وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ : وعدٌ إلهيٌّ وبُشرى للمؤمنين

إنّ النفس البشرية، في خضم تقلبات الحياة ومواجهة الظلم، قد يساورها شكٌّ أو توهُّمٌ بأن الله سبحانه وتعالى قد يغفل عن أفعال الظالمين، خاصةً عندما ترى امتدادًا في أمد الظلم، أو استمرارية في نِعم الظالم دون عقاب عاجل. إلا أنّ القرآن الكريم، بحكمته البالغة، جاء ليُبَدِّدَ هذه الأوهام، ويُثَبِّتَ القلوب المؤمنة بقوله تعالى في سورة إبراهيم: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ﴾ (الآية 42). هذه الآية ليست مجرد نهي، بل هي وعدٌ قاطعٌ، وتسليةٌ للمظلوم، وتهديدٌ صارخٌ للظالم، وتأكيدٌ على كمال علم الله وقدرته وحكمته.
النهي في الآية: دلالاته العميقة وأبعاده الإيمانية
اللام في قوله تعالى: “وَلَا تَحْسَبَنَّ” هي لامٌ ناهية. والنهي هنا يُشير إلى وجود ميلٍ أو توهّمٍ لدى بعض النفوس البشرية بأن الله قد يغفل عن أفعال الظالمين. فعادةً ما ينهى الإنسانُ أخاه عن القلق إذا رآه قلقًا. فإذا رأيت شخصًا يتوهم أنك نائم، فتقول له: “لا تحسبني نائمًا”، فهذا يعني أن هناك إشارةً أو سلوكًا منك أوقعه في هذا التوهم. كذلك الحال هنا، فإنّ نهي الله تعالى عن هذا الحسبان يؤكد وجود من يظن خطأً أن الله غافلٌ عما يعمل الظالمون.
لماذا يظن الإنسان أن الله غافل؟
يتساءل البعض: ما الذي يدفع الإنسان إلى هذا التوهم؟ إنّ ما يبدو لهم من تصرفات الله في كونه، وتأخّر العقاب عن الظالمين، هو ما يُثير هذا الظن الخاطئ. فالكافر والظالم قد يُمدّ بالمال والبنين، وبالصحة والقوة، ويُفتح له أبواب الدنيا على مصراعيها، فلا يُعاقب على الفور، بل قد يزداد غنًى وقوةً، وينغمس في الملذات والشهوات. هذه المشاهد قد تُوقع بعض ضعاف الإيمان في ظنّ أن الله غافلٌ عن أفعالهم أو أنه لن يحاسبهم.
لقد أكدت آياتٌ كثيرةٌ في كتاب الله أن الله جل جلاله يمدّ للظالمين مدًّا، وهي ظاهرةٌ تُعرف بـ “الاستدراج”. يقول الله تعالى: ﴿لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾ (سورة آل عمران: 197). ويقول سبحانه على لسان سيدنا إبراهيم عليه السلام في دعائه: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ (سورة البقرة: 126). ويُبَيِّنُ تعالى هذا الاستدراج بوضوح في قوله: ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ﴾ (سورة الأنعام: 44).
إذاً، هذه الآيات تُؤكد أنّ الله سبحانه وتعالى يُمدّ الكافر والظالم بالصحة، والقوة، والمال، والبنين، ويستمر هذا الإمداد حتى يظن هذا الكافر أن الله غافلٌ عنه، أو أنه لن يحاسبه، وهذا هو الغَلَطُ الكبير والوهم الخطير الذي حذرت منه الآية الكريمة.
حكمة الإمداد والإمهال: امتحانٌ وتربيةٌ
السؤال الدقيق هنا هو: لماذا يُمدّ الله الكافر والظالم بالقوة والمال وأسباب الرفاهية إلى أن يظن هذا الكافر أن الله غافلٌ عنه؟ الإجابة تكمن في الحكمة الإلهية التي تهدف إلى امتحان العباد وكشف معادنهم الحقيقية.
الامتحان وكشف المعدن:
لنفترض أن لديك صانعًا في متجرك، وأنت تظل معه طوال ساعات العمل، ولا تسمح له بالاقتراب من صندوق النقود. هل تستطيع أن تكشف ما إذا كان أمينًا أم خائنًا؟ لا، مستحيل؛ لأنه لم تُتح له الفرصة ليكشف حقيقته. لكن إذا تغافلت عنه، أو تركته وحده لفترة، سيظهر ما إذا كان أمينًا أو خائنًا. لا تظهر أمانته ولا معدنه الحقيقي إلا إذا شعر أنك تغافلت عنه.
هذا التغافل الإلهي هو تغافلٌ تربويٌّ. فالله عز وجل يتغافل عن الظالم بمعنى أنه يُمدّه بالمال والبنين والصحة ليمتحنه. هذا المعنى الأول، أي أنه ما كان لهذا الكافر أن يظهر على حقيقته، ما كان لهذا الكافر أن يُكشف معدنه إلا إذا شعر أن الله غافلٌ عنه. لو أن الله سبحانه وتعالى عاقب العباد على كل غلطةٍ بعقابٍ مباشرٍ وفوري، لما ظهر صدق الصادق ولما ظهر كذب الكاذب، ولما عصى إنسانٌ الله سبحانه وتعالى، لا يعصونه لا خوفًا ولا حبًا، ولكن ابتغاء السلامة من العقاب السريع.
ربنا سبحانه وتعالى يقول: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ (سورة الملك: 2)، ويقول: ﴿وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ﴾ (سورة المؤمنون: 30). علة الخلق هي الابتلاء، والابتلاء لا يكون إلا إذا ظننتَ أن الله غافلٌ عنك، مع أن الله ليس بغافلٍ عن أحد.
الكلمة التي سبقت من الله:
هناك جانب آخر يُلقي ضوءًا على حكمة الإمهال، وهو ما جاء في قوله تعالى: ﴿وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى﴾ (سورة طه: 129). أي كان لزامًا إهلاك العصاة، كان لزامًا إهلاك الكافرين، كان لزامًا تدمير المنحرفين على الفور.
فما هذه الكلمة التي سبقت من الله عز وجل؟ إنها أن الله سبحانه وتعالى خلقنا ليسعدنا. فمدير الثانوية الناجح الذي يتمتع بقلبٍ كبير وحرصٍ بالغٍ على مصلحة الطلاب، لا يتخذ قرارًا بفصل الطالب لأول سببٍ أو لأول ذنبٍ يرتكبه. ليس القصد فصله، القصد تهذيبه وتعليمه. لذلك يتأخر في إنزال العقوبة القانونية بالطالب المقصر، لأنه حريصٌ على مستقبله.
لو أن العبد ارتكب ذنبًا يستحق الهلاك، فأهلكه الله لمات كافرًا ولدخل النار إلى الأبد. ولكن هذه الكلمة؛ وهي أن الله سبحانه وتعالى خلق الخلق ليسعدهم، هذا الذي يُؤخر العقاب، وهذا الذي يجعل الكافر يتوهّم أن الله غافل. الله ليس بغافل، ما من شيءٍ، ما من حركةٍ، ما من سكنةٍ، ما من لفظٍ إلا والله سبحانه وتعالى عليه رقيبٌ وشهيد.
حينما يتوهم الإنسان أن الله غافلٌ يكون قد ارتكب حماقةً ما بعدها حماقة. حينما يظن الإنسان أن الله غافلٌ عن عمله يكون قد وقع في خطأٍ كبير. حينما يتوهّم الإنسان أن الله لن يحاسب أحدًا، ولن يعاقب أحدًا، لأنه يرى أن الله يعطي فلانًا صحةً ومالًا وجمالًا وذكاءً، وهو يزداد كفرًا وفسقًا وفجورًا، إياك أن تستنبط من هذا أن الله غافل، إياك أن تستنبط أن الله إذا أعطى الإنسان قوةً ومالًا وجمالًا وذكاءً هو غافلٌ عنه.
الله ليس بغافل: الرقابة الشاملة والعقاب الأليم
إنّ الله تعالى ليس بغافلٍ أبدًا، ولا تأخذه سنةٌ ولا نوم. إنّ غفلته عن أفعال الظالمين أمرٌ مستحيلٌ يتنافى مع كماله المطلق.
تأكيد الرقابة الإلهية:
يقول ربنا سبحانه وتعالى: ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾ (سورة الأنعام: 11). “ثم” هنا على التراخي، أي بعد حين من الإمهال. فهذا المكذب قد يُمدّه الله بالمال، والقوة، والذكاء، والجمال، ويزداد علوًا في الأرض، وينغمس في الملذات والشهوات. ولكن بعد حين تأتي البَطْشَةُ الكبرى، يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ﴾ (سورة البروج: 12). فمن البلاهة، والغباء، والحُمْقِ أن يتوهم الإنسان أن الله غافل.
القرآن الكريم مليءٌ بالآيات التي تُؤكد كمال علم الله وشمولية رقابته:
- ﴿لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ﴾ (سورة البقرة: 255).
- ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا﴾ (سورة الأحزاب: 52).
- ﴿وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ (سورة المجادلة: 6).
- ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾ (سورة غافر: 19).
- ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ (سورة ق: 16).
- ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ﴾ (سورة الأنفال: 24).
نفسك صفحةٌ مكشوفةٌ عند الله عزَّ وجل، لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء. إن الله يعلم دبيب النملة السوداء على الصخرة الصمّاء في الليلة الظلماء.
عاقبة الظلم:
إنّ هذه الآية: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ﴾ هي تحذير شديد لكل ظالم. إذا ظلمتَ إنسانًا، وظننتَ أن الله غافلٌ، فهذا هو محض الحُمْقِ. هذا الذي يظلم زوجته، يُرهقها بما لا تُطيق، يظلمها بالنفقة، يظلمها بالعمل، ويظن أن هذه الزوجة لا أحد من أقربائها يستطيع أن يُدافع عنها، فقد وقع في غَلَطٍ كبير. هذا الذي يظلم شارياً من دكانه، يبيعه بضاعةً فاسدة، يبيعه بضاعةً قد انتهى مفعولها، يوهِمه أنها من مصدرٍ وهي من مصدر آخر، ويظلمه بهذا، ويظن أن هذا ذكاء، وهذا بيعٌ وشراء، وهكذا التجارة، فهو في حمقٍ شديد، سيدفع الثمن غاليًا، سيكال له الصَّاعُ صاعين.
والقِصَصُ على هذه الآية لا تُعدُّ ولا تُحصى. وقد سمعنا عن إنسانٍ عَذَّبَ حيوانًا لسببٍ تافه، وبعد عشرين عامًا عُذِّبَ هذا الإنسان بالطريقة نفسها التي عَذَّبَ بها الحيوان. كيف مات هذا الحيوان على يديه كانت موتة هذا الإنسان على يد إنسان آخر بالطريقة نفسها.
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (عُذِّبَتْ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ حَبَسَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ جُوعًا، فَدَخَلَتْ فِيهَا النَّارَ، قَالَ: فَقَالَ: وَاللَّهُ أَعْلَمُ: لَا أَنْتِ أَطْعَمْتِهَا، وَلَا سَقَيْتِهَا حِينَ حَبَسْتِيهَا، وَلَا أَنْتِ أَرْسَلْتِهَا فَأَكَلَتْ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ) [البخاري]. لو أنك تلبَّستَ بظلم هِرَّةٍ فالله سبحانه وتعالى لا يغفل عنها، لا يغفل عن هذا الظلم.
لقد حرَّم الله الظلم على نفسه، وجعله مُحرَّمًا بين العباد: (يا عبادي، إني حرَّمت الظلم على نفسي، وجعلته محرمًا بينكم فلا تَظَّالموا) [مسلم عن أبي ذر]. ﴿وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا﴾ (سورة النساء: 77)، ﴿وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾ (سورة الأنبياء: 47)، ﴿فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ (سورة الروم: 9). مستحيل أن يظلمهم الله عزَّ وجل، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون.
كل دابة هي في قبضة الله، لا يُفلتها أحد: ﴿فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ (سورة هود: 55-56). إذاً، هناك من يتوهم أن الله غافلٌ عما يفعل الإنسان، هذا هو الظن الخاطئ الذي يجب أن يُصحح. في بيعك، وشرائك، في بيتك، في طريقك، في أية حركة، في أية سكنة، في أية علاقة، في أية معاملة، إياك أن تظن أن الله غافلٌ.
اليوم الموعود: يوم تشخص فيه الأبصار
يكمل الله تعالى الآية الكريمة ليُبين ميعاد العقاب الأليم: ﴿إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ﴾ (سورة إبراهيم: 42). هذا هو اليوم الموعود، يوم الحساب، يوم الدينونة، يوم تُدان النفوس فيه بما كسبت.
مشاهد يوم القيامة:
شخوص البصر كناية عن شدة الخوف والفزع. فالأبصار لا تغمض ولا تطرف من هول ما ترى في ذلك اليوم، وترتفع وتزول عن أماكنها لشدة ما تُشاهده من أهوال. هذا اليوم يزلزل الأقدام والقلوب: ﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4) تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ﴾ (سورة الغاشية: 1-6).
في هذا اليوم، تُختم على الأفواه وتتكلم الأيدي وتشهد الأرجل بما كانوا يكسبون: ﴿الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ (سورة يس: 65). وحينها يتمنى الظالم العودة إلى الدنيا ليُصلح ما أفسده، ولكن هيهات: ﴿قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمٍ يُبْعَثُونَ﴾ (سورة المؤمنون: 99-100). يوم تُلفح وجوههم النار وهم فيها كالِحون (شديدو العبوس من شدة العذاب): ﴿تَلْفَحُ وُجُوهَهُمْ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104) أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105) قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ﴾ (سورة المؤمنون: 104-108).
تفسير “تشخص فيه الأبصار”:
“شخوص البصر” يعني ارتفاعه كنظر المبهوت الخائف. فالأبصار ترتفع وتطمح من هول ما ترى. قال ابن عباس: “تشخص أبصار الخلائق يومئذ إلى الهواء لشدة الحيرة فلا يرمضون (لا يغمضون)”. الإهطاع هو إسراع المشي مع مد العنق كالمتختل، وهي هيئة الخائف. وإقناع الرأس هو طأطأته من الذل. والجملة: “لا يرتد إليهم طرفهم” تعني أن أبصارهم لا ترجع إلى حالتها المعتادة، أي لا يستطيعون تحويلها أو إغماضها من شدة الهول. وقوله: “وأفئدتهم هواء” تشبيه بليغ، إذ هي كالهواء في الخلو من الإدراك لشدة الهول، والهواء في كلام العرب هو الخلاء، أي قلوبهم خالية من كل إدراك وعقل بسبب الفزع الشديد.
الرسالة المحورية للآية: تسليةٌ للمظلوم وتهديدٌ للظالم
هذه الآية الكريمة، ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ﴾، تُعدّ وعيدًا شديدًا للظالمين، وتسليةً عظيمةً للمظلومين.
تسلية للنبي والمؤمنين:
الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنون لا يحسبون الله غافلًا عما يعمل الظالمون. ولكن ظاهر الأمر قد يبدو هكذا لبعض من يرون الظالمين يتمتعون، ويسمعون بوعيد الله، ثم لا يرونه واقعًا بهم في هذه الحياة الدنيا. فهذه الصيغة تكشف عن الأجل المضروب لأخذهم الأخذة الأخيرة التي لا إمهال بعدها ولا فكاك منها.
يقول الإمام القرطبي: “هذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم بعد أن أعجبه من أفعال المشركين ومخالفتهم دين إبراهيم، أي: اصبر كما صبر إبراهيم، وأعلم المشركين أن تأخير العذاب ليس للرضا بأفعالهم، بل سنة الله إمهال العصاة مدة”. وقال ميمون بن مهران: “هذا وعيد للظالم، وتعزية للمظلوم”.
الخطاب في “ولا تحسبن” يجوز أن يكون للنبي صلى الله عليه وسلم لقصد زيادة تثبيته على الحق ودوامه على ذلك، ويجوز أن يكون لكل من يصلح للخطاب، فيدخل فيه المؤمنون جميعًا.
تهديد للظالمين:
الغفلة، وهي سهو يعتري الإنسان بسبب قلة تيقظه وانتباهه، محال في حق الله تعالى. لذا وجب حمل المعنى على أن المراد بالغفلة هنا: ترك عقاب المجرمين. والآية تُؤكد أن الله لن يترك عقابهم، وإنما يؤخره ليوم هائل شديد، هو يوم القيامة.
المراد بالظلم هنا يشمل الظلم فيما بين العبد وربه (كفر وشرك)، وظلمه لعباد الله (مثل الاعتداء عليهم أو حرمانهم حقوقهم). فالله غير غافل عن ذلك كله. ولذلك قال سفيان بن عيينة: “هي تسلية للمظلوم وتهديد للظالم”.
سبب نزول الآية:
يُذكر المفسرون أن سبب نزول الآية هو أنّ المؤمنين كانوا مُستضعفين في بداية الدعوة، فكانوا يتزعزعون في بعض الأحيان. فقد كانوا يقولون: “إن صاحبكم يعدنا بفتح بلاد الروم وكسرى، ونحن لا نأمن على أنفسنا دخول الخلاء”. وكان هذا في غزوة الخندق التي مرت على المسلمين بأوقات عصيبة. ثم أتى نصر الله من حيث لا يحتسبون. هذه الآية جاءت لتُثبت قلوبهم وتُطمئنهم بأنّ الله عالمٌ بكل ما يحدث، وأنّ العدل سيتحقق ولو بعد حين.
عموم الآية وشموليتها
عطفٌ على الجمل السابقة، وله اتصال بجملة: ﴿قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ﴾ (إبراهيم: 30)، الذي هو وعيد للمشركين، وإنذار لهم بأن لا يغتروا بسلامتهم وأمنهم؛ تنبيهًا لهم على أن ذلك متاع قليل زائل. فأكّد ذلك الوعيد بهذه الآية، مع إدماج تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم على ما يتطاولون به من النعمة والدعة، كما دل عليه التفريع في قوله: ﴿فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ﴾ (إبراهيم: 47). وفي معنى الآية قوله: ﴿وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا﴾ (المزمل: 11).
وباعتبار ما فيه من زيادة معنى التسلية وما انضم إليه من وصف فظاعة حال المشركين يوم الحشر، حَسُن اقتران هذه الجملة بالعاطف ولم تُفصل. صيغة “لا تحسبن” ظاهرها نهي عن حسبان ذلك، وهذا النهي كناية عن إثبات وتحقيق ضد المنهي عنه في المقام الذي من شأنه أن يُثير للناس ظن وقوع المنهي عنه لقوة الأسباب المثيرة لذلك. وذلك أن إمهالهم وتأخير عقوبتهم يُشبه حالة الغافل عن أعمالهم. أي: تحقق أن الله ليس بغافل، وهو كناية ثانية عن لازم عدم الغفلة وهو المؤاخذة، فهو كناية بمرتبتين. ذلك؛ لأن النهي عن الشيء يؤذن بأن المنهي عنه بحيث يتلبس به المخاطب، فنهيه عنه تحذير من التلبس به بقطع النظر عن تقدير تلبس المخاطب بذلك الحسبان. وعلى هذا الاستعمال جاءت الآية سواء جعلنا الخطاب لكل من يصح أن يخاطب فيدخل فيه النبي صلى الله عليه وسلم أم جعلناه للنبي ابتداءً ويدخل فيه أمته.
نفي الغفلة عن الله ليس جاريًا على صريح معناه؛ لأن ذلك لا يظنه مؤمن، بل هو كناية عن النهي عن استعجال العذاب للظالمين، ومنه جاء معنى التسلية للرسول صلى الله عليه وسلم. والغفلة هي الذهول، وقد تقدم في قوله تعالى: ﴿وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ﴾ في سورة الأنعام.
الظلم وأشكاله في ضوء الآية الكريمة
المراد بالظلم هنا: الشرك؛ لأنه ظلم للنفس بإيقاعها في سبب العذاب المؤلم، وظلم لله بالاعتداء على ما يجب له من الاعتراف بالوحدانية. ويشمل ذلك ما كان من الظلم دون الشرك، مثل ظلم الناس بالاعتداء عليهم أو حرمانهم حقوقهم. فإن الله غير غافل عن ذلك، ولذلك قال سفيان بن عيينة: “هي تسلية للمظلوم وتهديد للظالم”.
“الأبصار” هنا للعموم، أي: تشخص فيه أبصار الناس من هول ما يرون، ومن جملة ذلك مشاهدة هول أحوال الظالمين. الإهطاع: إسراع المشي مع مد العنق كالمتختل، وهي هيئة الخائف. وإقناع الرأس: طأطأته من الذل، وهو مشتق من قنع إذا تذلل. “مهطعين مقنعي رؤوسهم” حالان.
جملة: “لا يرتد إليهم طرفهم” في موضع الحال أيضًا، والطرف: تحرك جفن العين. ومعنى “لا يرتد إليهم” لا يرجع إليهم، أي: لا يعود إلى معتاده، أي: لا يستطيعون تحويله. فهو كناية عن هول ما شاهدوه بحيث يبقون ناظرين إليه لا تطرف أعينهم. وقوله: “وأفئدتهم هواء” تشبيه بليغ، إذ هي كالهواء في الخلو من الإدراك لشدة الهول، والهواء في كلام العرب هو الخلاء، وليس هو المعنى المصطلح عليه في علم الطب وعلم الهيئة.
خاتمة: اليقين الإلهي ووجوب الحذر من الظلم
إنّ هذه الآية الكريمة: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ﴾ (إبراهيم: 42)، تُعدّ من الآيات الجامعة التي تُثبّت القلوب، وتُطمئن النفوس، وتُحذّر من مغبة الظلم. إنها رسالة واضحة بأنّ العدل الإلهي حتمي، وأنّ حساب الله قادم لا محالة، وأنّ إمهال الظالم لا يعني إهماله.
يجب على كل مسلم أن يضع يوم الحساب نصب عينيه قبل أن يشخص بصره فيه. إنّ الله تعالى لم ينزل آياته عبثًا، بل جعل منها رحمة على قلب محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتباعه. إنّ الإيمان بهذه الآية، وتدبر معانيها، يدفع المؤمن إلى الاستقامة، والابتعاد عن الظلم بجميع أشكاله، سواء كان ظلمًا للنفس بالمعصية، أو ظلمًا للخلق بالاعتداء على حقوقهم.
فما دام الله ليس بغافل عن أصغر الأمور وأدقها، فكيف يغفل عن ظلم العباد بعضهم لبعض؟ هذا اليقين يدفع المظلوم إلى الصبر والاحتساب، ويدفع الظالم إلى التوبة والندم قبل فوات الأوان. فالعاقبة دائمًا للمتقين، والنصر دائمًا لمن اتقى الله واجتنب الظلم.







