وجهات ومعالم

مدينة براقش الأثرية: نافذة على حضارة معين العريقة

تتربع مدينة براقش التاريخية في مديرية مجزر التابعة لمحافظة مأرب، التي تحتضن بدورها إرثًا حضاريًا عريقًا بوصفها قلب مملكة سبأ القديمة. وتتميز مديرية مجزر بتنوع مواقعها الأثرية ومعابدها التاريخية الشاهدة على أمجاد الماضي، ومن بين هذه الكنوز تبرز مدينة براقش كأحد أهم المراكز الحضارية القديمة في المنطقة.

براقش (يثل): مركزًا حضاريًا بارزًا في مملكة معين

تقع مدينة براقش، التي عُرفت تاريخيًا باسم “يثل”، على بعد حوالي 110 كيلومترات إلى الشمال الغربي من مدينة مأرب، محاذية لوادي الخارد وعلى مقربة من جبلي يام وعال. كما تبعد حوالي 20 كيلومترًا إلى الجنوب الغربي من مدينتي قرناو ومعين الواقعتين في محافظة الجوف.

تُعد براقش ثاني أهم مدن مملكة معين بعد عاصمتها “معين” (يُحتمل أنها الحاضرة المعروفة حاليًا باسم الخريبة). ويُرجح المؤرخون أن تأسيس هذه المدينة يعود إلى القرن السابع قبل الميلاد على أقل تقدير.

تظهر براقش بشكل دائم في النقوش المعينية جنبًا إلى جنب مع مدينة معين، خاصة في ألقاب ملوك مملكة معين الذين حملوا لقب “ملك معين ويثل”. يشير هذا الاقتران الدائم إلى أن مملكة معين كانت تشمل أراضي المدينتين والمناطق الواقعة بينهما، بينما كانت المدن الأخرى في منطقة الجوف تُعتبر ممالك صغيرة، كما تدل على ذلك نقوش مدينة هرم (خرابة همدان) التي تذكر حاكمها بلقب “ملك هرم”. وهكذا، حافظت براقش منذ نشأتها على هويتها كمدينة معينية خالصة، واشتهرت بكثرة معابدها التي لا يزال سورها المهيب يشكل أبرز معالمها حتى اليوم.

شهدت المدينة هجرًا في مطلع القرن الأول الميلادي تقريبًا، وربما كان ذلك عقب الحملات العسكرية التي شنها القائد الروماني على مدن الجوف في عام 24 قبل الميلاد، وهو في طريقه إلى مأرب عاصمة سبأ، قبل أن يعود خائبًا من أمام أسوارها.

وفي العصر الإسلامي لليمن، استعادت براقش أهميتها بتحولها إلى قلعة حصينة للمنصور بالله عبد الله بن حمزة في عام 594 هجري. وتشير الدلائل إلى أن المدينة تعرضت لحريق في هذه الفترة، مما أدى إلى تضرر معظم المباني التي كانت قائمة على سطحها. أما المساكن المبنية بالطوب اللبن، فيُعتقد أن معظمها يعود إلى العصر الإسلامي.
تكمن أهمية براقش أيضًا في محيطها الزراعي الخصب الذي كانت ترويه الوديان المنحدرة من الجنوب.

تُعتبر مدينة “يثل” الموقع الوحيد الذي احتفظ بسوره كاملاً نسبيًا، والذي نجا من عمليات النهب والتخريب. يقف هذا السور شامخًا كشاهد رئيسي على وجود المدينة المعينية التي طمرت أجزاء كبيرة منها تحت التراب، ولم يتبق منها ظاهرًا سوى أجزاء قليلة يُرجح أنها تمثل بقايا معابدها.
في أواخر ثمانينيات القرن العشرين، بدأت بعثة أثرية إيطالية بالتنقيب في أحد معابد المدينة، وهو معبد ذات حميم.

معبد ذات حميم: تحفة معمارية داخل أسوار براقش

يقع معبد الإلهة ذات حميم في الجزء الجنوبي من المدينة، ملاصقًا للسور الذي اتخذ شكلاً بيضاويًا يبلغ محيطه حوالي 700 متر. يمتد الوتر الجنوبي للقوس السوري بطول 60.220 مترًا، بينما يتجه القوس نحو الشمال بطول 20.479 مترًا.

دعّم السور بعدد كبير من الأبراج بلغ حوالي 57 برجًا بهدف التقوية والدفاع. يبدو السور كسلسلة من الدخلات والخرجات متفاوتة المسافات، حيث يتراوح عرض الأبراج بين 5 و 6 أمتار، ويبلغ عرض قليل منها 8 أمتار، وهي الأبراج الواقعة في الركن الجنوبي الشرقي والبرج الغربي المحيط بالبوابة الغربية. أما الدخلات، فتتراوح أطوالها بين 5 و 8 أمتار، ويصل طول بعضها في القطاع الجنوبي إلى 10 أمتار، بينما يوجد دخلة واحدة في القطاع الغربي يبلغ طولها 18 مترًا.

شُيّد السور من الأحجار الجرانيتية، ولم يتبق منه إلا الواجهة الخارجية، بينما الجزء الداخلي مطمور تحت التراب. تذكر النقوش أن السور كان ذا جدارين مبنيين بالحجارة والخشب. البرج رقم 11 في القطاع الجنوبي هو الجزء الوحيد الذي بقي بكامل ارتفاعه، ويبلغ حوالي 15 مترًا.

معبد الإله نكرح: شاهد على التنوع الديني

يقع معبد الإله نكرح في منطقة تُعرف بـ “درب الصبي”، على بعد حوالي 8 كيلومترات إلى الغرب من مدينة براقش. ويجاوره معبد عثتر ومعبد ذات حميم، بالإضافة إلى معابد أخرى كانت تنتشر داخل مدينة براقش وفي المناطق المحيطة بها، مما يشير إلى أهمية المدينة كمركز ديني في مملكة معين.

معبد الأحقاف (الشقب): موقع ديني خارج الأسوار

يقع معبد الأحقاف، المعروف أيضًا باسم “الشقب”، في منطقة الأحقاف إلى الغرب من مدينة براقش على بعد حوالي 3 كيلومترات، وإلى الشمال الغربي من مدينة مأرب على بعد حوالي 112 كيلومترًا. يشير وجود هذا المعبد خارج أسوار المدينة إلى امتداد النفوذ الديني لبراقش وتأثيرها في المناطق المحيطة بها.
إن مدينة براقش بتاريخها العريق وآثارها الشاهدة على حضارة مزدهرة، لا تزال تمثل كنزًا أثريًا ينتظر المزيد من الاكتشافات والدراسات لإجلاء كافة جوانب هذه المدينة الهامة في تاريخ اليمن القديم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock