عيد الغدير : جدلية الاسم وتاريخ الاحتفال
من "غدير خم" إلى " عيد الولاية ": رحلة احتفالٍ من العهد النبوي إلى الدول الإسلامية والعصر الحديث

يعد عيد الغدير أحد أبرز المناسبات الدينية في المذهب الشيعي، ففي الثامن عشر من ذي الحجة من كل عام، يحتفل ملايين المسلمين الشيعة بذكرى تاريخية يعتقدون أنها شهدت إعلان النبي محمد (ص) الإمام علي بن أبي طالب خليفةً ووليًا للمسلمين من بعده، مستشهدين بحديث: “مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَهَذَا عَلِيٌّ مَوْلَاهُ”. هذه المناسبة، التي تُعرف أيضًا بـ “عيد الولاية”، تُشكل ركيزة أساسية للهوية الشيعية، وتكتسب رمزية عميقة تتجاوز مجرد الاحتفال لتلامس قضايا الشرعية السياسية والدينية، وتُثير جدلاً تأويليًا واسعًا مع المذاهب الإسلامية الأخرى، لا سيما أهل السنة والجماعة.
بين اللغة والتاريخ: تشابك التسميات ودلالاتها
تُطلَق على هذا العيد في المذهب الشيعي تسمية “عيد الغدير”، نسبةً إلى موقع “غدير خم” القريب من الجحفة، وهو وادٍ يقع شرق رابغ في المملكة العربية السعودية حاليًا. يشير اسم “الغدير” في اللغة العربية إلى بِركة ماء ضحلة تتبقى بعد جريان السيل. لكن دلالة التسمية تتجاوز المعنى اللغوي لتكتسب أبعادًا دينية عميقة، فالشيعة يرون أن هذا اليوم هو “عيد الولاية”، الذي نَصَّب فيه النبي محمد (ص) الإمام علي بن أبي طالب وليًا ومرجعًا روحيًا وسياسيًا للمسلمين.
تحمل هذه التسمية أهمية كبرى في الفكر الشيعي، إذ تُشير إلى مفهوم “الولاية” الذي يُمثل أساسًا عقديًا عندهم، ويعني الإمامة والقيادة الروحية والسياسية. كما أن لليوم أسماء أخرى تُضفي عليه طابعًا قدسيًا، مثل “يوم العهد المعهود” في السماء، و”يوم الميثاق المشهود” على الأرض، وذلك وفقًا للروايات الشيعية، مما يعكس الأهمية المحورية لهذا الحدث في تشكيل الهوية المذهبية الشيعية وتثبيت عقيدة الإمامة.
من ناحية أخرى، يرى أهل السنة والجماعة أن استخدام كلمة “الغدير” أو “الولاية” للإشارة إلى تعيين الإمام علي خليفةً بعد النبي (ص) هو تأويل غير دقيق. بالنسبة لهم، حديث “من كنت مولاه فعلي مولاه” يُفهم على أنه تأكيد لفضائل الإمام علي ومكانته العالية بين الصحابة، وأنه كان من أقرب الناس إلى النبي (ص)، وليس نصًا صريحًا بتوليته الخلافة. فهم يؤكدون أن “المولى” في هذا السياق قد تعني المحب، الناصر، أو القريب، ولا تدل بالضرورة على الولاية السياسية أو الإمامة بعد النبي. هذا الاختلاف في فهم دلالة الكلمات يُعد جوهر النزاع بين المذهبين حول واقعة الغدير.
رحلة الاحتفال: من المجالس السرية إلى الاحتفاء الرسمي.
مواضيع ذات صلة : أسرار الحج ومقاصده
بدايات احتفالات عيد الغدير
يُشير المؤرخون إلى أن الاحتفال بعيد الغدير لم يكن شائعًا في القرون الهجرية الأولى بالصورة التي هو عليها اليوم. لكن بعض الروايات التاريخية، لا سيما الشيعية منها، تُشير إلى تعظيم هذا اليوم منذ أتباع الإمام علي (رضي الله عنه). فالمؤرخ المسعودي (ت. 346 هـ) ذكر أن أتباع الإمام علي بدأوا تعظيم هذا اليوم منذ القرن الرابع الهجري. كما أن البيروني في كتابه “الآثار الباقية” (390 هـ) دوَّن تفاصيل هذا الحدث ضمن أحداث شهر ذي الحجة، مما يدل على بداية الاعتراف به كحدث تاريخي مهم، وإن لم يكن بالضرورة عيدًا رسميًا.
تُقدم رواية الإمام الرضا (ت. 203 هـ) تفاصيل عن طقوس مبكرة للاحتفال بهذا اليوم، حيث كان يُقام وليمة خاصة، وتُمنح الهدايا والكساء للأتباع. هذا يُشير إلى أن الاحتفال بالغدير كان يجمع بين الطابع الروحاني والاجتماعي، ويعزز من تماسك المجتمع الشيعي وتعبيره عن الولاء للإمام علي وأهل البيت. هذه المظاهر المبكرة للاحتفال كانت غالبًا تُقام في إطارٍ خاص أو سري، خاصةً في الفترات التي كانت فيها المجتمعات الشيعية تُعاني من الاضطهاد أو التضييق.
عيد الغدير من الطقس الديني إلى الشعار السياسي
تحوّل الاحتفال بعيد الغدير من مجرد طقس ديني إلى شعار سياسي واضح المعالم مع قيام الدول الشيعية. فقد أضفى الفاطميون في مصر (القرن الرابع الهجري) صبغة رسمية على هذا العيد، ليرتبط بالشرعية السياسية لدولتهم التي ادعت النسب الشريف إلى الإمام علي وفاطمة الزهراء. كان الفاطميون يُقيمون احتفالات ضخمة في هذا اليوم، تُبرز مكانة الإمام علي وتعزز شرعية حكمهم في أعين الرعية.
تكرر هذا النمط في الدولة الصفوية في إيران (القرن العاشر الهجري)، حيث حوَّله الشاه إسماعيل الصفوي إلى احتفال وطني ورسمي في إيران، كجزءٍ من تعزيز الهوية الشيعية للدولة في مواجهة الخلافة العثمانية السنية. كان الاحتفال بعيد الغدير يُمثل أداة لتوحيد الشعوب تحت مظلة مذهبية، وتأكيدًا للشرعية السياسية والدينية للحكم الصفوي، وهو ما جعل هذا العيد من أبرز المناسبات الدينية الرسمية في إيران.
في العصر الحديث، تُقام الاحتفالات بعيد الغدير في مختلف أنحاء العالم التي تتواجد فيها تجمعات شيعية كبيرة. في العراق، على سبيل المثال، تحوّل الاحتفال في النجف الأشرف إلى مهرجان ثقافي وديني كبير يُقام في الصحن العلوي، بحضور علماء وزعماء وسفراء، ويُبرز هذا الاحتفال مدى الارتباط العميق للإمام علي بالهوية الشيعية. كما تُحييه الطائفة الزيدية في اليمن بمظاهر تُجسِّد الامتداد المذهبي والتأكيد على مكانة الإمام علي في فكرهم.
مواضيع ذات صلة: لماذا سميت ايام التشريق بهذا الاسم
صراع الاعتراف: جدلية العيد
على الرغم من اعتماد عيد الغدير كـ “شعار شيعي” بامتياز، إلا أنه بقي موضع خلافٍ وجدلٍ مع المذاهب الإسلامية الأخرى، لا سيما المذهب السني. فأهل السنة لا يعترفون بشرعية الاحتفاء بهذه المناسبة كعيدٍ ديني، ويركزون على عيدي الفطر والأضحى فقط كعيدين شرعيين في الإسلام. المؤرخ الثعالبي لخّص هذه المكانة بقوله: “وللشيعة به تعلق كبير”، في إشارةٍ إلى ارتباطه العقدي العميق بالمذهب الشيعي، حتى لو لم يكن معترفًا به عالميًا كعيد إسلامي عام. هذا الصراع حول الاعتراف يوضح كيف أن المناسبات الدينية يمكن أن تُصبح ساحة للتأويل والجدال حول الشرعية التاريخية والعقدية.
الجدل حول النص القرآني: آية إكمال الدين
يرتبط الجدل حول عيد الغدير أيضًا بآية قرآنية محورية، وهي قوله تعالى: ({الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}) [المائدة: 3].
يذهب الشيعة إلى أن هذه الآية نزلت في يوم الغدير، وأنها إشارة واضحة إلى اكتمال الدين بولاية الإمام علي. في تفسيرهم، يُفهم اكتمال الدين على أنه لا يتم إلا بتعيين الإمام علي كوليٍّ وقائد للمسلمين بعد النبي، وبذلك تكون الآية دليلاً إلهيًا على أحقية الإمامة لعلي في هذا اليوم المبارك. هذا التفسير يُعطي لواقعة الغدير بعدًا قرآنيًا عميقًا، ويُرسخها كحجر زاوية في العقيدة الشيعية.
على النقيض من ذلك، يؤكد علماء أهل السنة والجماعة – استنادًا إلى روايات صحيحة وردت في صحيح البخاري وصحيح مسلم – أن هذه الآية نزلت قبل ذلك بيومين في عرفة، خلال حجة الوداع. فعن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) قال: “إني لأعلم اليوم الذي نزلت فيه، والمكان الذي نزلت فيه. نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفات في يوم جمعة”. هذا التفسير السني يُرى أن إكمال الدين كان يعني اكتمال التشريعات والأحكام الإسلامية بعد أن تم إنزال كافة الفرائض والسنن. وبالتالي، لا علاقة لآية إكمال الدين بمسألة خلافة الإمام علي أو واقعة الغدير، وأن محاولة ربطها بالغدير هي تأويل شيعي لا تدعمه النصوص الشرعية السنية.
عيد الغدير في الميزان السني: فتوى ابن باز كنموذج
يُعد موقف أهل السنة والجماعة من عيد الغدير والخلافة عمومًا مغايرًا تمامًا للموقف الشيعي. ولتوضيح هذا الموقف، يُمكن استعراض فتوى الشيخ عبد العزيز بن باز، المفتي السعودي الراحل، والتي تُعتبر مرجعًا أساسيًا في الجدل السني-الشيعي حول الخلافة.
أبرز محاور فتوى ابن باز:
- نفي وجود نص صريح: يؤكد ابن باز أن “القول بنص النبي على خلافة علي لا أصل له في الأحاديث الصحيحة”، مشيرًا إلى أن هذا الرأي يقتصر على الشيعة دون سواهم. هذا الموقف يُشدد على عدم وجود دليل قطعي من السنة النبوية يُثبت تعيين علي (رضي الله عنه) خليفةً بالوصية.
- أدلة أفضلية أبي بكر الصديق: يستند ابن باز إلى عدة أدلة لبيان أفضلية أبي بكر الصديق (رضي الله عنه) واستحقاقه للخلافة، منها:
- أمر النبي (ص) لأبي بكر بإمامة الصلاة في مرضه، وهو ما يُعتبر إشارة ضمنية إلى أحقيته بالخلافة بعده.
- مقولة النبي الشهيرة: “يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر”.
- مبايعة كافة الصحابة – بمن فيهم الإمام علي – لأبي بكر بعد وفاة النبي (ص)، وهو ما يُعد إجماعًا عليهم.
- الإجماع التاريخي: يستشهد ابن باز بحديث ابن عمر (رضي الله عنهما) أن الصحابة كانوا يرتبون الأفضلية في زمن النبي (ص): “أبو بكر ثم عمر ثم عثمان”، ويُبرز أن النبي أقر هذا الترتيب ولم يعترض عليه. هذا الإجماع يُشكل حجر الزاوية في العقيدة السنية بخصوص ترتيب الخلفاء الراشدين.
شهادة الإمام علي نفسه ضد مزاعم الشيعة:
يُفند ابن باز المزاعم الشيعية بالاستشهاد بأقوال وأفعال الإمام علي (رضي الله عنه) نفسه، مؤكدًا أنه: - لم يدَّعِ قط أنه الأفضل بعد النبي (ص) أو أنه الأحق بالخلافة بالنص الإلهي.
- كان يقول: “خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر”. هذه المقولة تُعتبر دليلاً قاطعًا من الإمام علي نفسه على إقراره بأفضلية أبي بكر وعمر.
- هدد بجلد كل من يفضّله عليهما، مما يُظهر رفضه المطلق لمثل هذه المزاعم.
- بايع أبا بكر بيعة ثانية بعد وفاة فاطمة الزهراء (رضي الله عنها)، مما يُبطل أي ادعاء بعدم رضاه عن الخلافة الأولى.
- لم يعترض على نظام الشورى الذي وضعه عمر (رضي الله عنه) لاختيار الخليفة من بعده، مما يُشير إلى قبوله للمبدأ الشوروي في الحكم.
أسئلة تفنيدية حاسمة:
يطرح ابن باز استفهاماتٍ تقطع الشك باليقين، مثل: - كيف يدعي البعض أن النبي أوصى لعلي والصحابة كلهم – بمن فيهم علي – بايعوا أبا بكر؟ هذا التناقض يُشير إلى ضعف الرواية الشيعية.
- لماذا لم يطالب علي بحقه لو كان له حق مسلوب؟ عدم مطالبة الإمام علي بحقه المزعوم يُعد دليلاً على عدم وجود هذا الحق.
- كيف يُعقل أن الصحابة كلهم – بدون استثناء – ظلموا علياً؟ هذا الادعاء يُفضي إلى اتهام جماعي للصحابة، وهو ما يرفضه أهل السنة.
بين التاريخ والعقيدة
يختتم ابن باز فتواه بالتأكيد على أن خلافة أبي بكر وعمر وعثمان كانت إجماعًا صحابيًا، وأن الإمام علي شارك في نظام الشورى ولم يعترض على الشرعية التاريخية لهؤلاء الخلفاء. ويُشدد على أن ادعاء النص لعلي هو “كذب على رسول الله”. هذه الفتوى لا تمثل رأيًا فرديًا، بل تُجسّد الموقف السني التاريخي المدعوم بالنصوص الشرعية، والإجماع الصحابي، وشهادة الإمام علي نفسه.
واقعة غدير خم من منظور سني: السياق والأحاديث
لفهم الجدل حول عيد الغدير، لا بد من استعراض واقعة غدير خم من منظور أهل السنة، الذي يختلف جوهريًا عن التفسير الشيعي.
ما هو غدير خم؟
“غدير خم” هو موضع بين مكة والمدينة، وهو وادٍ عند الجحفة، به غدير (مستنقع ماء) يقع شرق رابغ بحوالي 26 كيلومترًا. يُنسب اسم “خم” إلى رجل كان صباغًا، وقد سُمي الغدير باسمه.
حقيقة قصة غدير خم عند أهل السنة
يُؤكد أهل السنة أن حادثة غدير خم لم تكن تتعلق بتعيين الإمام علي خليفةً بعد النبي (ص)، بل كانت سياقها مختلفًا تمامًا. القصة تتلخص في أن النبي (ص) أرسل الإمام علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) إلى اليمن ليُخمِّس الغنائم ويقبض الخُمس. خلال هذه الرحلة، حدثت ثلاثة أمور أثارت بعض الانزعاج لدى بعض الصحابة المرافقين لعلي (رضي الله عنه):
- الجارية والغنيمة: بعد تقسيم الغنائم، وقعت جارية جميلة في سهم علي، فتسراها. هذا الأمر لم يُعجب بعض الصحابة، وقدم بريدة بن الحصيب (رضي الله عنه) إلى النبي (ص) ليُخبره بما فعله علي. فكان رد النبي (ص): “يَا بُرَيْدَةُ أَتُبْغِضُ عَلِيًّا؟” فقال: نَعَمْ، قَالَ: “لاَ تُبْغِضْهُ فَإِنَّ لَهُ فِي الخُمُسِ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ” (رواه البخاري). هذا الحديث يُظهر أن النبي (ص) كان يُدافع عن علي ويُبرر فعله، وليس له علاقة بالخلافة.
- الحلل وثياب الصدقة: عندما عاد علي من اليمن للحج، استخلف على جنده رجلاً، فقام هذا الرجل بكسوة كل رجل من القوم حلة من البز الذي كان مع علي. وعندما دنا الجيش من مكة، غضب علي وانتزع الحلل منهم وأعادها في البز، مما أظهر شكوى الجيش.
- إبل الصدقة: عندما رأى أصحاب علي أن إبلهم ضعيفة، طلبوا منه أن يركبوا إبل الصدقة ليريحوا إبلهم، فأبى ذلك. ولكن من استخلفه على الجيش سمح لهم بذلك. وعندما التقى علي بجيشه، لام خليفته على سماحه لهم بركوب إبل الصدقة، فعدَّوا ذلك غلظة منه وتضييقًا عليهم.
بسبب هذه الأمور الثلاثة، كثر القيل والقال بين أهل المدينة في علي (رضي الله عنه). ولم يرد الرسول (ص) أن يُبرئ ساحة علي أثناء موسم الحج، لأن الحادثة تخص الصحابة الكرام الذين هم من أهل المدينة. وبعد فراغه (ص) من الحج، وأثناء عودته إلى المدينة، قام في الناس خطيبًا في غدير خم، فبرأ ساحة علي (رضي الله عنه)، ورفع من قدره، ونبه على فضله، ونوَّه بشأنه؛ ليزيل ما وقر في نفوس الصحابة الذين كانوا معه في اليمن.
حديث “من كنت مولاه فعلي مولاه”: السياق السني
اتفق المحدثون والمؤرخون على أن هذه الخطبة كانت في غدير خم أثناء عودة النبي (ص) من مكة إلى المدينة. ومما قاله النبي (ص) في هذه الخطبة: “من كنت مولاه فعلي مولاه”. هذا الحديث متواتر، رواه الإمام أحمد في المسند وغيره بأسانيد صحيحة.
وعن أبي الطفيل (رضي الله عنه) قال: “جمع علي (رضي الله عنه) الناس في الرحبة، ثم قال لهم: أنشد الله كل امرئ مسلم سمع رسول الله (ص) يوم غدير خم ما سمع، لما قام فقام ناس كثير فشهدوا حين أخذه بيده، فقال للناس: “أتعلمون أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟” قالوا: نعم يا رسول الله، قال: “من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه”. هذا الحديث يُؤكد مكانة علي (رضي الله عنه) وفضله، لكنه يُفهم في سياق رفع اللبس عن مكانته في نفوس بعض الصحابة، وليس تعيينه خليفة.
وفي صحيح الإمام مسلم (2408) عن زيد بن أرقم (رضي الله عنه) قال: “قام رسول الله (ص) يوما فينا خطيبا بماء يدعى خما بين مكة والمدينة، فحمد الله وأثنى عليه، ووعظ وذكر، ثم قال: “أما بعد، ألا أيها الناس فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين: أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله، واستمسكوا به” فحث على كتاب الله ورغب فيه، ثم قال: “وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي”. هذا الحديث المعروف بحديث الثقلين، يُبرز أهمية القرآن وأهل البيت، لكنه لا يُشير إلى وصاية صريحة بالخلافة.
الخلاصة من المنظور السني هي أن حديث الغدير كان يُقصد به تبرئة ساحة علي (رضي الله عنه) ورفع ما وقر في نفوس بعض الصحابة بسببه، وبيان محبته وفضله، وليس له أي علاقة بتعيين خليفة بعد النبي (ص). لو أراد النبي (ص) أن يُبلغ المسلمين بالوصية لعلي، لكان فعل ذلك أثناء الحج وفي يوم عرفة حيث الناس مجتمعون، ولم يؤجله إلى ما بعد الحج.
الاحتفال بعيد الغدير: بدعة في منظور أهل السنة
يُعتبر الاحتفال بما يسمى “عيد الغدير” من البدع المحدثة في الإسلام من منظور أهل السنة. هذا العيد لم يكن معروفًا في زمن النبي (ص)، ولا في زمن أصحابه، ولا التابعين، ولا أتباعهم. وأول من أحدثه هم الرافضة (الشيعة) بعد القرون الثلاثة المفضلة، كما ذكر ذلك المؤرخون الثقات.
تاريخ ظهور الاحتفال
يمكن تدوين تاريخ ظهور الاحتفال بيوم الولاية أو عيد الغدير كالتالي:
- معز الدولة البويهي (سنة 352 هـ): يُعد معز الدولة البويهي أول من أمر بإظهار الزينة والاحتفال بعيد الغدير في بغداد. قال ابن الأثير في كتابه “الكامل في التاريخ” (7/245): “وفي الثامن عشر من ذي الحجة – سنة 352 – أمر معز الدولة بإظهار الزينة في البلد، وأشعلت النيران، وأظهر الفرح، وفتحت الأسواق بالليل، كما يفعل ليالي الأعياد”.
- الذهبي وابن كثير والسيوطي وابن العماد: أكد مؤرخو الإسلام، مثل الذهبي في “تاريخ الإسلام” (26/6)، وابن كثير في “البداية والنهاية” (11/276)، والسيوطي في “تاريخ الخلفاء” (ص 288)، وابن العماد في “شذرات الذهب في أخبار من ذهب” (4/273) أن هذا الاحتفال بدأ في سنة 352 هـ على يد معز الدولة. وقد وصفه ابن كثير بأنه “بدعة شنيعة ظاهرة منكرة”.
- المقريزي: ذكر المقريزي في كتابه “الخطط والآثار” (2/254-255): “اعلم أن عيد الغدير لم يكن عيدا مشروعا، ولا عمله أحد من سالف الأمّة المقتدى بهم، وأوّل ما عرف في الإسلام بالعراق أيام معز الدولة عليّ بن بويه، فإنه أحدثه في سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة، فاتخذه الشيعة من حينئذ عيدا”. اليمن: أول من احتفل بعيد الغدير في اليمن كان أحمد بن الحسن الجارودي سنة 1073 هـ، كما ذكر مؤرخ اليمن السيد يحيى بن الحسين بن الإمام القاسم في كتابه “بهجة الزمن”.
أسباب رفض الاحتفال بعيد الغدير
يرفض أهل السنة الأحتفال بعيد الغدير للأسباب التالية:
- عدم وجود أصل شرعي: يُؤكد أهل السنة أنه لا يوجد في الكتاب ولا في السنة دليل على مشروعية الاحتفال بهذا العيد. الأعياد الشرعية في الإسلام هي عيد الفطر وعيد الأضحى فقط.
- التشريع مع الله: جعل يوم الغدير يوم عيد للمسلمين، وإظهار شعار العيد فيه، يُعد هذا من التشريع مع الله تعالى، وهو ما لا يجوز.
- الخرافات والبدع: يرتبط الاحتفال بعيد الغدير عند الشيعة ببعض الطقوس التي يراها أهل السنة خرافات وبدعًا، مثل:
- الاعتقاد بأن صيام يوم الغدير يُكفر ذنوب ستين سنة.
- أداء ركعتين في هذا اليوم طمعًا في ثواب 100 ألف حجة و100 ألف عمرة.
- قراءة دعاء “الندبة” المنسوب للإمام الثاني عشر.
- الاغتسال والصلاة قبل زوال الشمس بقراءة سور معينة.
- هذه الطقوس تُعتبر من البدع والمحدثات التي لا أصل لها في الشرع.
عيد الغدير جدلية تاريخية وعقائدية
إن الاحتفال بعيد الغدير يُسلط الضوء على أحد أعمق الخلافات التأويلية بين المذاهب الإسلامية، والتي لا تزال تُؤثر على الحوارات الدينية والاجتماعية حتى اليوم. فمن منظور الشيعة، يُعد الغدير رمزًا للشرعية السياسية والدينية، ويُعيد إنتاجه كل عام لتأكيد الشرعية والانتماء لأهل البيت. أما من منظور أهل السنة، فالرواية الغديرية تُشكل جزءًا من مسيرة الصحابة التي لا تُختزل بشخص واحد، والاحتفال بها يُعتبر بدعة لا أساس لها في الشرع.
هذا التباين في التأويل التاريخي والعقائدي يُبرز كيف تُشكل الأحداث التاريخية ركيزةً للهوية الدينية عند الطوائف، وكيف يُمكن استخدام المناسبات الدينية كأداة لتوحيد الشعوب تحت مظلة مذهبية، أو كساحة لصراع الروايات والبحث عن الشرعية. إن فهم هذه الجدلية يُعد مفتاحًا لفك شيفرة التاريخ الإسلامي وتداعياته المعاصرة.