسن، معتد بنفسه وكرامته.
رحم الله الشيخ صالح حنتوس، فقد أضاف سفرًا خالدًا وسطورًا مشرقة إلى صفحات المجد التاريخي للسلفية: الأرض والإنسان والنضال.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock