القبائل العربية

قبائل مذحج في البيضاء: دراسة في الأنساب والتوزع التاريخي لبطون علة بن جلد


تُعد قبيلة مذحج من القبائل العربية العريقة التي تركت بصمات واضحة في تاريخ اليمن وسائر أرجاء الجزيرة العربية. تمتد جذور هذه القبيلة إلى عهد مملكة سبأ، وتفرعت منها بطون وأفخاذ عديدة أسهمت في تشكيل الخارطة القبلية للمنطقة. وفي هذا السياق، يكتسب تتبع أنساب وتوزع بطون مذحج أهمية خاصة لفهم التركيبة الاجتماعية والتاريخية للمناطق التي استوطنتها، ومن بينها محافظة البيضاء.
يتناول هذا المقال بشكل خاص بطون (عله) بن جلد بن مذحج، وهي إحدى الفروع الرئيسية التي تفرعت من هذه القبيلة الأم. سنسلط الضوء على هذه البطون، ونستعرض فروعها، ونتتبع انتشارها الجغرافي في محافظة البيضاء والمناطق المجاورة، مستندين إلى المصادر التاريخية والأنسابية الموثوقة، وعلى رأسها كتابات العلامة الهمداني.
بطون علة بن جلد بن مذحج: تفرعات النسب وأصول القبائل:
تُقسم بطون علة بن جلد بن مذحج إلى فرعين رئيسيين، تفرعت منهما لاحقًا قبائل وأفخاذ عديدة:
1- حرب بن عله بن جلد:
يُعتبر حرب بن عله أحد الأبناء البارزين لجلد بن مذحج، وقد تفرعت من نسله أربعة بطون رئيسية، لكل منها ثقلها وتأثيرها في تاريخ المنطقة:

  • بنو رهاء بن حرب بن عله بن جلد: يُعد بنو رهاء من البطون الهامة التي انتشرت في مناطق مختلفة من اليمن. وقد برز من هذه القبيلة شخصيات تاريخية مرموقة، كما سنفصل لاحقًا.
  • بنو صداء بن حرب بن عله بن جلد: يُشكل بنو صداء فرعًا آخر من حرب بن عله، ولهم انتشارهم ومساكنهم الخاصة.
  • بنو جنب بن حرب بن عله بن مذحج: يُعتبر بنو جنب من البطون الكبيرة والمشهورة من مذحج، ولهم تاريخ حافل بالإنجازات والأحداث.
  • بنو يزيد بن حرب بن عله بن جلد: يمثل بنو يزيد فرعًا رابعًا من حرب بن عله، ولهم امتدادهم وتواجدهم في مناطقهم.
    2- عمرو بن عله بن جلد:
    يُعد عمرو بن عله الفرع الثاني الرئيسي من بطون علة بن جلد، وقد تفرعت من نسله ثلاثة بطون ذات أهمية تاريخية:
  • بنو النخع بن عمرو بن عله بن جلد: يُعتبر بنو النخع من البطون الكبيرة والمشهورة من مذحج، وقد لعبوا أدوارًا هامة في تاريخ اليمن.
  • بنو مسلية بن عامر بن عمرو بن عله بن جلد: يُشكل بنو مسلية فرعًا آخر من عمرو بن عله، ولهم انتشارهم ومساكنهم في مناطقهم.
  • بنو الحارث بن كعب بن عمرو بن عله بن جلد: يُعد بنو الحارث بن كعب من البطون القوية والمؤثرة في تاريخ مذحج واليمن بشكل عام.
    بنو رهاء بن منبه بن حرب بن عله بن جلد: شخصيات بارزة وإشارات تاريخية:
    يُعد بنو رهاء بن منبه بن حرب بن عله بن جلد بن مالك فرعًا هامًا ضمن حرب بن عله. وقد أنجب هذا الفرع شخصيات تركت بصمات في التاريخ الإسلامي المبكر. يذكر أن عمرو بن سبيع الرهاوي وفد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو من بني سليم بن رهاء بن منبه، مما يدل على حضور هذه القبيلة في صدر الإسلام. كما يشار إلى مالك بن مرارة الذي بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، وهو أيضًا من بني سليم. ومن الشخصيات البارزة الأخرى يزيد بن شجرة الرهاوي الذي كان من أصحاب معاوية في معركة صفين، وهو من بني سهيم بن عبد الله بن رهاء بن منبه. هذه الإشارات التاريخية تؤكد على أهمية ودور بني رهاء في تلك الحقبة الزمنية.
    وصف الهمداني لسرو مذحج وتحديد مواقع بني رهاء:
    يقدم العلامة الهمداني في كتابه “صفة جزيرة العرب” وصفًا تفصيليًا لسرو مذحج، وهي المنطقة التي استوطنتها العديد من بطون مذحج، بما في ذلك بنو رهاء. يشير الهمداني إلى أن أول سرو مذحج هي مناطق الرَّباحة والسَّلف وحمر وتناعم التي كانت مساكن لرهاء. كما يذكر وادي نعوة الذي كان لبني منبه، وهم إخوة بني كتيف وبني قيس من بني أود، ويشير إلى وجود مواضع أخرى لرهاء في هذا الوادي.
    ويضيف الهمداني أن بهرور كانت مسكنًا لبني رهاء من علة بن جلد بن مذحج، وأن دعوتهم كانت في بني ربيعة. وعند وصف الميمنة، يشير إلى طريق السَّرو والرَّباحة وجبل يتفرع منه أودية تسكنها رهاء وبنو أرض من بني مسلية، ويذكر أن حمر كانت مسكنًا لرهاء ولمسلية، وأن ذو الذُّويب وادٍ كبير ليافع وبني مسلية، وذو القلع ليافع وبني مسلية، وأن أسيل وقصص كانت مساكن لرهاء.
    من خلال هذه الأوصاف الدقيقة، يمكننا أن نستنتج أن بني رهاء كانوا منتشرين في مناطق واسعة من سرو مذحج، وتشمل هذه المناطق ما يعرف اليوم بمحيط محافظة البيضاء والمناطق المجاورة لها.
    انتشار قبيلة مذحج في البيضاء والمناطق المجاورة:
    تنتشر بطون مذحج بشكل عام في عدة محافظات يمنية، بما في ذلك أبين والبيضاء ولحج (يافع). وفيما يتعلق بمحافظة البيضاء، تشير المصادر إلى وجود عدة قبائل وفروع تنتمي إلى بطون علة بن جلد بن مذحج، ومن أبرزها:
  • آل المهل في البيضاء: يُعتبر آل المهل من القبائل الهامة في محافظة البيضاء، وينتسبون إلى بطون مذحج.
  • آل مطبق في البيضاء: يُشكل آل مطبق فرعًا آخر من فروع مذحج المستقرة في البيضاء.
  • آل بو بوبك في البيضاء: تُعد قبيلة آل بو بوبك من القبائل المعروفة في البيضاء والتي تنتمي إلى مذحج.
  • آل مرزق في البيضاء: يمثل آل مرزق تواجدًا آخر لبطون مذحج في محافظة البيضاء.
  • الرهاوي في أبين: كما تشير المصادر، فإن جزءًا من بني رهاء استقر في محافظة أبين.
  • الرهويين في يافع (لحج): يُعرف أيضًا تواجد للرهويين في منطقة يافع التابعة لمحافظة لحج.
  • آل عمر في البيضاء: يُعتبر آل عمر من القبائل الموجودة في البيضاء والتي لها صلة بنسب مذحج.
    وفد الرهاويين على رسول الله صلى الله عليه وسلم: دلالات تاريخية وأثر في صدر الإسلام:
    تُعد قصة وفد الرهاويين على رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثًا هامًا يُبرز مكانة هذه القبيلة في صدر الإسلام. تذكر الروايات التاريخية، ومنها ما أورده ابن سعد في كتابه، أن خمسة عشر رجلًا من الرهاويين، وهم حي من مذحج، قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في السنة العاشرة للهجرة. نزل الوفد في دار رملة بنت الحارث، وأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحدث معهم طويلًا.
    أهدى الرهاويون لرسول الله صلى الله عليه وسلم هدايا، منها فرس سمي المرواح، فأعجب النبي صلى الله عليه وسلم به. أسلم الوفد وتعلموا القرآن والفرائض، وأجازهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما كان يجيز الوفود، فأكرم أرفعهم وأخفضهم. ثم عادوا إلى بلادهم، وقدم منهم نفر آخر فحجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة وأقاموا حتى توفي صلى الله عليه وسلم. وقد أوصى لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بحاد مائة وسق بخيبر في الكتيبة جارية عليهم، وكتب لهم كتابًا، وباعوا ذلك في زمن معاوية.
    تدل هذه القصة على قوة العلاقة التي نشأت بين قبيلة الرهاويين والرسول صلى الله عليه وسلم، وعلى حرصهم على تعلم أمور دينهم والالتزام بتعاليمه. كما تعكس الكرم والجود الذي أظهره أفراد القبيلة تجاه الرسول صلى الله عليه وسلم.
    تحليل إضافي لأوصاف الهمداني وتحديد المواقع المعاصرة:
    بالعودة إلى أوصاف الهمداني، يمكننا محاولة تحديد بعض المواقع التي ذكرها في سياق سرو مذحج وبني رهاء بمواقعها المعاصرة في محافظة البيضاء والمناطق المحيطة بها. يشير النص إلى أن “حمر” هي نفسها “حمره” ووادي “قصص” الذي يسمى “قصاص” اليوم، ويفهم من ذلك أن سرو مذحج يبدأ من ذي ناعم، وأن آل عمر من رهاء وحمره. ويذكر الهمداني أيضًا أن حمر كانت محاذية ليافع الحد، ويقول في موضع آخر إن حمر وتناعم كانتا مسكنًا لرهاء. ويُستنتج أن “حمر” هي “حمره” و”تناعم” هي “ذي ناعم” التي يسكنها آل عمر اليوم.
    كما يذكر الهمداني وادي دبان الذي لم يتغير اسمه إلى اليوم ويسكنه قبيلة دبان التي تنسب إلى الوادي، ويشير إلى أنهم خليط من بنو رها وبنوارض (بنير) وغيرهم. ويذكر أيضًا وادي نعوه الذي يحاذي الحميقان اليوم. ويؤكد النص أن كل ما ذكره الهمداني يقع حول مدينة البيضاء حاليًا من جهة الغرب والجنوب وجنوب شرق حسب المعرفة المحلية.
    هذه التحليلات والتحديدات للمواقع الجغرافية التي ذكرها الهمداني تسلط الضوء على الاستمرارية التاريخية لتواجد بطون مذحج، وخاصة بني رهاء، في منطقة البيضاء والمناطق المحيطة بها عبر القرون.
    الخلاصة:
    تُعد بطون علة بن جلد بن مذحج فروعًا أصيلة من قبيلة مذحج العريقة، وقد استوطنت مناطق واسعة في اليمن، بما في ذلك محافظة البيضاء والمناطق المجاورة لها. من خلال تتبع أنساب هذه البطون والإشارات التاريخية التي وردت في المصادر القديمة، وعلى رأسها كتابات الهمداني، يمكننا أن ندرك عمق الروابط التاريخية والاجتماعية التي تربط هذه القبائل بمنطقة البيضاء. إن دراسة هذه الأنساب والتوزعات الجغرافية تساهم في فهم أعمق للتركيبة القبلية والتاريخية لمحافظة البيضاء ودور قبيلة مذحج في تشكيل ملامح هذه المنطقة عبر العصور.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock