القبائل العربية

أصل بني صخر : قبيلة صنعت الأساطير

يناقش هذا المقال أصل قبيلة بني صخر إحدى القبائل العربية ذات القوة والنفوذ في الجزيرة العربية، ونطلع على تاريخها العريق في مراحلها المختلفة.

والتي في البداية كانت الصخرة.. ليست مجرد رمزٍ في الاسم، بل قدرٌ جَغرافي حَفر مسار هذه القبيلة. حين تنحدر من صُلب صخر بن ثعلبة الطائي، وتخرج من عباءة كهلان بن سبأ، فأنت تحمل في دمك بذور إمبراطورية. لم تكن قبيلة بني صخر مجرد رُحّل يبحثون عن مراعٍ، بل صانعة تاريخٍ حوّلت صراعات البادية إلى نُظم حكم، ومنابت الدماء إلى تحالفاتٍ دائمة. كيف انتقلت من كهوف العلا إلى قصور عمّان؟ وكيف صاغت معاركها ضد عنزة وظفير هويةً قبليّةً لا تزول.


الجذور التي لا تُقتلع: الدم الكهلاني والفرع الطائي

تتشابك أنساب الجزيرة العربية كجذور السمراء في الصحراء، لكن شجرة بني صخر واضحة المعالم. فهي تنحدر من السلالة الكهلانية العريقة، وتحديداً من قبيلة طيء فرع طيء بن أدد الذي خرج من قلب اليمن. الجد المؤسس هو صخر بن جرم (المعروف بثعلبة) بن الغوث بن طيء، كما دوّن المؤرخون من ابن الكلبي إلى ابن حزم. هذه السلسلة النسبية ليست نظريةً تتناقلها الألسن، بل حقيقةٌ أثبتتها نقوشٌ حجرية في مدائن صالح، حيث سُجل اسم “أصحاب الحجر” إشارةً إلى موطنهم الأول حول العلا.

مواضيع ذات صلة : قبيلة خثعم نسبها وتاريخها وديارها

أمّا علاقتهم بقبيلة شمر، فهي أشبه بصلة العمومة لا الأخوة. يجتمعون في الجد ثعلبة بن الغوث، لكن شمراً تنحدر من شمر بن عبد الله بن جذيمة، بينما بنو صخر ينتمون مباشرةً لصخر بن ثعلبة. هذا الفارق النسبي ظل حجر الزاوية في تحالفاتهم اللاحقة، حيث احتفظ كل طرفٍ باستقلاليته مع إدراكه لوشائج القربى.


الهجرة: مسار الصخر الذي غيّر خريطة البادية

في أواخر القرن الرابع الهجري، كانت العلا حاضنة القبيلة الأولى. بين صخورها الحمراء بنوا حصونهم، وسيطروا على طريق القوافل بين الحجاز والشام. لكنّ التوسع السكاني ونزاعات المراعي دفعتهم للتحرك شرقاً في رحلةٍ ثلاثية الاتجاهات:

الاتجاه الأول: نحو الشرق (الأردن)
كانت البادية الشمالية هدفاً استراتيجياً. عبروا وادي السرحان بقيادة شيوخ الفايز، واصطدموا بقبائل عنزة التي سيطرت على المنطقة. المعارك التي وصفها المستشرق فردريك بيك كانت ضاريةً، وانتهت بانتصار بني صخر وهجرة قسمٍ من عنزة شمالاً. هذه الهزيمة رسّخت وجودهم من جبال عجلون إلى الصحراء الشرقية.

الاتجاه الثاني: نحو الغرب (مصر)
قصةٌ مختلفة كتبها التحالف مع المماليك. مجموعةٌ من الفرسان انضموا للحملات العسكرية في الصعيد وسيناء، واستقرّ أحفادهم في محافظات قنا والأقصر، حاملين اسم “الصخري” دليلاً على أصولهم.

الاتجاه الثالث: البقاء في الحجاز
قلّةٌ تمسكت بموطن الأجداد حول العلا وخيبر، حافظين على تقاليد القبيلة في قلب الحجاز.


معارك صنعت الأساطير.. الدم الذي روى حدود النفوذ

لم يكن توسع بني صخر سهلاً. لقد دفعوا ثمن أرضهم بدماء أبنائهم في مواجهتين محوريتين:

1. حروب عنزة: معركة البقاء
التقى العملاقان في سهلٍ فسيح شرقي تبوك. كان عنزة الأكثر عدداً، لكنّ بني صخر استغلوا انقسام خصومهم. هجمةٌ صاعقة بقيادة الشيخ جبر الفايز حسمت المعركة، وأجبرت قبائل عنزة على الانسحاب شمالاً نحو سوريا. هذا النصر لا يزال يُروى في المجالس كرمزٍ للبسالة.

2. مواجهة ظفير: غدير السلطان
بعد سنوات، اصطدمت القبيلة بظفير عند حدود الأردن. في المرة الأولى انتصر بنو صخر، لكن ظفير تجمّعت من جديد تحت قيادة الشيخ سلطان بن سويط. التقت القوتان عند غدير ماء في وادي الأزرق. كانت معركةً ضارية استمرت ثلاثة أيام، سقط فيها الشيخ سلطان شهيداً. دمه حوّل المكان إلى “غدير السلطان” – شاهِداً أبدياً على شراسة القتال.


شجرة الحكم: جذعان يتحمّلان فروع الأردن

تتفرع قبيلة بني صخر إلى جذعين رئيسيين، كل منهما يحمل نظاماً اجتماعياً متكاملاً:

الجذع الأول: الطوقة
وهم الأكثر نفوذاً وقوة. يقودهم شيوخ عشيرة الفايز (الملقبون بالغبين)، ويساندهم الزبن (الغفل) والخضير (الغفل). منهم الشيخ مشعل بن دحام الفايز، الملقب رسمياً بشيخ مشايخ القبيلة من قبل الحكومة السعودية منذ 1413هـ.

الجذع الثاني: الكعابنة
ينقسمون إلى الخرشان (المعروفون بالخريشا أو بني محمد) والجبور. هؤلاء يشكلون العمود الفقري للقبيلة في شمال الأردن، خاصة حول إربد والمفرق.


رموز الهوية: شِفرة الصحراء التي لا تُكسَر

لغة بني صخر تتجاوز الكلمات إلى رموزٍ عميقة:

  • نخوتهم الحربية “حمران النواظر” تذكيرٌ بشراسة المحاربين الذين يحمرّ مقلة العين في القتال.
  • الرمز الرقمي 181 شفرة توحّد الشباب من السعودية إلى الأردن في وسائل التواصل.
  • القعود على الدم طقسٌ فريد للمصالحة، حيث يجلس أهل القاتل 40 يوماً في خيمة المقتول قبل دفع الدية.
  • العقال الصخري المميز بسير جلدي أسود، علامةٌ لا تخطئها العين في أسواق نجد.

الأردن: حيث أصبحت القبيلة دولة

لم يكتفِ بنو صخر بالسيطرة العسكرية. في البادية الأردنية، أقاموا نموذجاً فريداً للحكم القبلي:

  • نظام قضائي متكامل: كان شيوخ الفايز يحكمون في النزاعات بصلاحيات تشبه المحاكم العليا.
  • حماية طرق التجارة: فرضوا “الخاوة” (الحماية) على قوافل الحج الشامي مقابل إتاوة.
  • الدور السياسي: تحالفوا مع الأمير عبد الله بن الحسين ضد العثمانيين، وساهموا في تأسيس إمارة شرق الأردن.

الامتداد الخفي: من مصر إلى الشاشات

بينما تركز الأضواء على الوجود النجدي-الأردني، فإن للقبيلة امتداداً خفياً:

  • في صعيد مصر، لا يزال أحفاد فرسان المماليك يحملون اسم “الصخري”.
  • في الدراما العربية، نقل الفنان الأردني ناصر النمري صورة الشيخ القبلي عبر مسلسل “التغريبة”.
  • في الأدب، خلد الروائي سليمان المشيني سيرة القبيلة في روايته “شرق الصحراء”.

الختام: صخرة التاريخ التي لا تتآكل

قبيلة بني صخر ليست مجرد اسم في سجل الأنساب. إنها ظاهرة تاريخية حوّلت الصراع على الماء والكلأ إلى مشروعٍ سياسي امتد لقرون. من صخور العلا حيث نقشت أسماؤهم على الحجر، إلى سهول الأردن حيث غيّروا مسارات الهجرة، إلى مشارف النيل حيث تركوا بصمتهم.. أثبتوا أن القبيلة ليست كياناً ساكناً، بل قوة ديناميكية تصنع الجغرافيا والتاريخ. اليوم، بينما يقف الشيخ مشعل الفايز حاملاً لقب شيخ المشايخ، ويتبادل الشباب رمز 181 كشفرَة انتماء، تظل صرخة “حمران النواظر!” تتردد في صحاري أربع دول – شاهداً على أن بعض الصخور لا تُهزم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock