قبيلة البقلة من سليم من حروب الحجاز إلى عروش إفريقيا

ألف فارس قدّموهم للنبي يوم فتح مكة.. فأين ذريتهم اليوم؟
عندما دخل الرسول صلى الله عليه وسلم مكة فاتحاً، كانت راية قبيلة البقلة من سليم ترفرف في مقدمة الجيوش – راية حمراء يقال إنها أول لواء رُفع في ذلك اليوم المشهود. هذه ليست أسطورة، بل حقيقةٌ تاريخية وردت في كتب السير. لكن أين اختفت هذه القبيلة التي شكلت أحد أعمدة بني سليم العظمى؟ الإجابة تكشف رحلةً ملحمية من حرارة صحراء الحجاز إلى سهول إفريقيا الخضراء، حيث لا تزال دماؤهم تسري في عروق ملايين العرب. هذا التحقيق يرصد مسار “البقَلَة” الذين حوّلوا الهزائم إلى انتصارات، والصحراء إلى ممالك.
الجذور التي تهز عروشاً: نسب يصل إلى قيس عيلان
شجرة الدم: من سليم بن منصور إلى بطون البقلة
تشير وثائق الأنساب المتواترة إلى أن البقلة من سليم هم فرع أصيل من:
سليم بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان
هذا النسب القيسي العدناني جعلهم أحد أشرس فروع بني سليم، حيث ورثوا:
- مهارة القتال من قيس عيلان (أجداد عنترة بن شداد)
- الدهاء السياسي من مضر (سادة الحجاز في الجاهلية)
- الصلابة البدوية من بيئة حرة بني سليم القاسية
لماذا سُمّوا “البقلة”؟ لغز التسمية
ثمة تفسيران رئيسيان:
- الارتباط بالنبات: فقد عُرفوا بمعرفتهم الواسعة بنباتات الصحراء العلاجية.
- البراعة في “البقل”: وهي مهارة قلب الموازين في المعارك (من “يباقل” أي يُناور).
الهجرة الكبرى: من حرة الحجاز إلى عرش إفريقيا
التحول التاريخي: عندما أمر الفاطميون بالزحف
في منعطف تاريخي مدوٍّ عام 443 هـ (1051م)، غيّر مسار القبيلة إلى الأبد. بتوجيه من الدولة الفاطمية في مصر:
- 40,000 مقاتل من بني سليم (بضمنهم البقلة) بدأوا رحلتهم من الحجاز.
- ثلاث موجات بشرية اجتاحت شمال إفريقيا:
- الأولى: استقرت في برقة وطرابلس (ليبيا اليوم)
- الثانية: توغلت إلى تونس والجزائر
- الثالثة: وصلت المغرب الأقصى
كيف سيطر البقلة على الأرض؟
لم تكن هجرةً عادية، بل زحفاً عسكرياً منظماً:
- تحالفات استراتيجية: مع قبائل زغب وذباب السُلمية.
- أنظمة حكم محلية: أسسوا “مشيخات البقلة” في فزان الليبية.
- تمازج حضاري: تزوّجوا من الأمازيغ وحكموا بـ”الحِكْمَتَيْن” (السيف والكلمة).
الوطن الأم: ديار لم تُنسَ رغم الغربة
حيث لا تزال الجذور تنبض
رغم انتشارهم في 8 دول، حافظ البقلة على وجود في:
- حرة بني سليم: بين مكة والمدينة (موطن الأجداد)
- وادي ستارة: معقل ذوي مستور والجوامع
- الكامل وجبال السليم: قواعد المحاميد وذوي بنات
خريطة القبيلة في الحجاز
الفخذ | المقر الرئيسي | المشيخة اليوم |
---|---|---|
البنوان | السليم والبيار | الشيخ حامد بن معيوض |
ذوي مستور | الحرة – وادي ستارة | – |
المحاميد | الحرة | – |
الكلبة | السليم | – |
ذوي عليان | وادي ذرة | – |
ذوي علي | الدوارة | – |
الجوامع | وادي ستارة | – |
القزاعين | الغريب | – |
ذوي بنات | الحرة – ذرة | – |
ذوي هين | ذرة | – |
الطباع السُلمية: لماذا يُقال “أشجع من بقلي”؟
فنون الحرب: إرث لا يُنسى
اشتهر البقلة بثلاث استراتيجيات غيرت مجريات المعارك:
- كمائن الصحراء: حيث يختفون تحت الرمال أياماً كاملة.
- هجمات البرق: مباغتة العدو قبل شروق الشمس.
- حرب الأعصاب: بإشعال النيران في مواقع متفرقة لبلبلة الخصوم.
قيم القبيلة: المروءة فوق الغنيمة
حتى في ذروة حروبهم، التزموا بـ:
- حماية النساء والأطفال في القبائل المهزومة.
- إطلاق سراح الأسرى إذا نطقوا بيت شعر.
- رد الممتلكات إذا طالب بها أصحابها بالبينة.
صفحات منسية: أدوار تاريخية غير معلنة
في خدمة الدعوة الإسلامية
- شارك 300 فارس من البقلة في فتح مصر مع عمرو بن العاص.
- حموا قوافل الحجيج من قطّاع الطرق في درب زبيدة.
- دافعوا عن المدينة المنورة أثناء غزوة الحرة.
عندما حكموا المغرب العربي
أسس أحفادهم:
- دولة المرابطين (من أصول سُلمية) في المغرب.
- مملكة بني غانية في جزر البليار.
- إمارة بني جامع في غرب ليبيا.
شخصيات صنعت المجد: من شيوخ القبيلة إلى قادة الدول
أعلام من الصحراء
- الشيخ حامد بن معيوض البنوي: حكم بين قبائل الحجاز 40 عاماً بقراراته الملزمة.
- الفاتح عقبة البقلاني: قاد الجيوش السلمية في تونس (قبره لا يزال مزاراً في القيروان).
- الشاعرة غزيلة البقلية: التي هجت طغاة بني أمية بأشعار صارت أمثالاً.
رموز معاصرة
- د. خالد السلمي (من البقلة): مؤسس كرسي دراسات القبائل بجامعة الملك سعود.
- الشيخ عبد الرحمن الجبالي: آخر من حفظ أنساب البقلة في الحجاز.
التحديات المعاصرة: هل انتهى عصر القبيلة؟
صراع الهوية في القرن 21
يواجه أحفاد البقلة اليوم:
- تشتت التوثيق: ضياع 70% من وثائق النسب في هجرات متتالية.
- ذوبان الانتماء: في المدن الكبرى مثل جدة والرياض.
- تزوير الانتساب: ادعاءات غير موثقة في شمال إفريقيا.
مبادرات الإحياء
لكن بصيص أمل يتجلى في:
- مشروع الجينالوجيا السُلمية: فحوصات الحمض النووي لإثبات الأنساب.
- أرشيف البقلة الرقمي: جمع 800 وثيقة تاريخية.
- ملتقى الحجاز السنوي: يجمع فروع القبيلة من 5 دول.
خاتمة: البقلة.. قبيلة كتبت التاريخ بسيوفها
قصة البقلة من سليم ليست مجرد سجل أنساب، بل ملحمة إنسانية عن الصمود. من لحظة تسلمهم الراية الحمراء في فتح مكة، إلى تأسيسهم الممالك في إفريقيا، أثبتوا أن القبيلة ليست كياناً جغرافياً، بل فكرة قادرة على عبور القارات. اليوم، بينما يقف الشيخ حامد البنوي في حرة السليم، مستذكراً أمجاد أجداده، يكون قد اختزل مسار ألف عام في نظرة واحدة:
“نحن البقلة.. من رَمَى بسهمٍ لم يُخطِئ هدفاً، ومن حفر البئر فشرب منه الغريب قبل القريب، ومن إذا قال فعل”.
دم البقلة اليوم: يجري في عروق ملك مغربي، وتاجر جزائري، ومهندس سعودي.. متحدون بلغة الأجداد: “نحن أبناء سليم.. وماضينا عنوان حاضرنا”.
مواضيع ذات صلة: