غدير خم تحليل شامل لمفهوم تاريخي وديني مثير للجدل

يشكل يوم غدير خم، أو ما يُعرف بيوم الولاية وعيد الغدير، في الثامن عشر من شهر ذي الحجة، نقطة محورية في النقاشات الدينية والتاريخية، لا سيما بين السنة والشيعة. هذا اليوم، الذي يتخذه الشيعة مناسبة للاحتفال، يثير العديد من التساؤلات حول أصوله، دلالاته، والاحتفالات المرتبطة به. في هذا المقال، سنقوم بتحليل معمق لـ غدير خم، مستعرضين آراء مختلفة، ودحض بعض المزاعم، مع التركيز على الجوانب التاريخية والدينية التي تحيط بهذا الحدث.
غدير خم المصطلح والموقع
لفهم جوهر النقاش حول غدير خم، لا بد من البدء بتعريف المصطلح ذاته وموقعه الجغرافي.
ما هو الغدير لغةً؟
في اللغة العربية، تشير مادة (غ د ر) إلى معنى “ترك الشيء”. ووفقًا لبعض التفسيرات، فإن المحتفلين بيوم الغدير يُقال إنهم “تركوا الدين والأخلاق والعهود والمواثيق والآداب والأعراف والعادات الحميدة”. أما مصطلح “الغدير” فيعني “مياه راكدة، قليلة العمق”. هذا التفسير اللغوي قد يُستخدم لدعم رؤى معينة حول دلالة هذا اليوم.
موقع غدير خم الجغرافي
يُنسب يوم الغدير إلى المكان الذي وقعت فيه الخطبة المزعومة، وهو موقع يُعرف بـ غدير خم. هذا الموقع يقع بالقرب من الجحفة، وهي منطقة تاريخية معروفة تقع بين مكة والمدينة المنورة. هذا القرب من الحرمين الشريفين يضفي على الموقع أهمية استراتيجية وتاريخية.
غدير خم بين السنة والشيعة: تباين الرؤى
تختلف النظرة إلى غدير خم بشكل جذري بين أهل السنة والجماعة والشيعة. هذه الاختلافات ليست مجرد تفاصيل بسيطة، بل هي محورية في تحديد العقائد والممارسات.
غدير خم عند الشيعة يوم الولاية والاحتفال
يتخذ الشيعة يوم غدير خم عيدًا لهم، ويسمونه “عيد الولاية”. يعتقدون أن النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- قد أوصى بالخلافة والإمامة لعلي بن أبي طالب في هذا اليوم، وأن هذا التعيين كان بمثابة إكمال للدين وإتمام للنعمة. وبالتالي، يُعد هذا اليوم مناسبة عظيمة للاحتفال وإحياء ذكرى هذه “الولاية”.
غدير خم عند السنة البدعة والدحض
على النقيض، يرى أهل السنة والجماعة أن الاحتفال بيوم الغدير كعيد أو الإيمان بالوصية لعلي بن أبي طالب بالخلافة أمر لا أساس له في الشريعة الإسلامية. ويُعتبرون أن العديد من الممارسات المرتبطة بهذا اليوم من قبيل البدع والخرافات.
من بين هذه المزاعم التي يرى السنة أنها خرافات:
- صيام يوم الغدير يكفر ذنوب ستين سنة: يعتبر هذا الزعم مبالغة لا دليل عليها في الشريعة.
- صلاة ركعتين في هذا اليوم طمعًا في ثواب 100 ألف حجة: يرى السنة أن هذا من التحديدات التي لا أصل لها في السنة النبوية المطهرة.
- دعاء “الندبة” وادعاء أن قائله هو الإمام الثاني عشر: يُعد هذا الدعاء من الأدعية التي لا يُعرف لها سند صحيح في كتب السنة.
- الغسل والصلاة قبل الزوال وقراءة سور محددة لتحقيق ثواب عظيم: تُعد هذه الطقوس من البدع التي لم يفعلها النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا الصحابة الكرام.
باختصار، يرى أهل السنة أن جميع هذه الطقوس والممارسات التي يتبعها البعض في يوم الغدير هي من البدع والمحدثات التي لا تمت للإسلام بصلة، بل هي من “الكذب على الإسلام” و”الغدر بالإسلام وأهله”.
حكم عيد الغدير في الإسلام
وفقًا للرؤية السنية، فإن حكم الاحتفال بـ غدير خم كعيد هو حكم واضح:
- لا توجد وصية بالخلافة لعلي في هذا اليوم: ينكر أهل السنة صحة الروايات التي تزعم وصية النبي -صلى الله عليه وسلم- لعلي بالخلافة في غدير خم.
- لا يوجد عيد بهذا الاسم في الإسلام: يؤكد أهل السنة على أن الأعياد الشرعية في الإسلام محددة بيوم الفطر ويوم الأضحى، وأي عيد آخر يُستحدث باسم الدين هو بدعة.
- يوم الغدير بدعة ضلالة: يُنظر إلى هذا اليوم على أنه وسيلة لنشر الفتنة بين المسلمين وأكل أموال الناس بالباطل، وأن جعله عيدًا يعد “تشريعًا مع الله تعالى”.
مواضيغ ذات صلة: لماذا سميت ايام التشريق بهذا الاسم
لماذا الاحتفال بعيد الغدير؟ أسئلة حول الأصول
يثير الاحتفال بعيد الغدير تساؤلات حول أصوله التاريخية وهل كان النبي -صلى الله عليه وسلم- أو علي -رضي الله عنه- يحتفلان به.
يزعم الحوثيون أن يوم 18 من ذي الحجة هو يوم عيد غدير خم، ويخصصونه بعبادات واحتفالات، ويستحلون به أموال الناس ظلمًا. هنا، يطرح السؤال: هل احتفل النبي -صلى الله عليه وسلم- بهذا اليوم، وكذلك علي -رضي الله عنه-، أم لا؟
- إن قالوا: نعم: الرد عليهم هو أن هذا كذب، فلا يوجد دليل صحيح أو ضعيف، ولا أثر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أو عن علي بن أبي طالب يؤكد احتفالهم بهذا اليوم. ولو فعلوه، لنقل لنا كما نقل لنا يوم غدير خم نفسه، وما فيه من خطبة.
- إن قالوا: لا: وهذا هو الأصح تاريخيًا، فإن أول من احتفل به هم “سلاطين بني بويه في منتصف القرن الرابع الهجري”.
لذلك، يطرح السؤال المنطقي: ألا يسعكم ما وسع النبي -صلى الله عليه وسلم- وعلي بن أبي طالب من عدم الاحتفال به؟
ماذا قال الرسول في غدير خم؟
تتجه الأنظار إلى ما قاله الرسول -صلى الله عليه وسلم- في غدير خم، والحديث المعروف في هذا السياق.
يؤكد أهل السنة أنه لا يوجد دليل في الكتاب أو السنة يدل على ولاية علي -رضي الله عنه- نصًا أو تلميحًا، أو أنه أحق بالخلافة بعد موت النبي -صلى الله عليه وسلم-. وغاية ما في الأحاديث ذكر فضائل لعلي بن أبي طالب، وهو أمر لا ينكره أهل السنة والجماعة، مثله مثل كثير من الصحابة الذين ذُكرت لهم فضائل وبُشر عدد منهم بالجنة.
حديث زيد بن أرقم في صحيح مسلم:
عن زيد بن أرقم قال: قام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يومًا فينا خطيبًا، بماء يُدعى “خمًا” بين مكة والمدينة. فحمد الله وأثنى عليه، ووعظ وذكَّر. ثم قال: “أما بعد، ألا أيها الناس! فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب. وأنا تارك فيكم ثقلين: أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله، واستمسكوا به” فحث على كتاب الله ورغّب فيه. ثم قال: “وأهل بيتي. أذكركم الله في أهل بيتي. أذكركم الله في أهل بيتي. أذكركم الله في أهل بيتي”. فقال له حصين: ومن أهل بيته؟ يا زيد! أليس نساؤه من أهل بيته؟ قال: نساؤه من أهل بيته، ولكن أهل بيته من حُرِم الصدقة بعده. قال: وهم؟ قال: هم آل علي، وآل عقيل، وآل جعفر، وآل عباس. قال: كل هؤلاء حُرم الصدقة؟ قال: نعم. (رواه مسلم 2048)
هذا الحديث يُعد دليلاً على وصية النبي -صلى الله عليه وسلم- بالتمسك بكتاب الله وأهل بيته، ولكن لا يوجد فيه أي نص صريح على وصية بالخلافة لعلي.
حديث الغدير في كتب السنة: تحقيق في الصحة والدلالة
يتناول هذا القسم الزيادات التي وردت على حديث غدير خم في كتب السنة، ومدى صحتها ودلالتها.
الزيادات على الحديث خارج صحيح مسلم:
- جاء عند الترمذي (3713) وأحمد (961) والنسائي في الخصائص (93) والحاكم (6435) بزيادة “من كنت مولاه فعلي مولاه”.
- وجاء عند أحمد (961) والنسائي في الخصائص (93) بزيادة “اللهم وال من والاه وعاد من عاداه”.
مدى صحة هذه الزيادات سندا: - قال الزيلعي: “وكم من حديث كثرت رواته وتعددت طرقه وهو حديث ضعيف كحديث ‘من كنت مولاه فعلي مولاه'”. (تخريج الهداية 1/189)
- قال شيخ الإسلام ابن تيمية: “وأما قوله ‘من كنت مولاه فعلي مولاه’ فليس هو في الصحاح لكن هو مما رواه العلماء وتنازع الناس في صحته. فنقل عن البخاري وإبراهيم الحربي وطائفة من أهل العلم بالحديث أنهم طعنوا فيه… وأما الزيادة وهي قوله اللهم وال من والاه وعاد من عاداه الخ فلا ريب أنه كذب”. (منهاج السنة 7/319)
- وقال الذهبي: “وأما حديث: ‘من كنت مولاه’ فله طرق جيدة”.
- وصححه الألباني: في السلسلة الصحيحة 1750.
يلاحظ هنا التباين في الحكم على صحة هذه الزيادات، فبينما يرى بعض العلماء ضعفها أو وضعها، يصححها آخرون. هذا التباين يوضح مدى تعقيد القضايا الحديثية واختلاف منهجيات التصحيح.
دلالة هذه الزيادات من حيث المعنى – إن صحت:
حتى لو سلمنا بصحة هذه الزيادات، فإن أهل السنة يرون أنها لا تدل على الولاية بمعنى الإمامة أو الخلافة، بل تحمل معاني أخرى: - قال المبارك فوري: “قيل معناه: من كنت أتولاه فعلي يتولاه من الولي ضد العدو. أي من كنت أحبه فعلي يحبه. وقيل معناه: من يتولاني فعلي يتولاه ذكره القاريء عن بعض علمائه.”
- وقال الجزري في النهاية: “قد تكرر ذكر المولى في الحديث وهو اسم يقع على جماعة كثيرة فهو (الرب والمالك والسيد والمنعم والمعتق والناصر والمحب والتابع والجار وبن العم والحليف والعقيد والصهر والعبد والمعتق والمنعم عليه) وأكثرها قد جاء في الحديث فيضاف كل واحد إلى ما يقتضيه الحديث الوارد فيه وكل من ولي أمرًا أو قام به فهو مولاه ووليه وقد تختلف مصادر هذه الأسماء فالوَلاية بالفتح في النسب والنصرة والمعتق) والوِلاية بالكسر في الإمارة، والولاء في المعتق، والموالاة من والى القوم ومنه الحديث ‘من كنت مولاه فعلي مولاه’ يحمل على أكثر الأسماء المذكورة.”
- قال الشافعي -رحمه الله : “يعني بذلك ولاء الإسلام كقوله تعالى (ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم) وقول عمر لعلي (أصبحت مولى كل مؤمن) أي ولي كل مؤمن. وقيل سبب ذلك أن أسامة قال لعلي لست مولاي إنما مولاي رسول الله فقال من كنت مولاه فعلي مولاه انتهى.”
- قال الطيبي: “لا يستقيم أن تحمل الولاية على الإمامة التي هي التصرف في أمور المؤمنين لأن المتصرف المستقل في حياته هو هو لا غيره فيجب أن يحمل على المحبة وولاء الإسلام ونحوهما انتهى كذا في المرقاة”. (تحفة الأحوذي شرح الترمذي حديث 3713 بتصرف)
هذه التفسيرات تُظهر أن معنى “المولى” في الحديث يمكن أن يحمل دلالات متعددة لا تقتصر على الإمامة والخلافة، وهو ما يدعم وجهة نظر أهل السنة.
مواضيع قد تهمك : أسرار الحج ومقاصده
ما هي حقيقة قصة غدير خم؟ أسباب الحديث النبوي
يرى أهل السنة أن حديث غدير خم كان له أسباب وظروف معينة دفعت النبي -صلى الله عليه وسلم- لقوله، ولم يكن الهدف منه تعيين علي خليفة.
السببان الرئيسيان لحديث غدير خم
- وطء علي بن أبي طالب للجارية، مما سبب نفورًا في نفوس البعض:
عند البخاري (4093) عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه -رضي الله عنه- قال: “بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- عليًا إلى خالد ليقبض الخمس، وكنت أبغض عليًا، وقد اغتسل، فقلت لخالد: ألا ترى إلى هذا، فلما قدمنا على النبي -صلى الله عليه وسلم- ذكرت ذلك له، فقال: (يا بريدة أتبغض عليًا). فقلت: نعم، قال: (لا تبغضه له في الخمس أكثر من ذلك)”. هذا يوضح أن هناك بعض النفور من علي بسبب هذا الفعل. تصرفات علي بن أبي طالب في قسمة الغنائم في اليمن قال ابن كثير -رحمه الله تعالى-: “عن يزيد بن طلحة بن يزيد بن ركانة قال: إنما وجد جيش علي بن طالب الذين كانوا معه باليمن، لأنهم حين أقبلوا خلف عليهم رجلاً وتعجل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. قال: فعمد الرجل فكسا كل رجل حُلة، فلما دنوا خرج عليهم علي يستقبلهم، فإذا عليهم الحلل. قال علي: ما هذا؟ قالوا: كسانا فلان: قال: فما دعاك إلى هذا قبل أن تقدم على رسول الله فيصنع ما شاء؟ فنزع الحلل منهم. فلما قدموا على رسول الله اشتكوه لذلك، وكانوا قد صالحوا رسول الله، وإنما بعث عليًا إلى جزية موضوعة. قلت: هذا السياق أقرب من سياق البيهقي. وذلك أن عليًا سبقهم لأجل الحج وساق معه هديًا وأهل بإهلال النبي -صلى الله عليه وسلم-، فأمره أن يمكث حرامًا. وفي رواية البراء بن عازب أنه قال: له إني سقت الهدي وقرنت. والمقصود أن عليًا لما كثر فيه القيل والقال من ذلك الجيش بسبب منعه إياهم استعمال إبل الصدقة، واسترجاعه منهم الحلل التي أطلقها لهم نائبه، وعلي معذور فيما فعل لكن اشتهر الكلام فيه في الحجيج، فلذلك – والله أعلم – لما رجع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من حجته وتفرغ من مناسكه ورجع إلى المدينة فمر بغدير خم قام في الناس خطيبًا فبرأ ساحة علي ورفع من قدره ونبه على فضله، ليزيل ما وقر في نفوس كثير من الناس”.
إذاً، حديث غدير خم كان له أسباب تتعلق بوجود بعض النفور من تصرفات علي بن أبي طالب، وكثرة القيل والقال حوله. وهنا، ناسب أن يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه: “أذكركم الله أهل بيتي” بمعنى استوصوا بهم خيرًا. وقاله قرب المدينة بمعنى أن المشاكل يمكن حلها في إطار ضيق. ولو أراد له الحكم والولاية، لقال ذلك في الحج، وفي محضر جميع الناس، فليس فيه أي إشارة لمعنى ولاية الحكم أو الوصية بذلك. - قال البيهقي -رحمه الله تعالى-: “وأما حديث الموالاة فليس فيه -إن صح إسناده – نص على ولاية عليٍّ بعده، فقد ذكرنا من طرقه في كتاب الفضائل ما دل على مقصود النبي -صلى الله عليه وسلم- من ذلك، وهو أنه لما بعثه إلى اليمن كثرت الشكاة عنه وأظهروا بغضه، فأراد النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يذكر اختصاصه به ومحبته إياه، ويحثهم بذلك على محبته وموالاته وترك معاداته”. (الاعتقاد ص 354)
- وقال ابن حجر الهيتمي: “وسبب ذلك كما نقله الحافظ شمس الدين الجزري عن ابن إسحاق أن عليًا تكلم فيه بعض من كان معه في اليمن، فلما قضى -صلى الله عليه وسلم- حجه خطبها تنبيهًا على قدره، وردًا على من تكلم فيه: كبريدة؛ لما في البخاري أنه كان يبغضه”. (الصواعق المحرقة على أهل الرفض والضلال والزندقة 1/109)
عيد الغدير عند السنة والشيعة: الممارسات والاختلافات
تعيش اليمن هذه الأيام معتركًا دينيًا مع قدوم يوم الثامن عشر من ذي الحجة، والذي يتخذه الشيعة عيدًا لهم. وقد أصدرت الحكومة الشرعية، عبر وزارة الأوقاف والإرشاد اليمنية، توجيهًا إلى خطباء المساجد ورواد المنابر بتفنيد الاحتفال بهذا اليوم، مع التأكيد على الدور التاريخي لليمنيين في نشر الإسلام ودحض الشبهات، ومنها يوم غدير خم.
على النقيض، يتخذ الحوثيون من يوم الغدير مناسبة دينية لترويج فكرهم وحشد مقاتليهم إلى الجبهات، مما يدل على استغلال المناسبة لأغراض سياسية وعسكرية.
يوم الغدير عند السنة: بدعة ومحدثة
- قال فقيه اليمن ومحدثها محمد بن إسماعيل العمراني: “يوم الغدير أو ما يسمى [عيد الغدير] هو عيد باسم الدين، ولا وجود له في كتب السنة، وإنما أحدثه أبو الحسن علي بن بويه بعد مضي أكثر من ثلاثة قرون من الهجرة، وأول من أحدثه في اليمن سيف الإسلام أحمد بن الحسن بن القاسم في أيام خلافة عمه المتوكل إسماعيل بن القاسم، وأقره عمه على ذلك، فهو على ذلك بدعة”.
هذا التأكيد يوضح أن عيد الغدير لا يُعد جزءًا من السنة النبوية، بل هو بدعة مستحدثة تاريخيًا.
عيد الغدير وأسباب تسميته
تذكر الروايات الإسلامية أن تسمية عيد الغدير تعود إلى قول النبي -صلى الله عليه وسلم- في غدير خم: “من كنت مولاه فعلي مولاه… اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله”. هذا الحديث، كما ذكرنا سابقًا، هو محل خلاف في صحته ودلالته.
عيد الغدير عند الشيعة : تقديس وعبادات
تُعلي كتب الشيعة من شأن يوم الغدير، وتنسب لعلي بن أبي طالب قوله: “إنَّ هذا يَوْمٌ عَظيمُ الشَّأْنِ، فيهِ وَقَعَ الْفَرَجُ، وَ رُفِعَتِ الدُّرَجُ وَ وُضِحَتِ الْحُجَجُ وَ هُوَ يَوْمُ الاْيضاحِ وَالاِْفْصاحِ مِنَ الْمَقامِ الصُّراحِ، وَ يَوْمُ كَمالِ الدّينِ وَ يَوْمُ الْعَهْدِ الْمَعْهُودِ…”.
كما جاء في كتاب “مصباح المجتهد” عن الإمام الصادق: “وَاللّهِ لَوْ عَرَفَ النّاسُ فَضْلَ هذَا الْيَوْمِ [يوم الغدير] بِحَقيقَتِهِ لَصافَحَتْهُمُ الْمَلائِكَةُ فِى كُلِّ يَوْمٍ عَشْرَ مَرّاتٍ… وَ مَا اَعْطَى اللّه ُ لِمَنْ عَرَفَهُ ما لايُحْصى بِعَدَدٍ”.
وفي كتاب “الإقبال” لابن طاووس قال أبو عبد اللّه -عليه السلام-: “اِذا كانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ زَفَّتْ اَرْبَعَةُ اَيّامٍ اِلَى اللّه ِ عز و جل كَما تَزِفُّ الْعَـرُوسُ اِلى خِـدْرِهـا: يَوْمَ الْفِطْرِ وَ يَوْمَ الاَْضْحى وَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَ يَـوْمَ غَـديرِ خُـمٍّ”.
هذه النصوص تُظهر مدى تقديس الشيعة ليوم غدير خم واعتباره يومًا ذا فضل عظيم، يُقارن بأعياد الفطر والأضحى ويوم الجمعة.
عيد الغدير في اليمن : تاريخ من الاحتفالات
تاريخيًا، تحول يوم غدير خم إلى عيد في اليمن، تهتم به الدولة الحاكمة وتحييه كل عام، وتُقام له طقوس معينة.
أورد الكاتب عرفات البهلولي ما يلي: “يوم الغدير أو يوم الولاية للإمام علي كرم الله وجهه مذكور في الكتب والمراجع الزيدية اليمنية وغيرها من المراجع الإسلامية، ولست هنا بصدد الحديث عن هذا اليوم وإنما بسرد تسجيل تاريخي متى تحول هذا اليوم إلى عيد في التاريخ اليمني تهتم به الدولة الحاكمة آنذاك وأصبحت تحييه كل عام وأصبح له طقوس معينة…”
وقال المؤرخ يحيى بن الحسين بن الإمام القاسم -رحمه الله- المتوفى في حدود 1100هـ في كتابه الذي حققه الأستاذ الحبشي وأطلق عليه عنوان “يوميات صنعاء في القرن الـ11 الهجري” ما نصه: “وفي هذه السنة [1073هـ/1663م]: ابتدأ أحمد بن الحسن بشعار يوم الغدير في يوم ثامن عشر يوم من ذي الحجة بنشر الأعلام والألوية والحزبة * والمتوكل اقتدى * به ففعله من بعد وهو بحبور لما وصل إليه أحمد بن الحسن كما سيأتي إن شاء الله” (صـ 119).
هذا يوضح أن الاحتفال بعيد الغدير في اليمن ليس ظاهرة حديثة، بل يعود إلى قرون مضت، ومرتبط بحكام معينين.
مظاهر الاحتفال بعيد الغدير
منذ أن أقيم أول عيد للغدير، تتشابه طقوس العيد في العموم. يمكن إيجازها في النقاط التالية:
- تحديد مكان الاحتفال: يتم تعيين والإعلام عن المكان الذي سيجري فيه الاحتفال، ويكون عادة أحد القيعان الفسيحة حول صنعاء بالقرب من أحد الهضاب أو الجبال، حتى يتسع للحشود الرسمية والشعبية المشاركة (مثل نقم – الجراف).
- المسيرة الرسمية والشعبية: يخرج الجيش بكامل أبهته وعتاده من مقر الحكم، متبوعًا بالحاكم والحاشية الرسمية، ومرافقًا له الأهالي والحشود وهم يهزجون بالأناشيد والزوامل، وفي عصور لاحقة بالموسيقى النحاسية.
- المنافسات والألعاب: تُجرى بعض المنافسات والألعاب مثل سباقات واستعراضات الخيول وكذلك الرماية.
- الخطبة الدينية: تتجمع الحشود لسماع الخطبة، وغالبًا ما يلقيها خطيب الجامع الكبير، وفيها يتم إلقاء المواعظ والإرشادات وتذكير بمناقب أمير المؤمنين الإمام علي وفضله وسابقته وأحقيته بالخلافة والإمامة.
- القصائد والإنشاد: ثم تُلقى بعض القصائد والنشيد على مسامع الحاكم والحشود.
- فض الحشد: ينفض الحشد ويعودون إلى مقر الحكم وهم يرددون الزوامل والأناشيد.
هذه المظاهر تُبرز الطابع الاحتفالي العام لعيد الغدير، وتركيزه على شخصية الإمام علي في سياق يراه الشيعة يوم ولايته.
خاتمة
يُعد غدير خم ظاهرة دينية وتاريخية معقدة، تختلف حولها الرؤى والمفاهيم بين المذاهب الإسلامية الرئيسية. فبينما يراه الشيعة يومًا عظيمًا لتعيين الإمام علي بالولاية والخلافة، ويحتفلون به بطقوس خاصة، ينظر إليه أهل السنة على أنه يوم حدث فيه موقف نبوي لفض النزاعات وتوضيح مكانة علي، ولكنه لا يحمل دلالة على الإمامة أو الخلافة، وأن الاحتفال به كعيد هو بدعة مستحدثة.
الخلاف حول غدير خم ليس مجرد خلاف تاريخي، بل هو يمس جوهر العقيدة والممارسة لدى كل من الطرفين. فهم هذا الخلاف يتطلب قراءة متأنية للأدلة من كلا الجانبين، والابتعاد عن التفسيرات المتطرفة، والسعي نحو الحوار المبني على العلم والاحترام المتبادل.