الإمام البيحاني.. إمام علماء اليمن في القرن العشرين

ثابت الاحمدي
تكمنُ عظمة الأنهار الكبرى في ملمحين مهمين: غزارة المنبع وبُعد المصب، وبين المنبع والمصب تلازم وثيق، فكلما كان الأول غزيرًا متدفقا كان الآخر بعيدا غدقا؛ كذلك الشأنُ في حياة بعض الناس الذين يمثلون أنهُرًا من عطاء، وفيوضا من كرم، فيروون في أمتهم ظمأ اليباس في مواسم الجدب، ويشعلون في شعوبهم جذوة الحياة بعد طول موات. وهذه بلدي اليمن الولادة بالعظماء في كل زمان ومكان، التي قال عنها البردوني:
لكنها رغم بخل الغيثِ ما برحت
حبلى وفي بطنها قحطان أو كربُ
نتوقفُ في هذه الطيافة مع نهرٍ عظيمٍ من أنهر اليمن المتدفقة بالعلم، المكتنزة بالأدب، الغنية بالفكر، المطرزة بالشعر، شيخ العلماء الإمام محمد بن سالم بن حسين بن خميس بن أحمد الكدادي الكندي البيحاني، المولود في أغسطس 1908م، في مدينة بيحان، محافظة شبوة.
كفّ بصره وهو في الخامسة من عمره، فكانت فرصته الكبيرة لأن يتجه إلى ما لا يتجه إليه المبصرون عادة من الاهتمام بالرعي والزراعة والكر والفر مع رجال القبيلة، اتجه إلى العلم، برعاية والده الرجل الصالح والفقيه الزاهد سالم الكدادي الذي اعتنى به عناية خاصة، فعلمه مبادئ القراءة على يده، ثم بعثه بصحبة شقيقه عبدالإله، وأخيه لأمه عبدالله إلى حضرموت، وهو في سن الثامنة، حيث حلقات العلم المتنوعة التي التحق بها صغيرا، مقتربا من علمائها وشيوخها الأفاضل، ومنهم شيخه عبدالله بن عمر الشاطري الذي لمح فيه علامات النبوغ والذكاء فقربه منه كثيرا، واعتنى به أكثر، وقد حدس فيه النبوغ والتميز، وكان يقول له: أريدك أن تكونَ مفتي الجزيرة العربية، فحفظ ذلك الطفل اليافع متن الزبد لابن رسلان، وألفية ابن مالك والرحبية في الفرائض، وغيرها من المتون العلمية الشرعية واللغوية، ولم يعد منها إلا بعد سنتين، وقيل خمس سنوات إلى بيحان مسقط رأسه إلا وقد حذق مبادئ العلوم وبرع فيها، فاشتغل مدرسا لأقرانه اليافعين والشباب في بيحان.
وقد أعجب به والده أكثر، ومن ثم أرسله إلى عدن في العام 1928م، وفي عدن التحق بحلقة الشيخ أحمد محمد العبادي، إمام جامع “زكو” في الشيخ عثمان، وهي الحلقة التي التحق بها كثير من علماء اليمن ورجالها الكبار شمالا وجنوبا، وتخرجوا منها، ببركة هذا الشيخ الجليل الذي أخذ عنه علوم القرآن الكريم وعلوم اللغة والمنطق والبيان.
في العام 1929م ساهم مع كوكبة من رجال الإصلاح الديني والثقافي في تأسيس نادي الإصلاح العربي الإسلامي في عدن الذي تأسس ضمن عدة أندية ثقافية وفكرية ورياضية كثيرة في عدن خلال هذه الفترة، من أبرزهم شيخه أحمد محمد العبادي، وكان لهذا النادي اهتمامات محلية وعربية، وخاصة اهتمامه بالقضية الفلسطينية بدرجة رئيسية، في مرحلة لاحقة.
غادر عدن في العام 1938م إلى القاهرة للدراسة في الأزهر، ضمن مبتعثي نادي الإصلاح العربي الإسلامي الذي ساهم في تأسيسه سابقا، فنال الشهادتين: الأهلية والعالِمية خلال ثلاث سنوات.
وفي القاهرة التقى إخوانه الأستاذ أحمد محمد نعمان والأستاذ محمد محمود الزبيري وباحميش الذين أسسوا في سبتمبر من العام 1940م كتيبة الشباب اليمني، مع آخرين من رفاقهم اليمنيين شمالا وجنوبا، وكانت هذه الكتيبة محطة من محاط النضال اليمني، وأصدروا هناك جريدة “اليمن الخضراء”.
لم نعثر على تاريخ محدد لعودته إلى عدن، لكن ذلك على الأرجح في العام 42 أو 1943م، وفي السنة الأخيرة أسند إليه الإفتاء في عدن، وخلال هذه الفترة نشط في عدة محافل ثقافية وإصلاحية في عدن، تكللت بمشاركته في تأسيس الجمعية الإسلامية نهاية عقد الأربعينيات، وبداية الخمسينيات، ومعه كل من: الشيخ محمد عبدالله المحامي، والشيخ علي محمد باحميش، والشيخ عي بازرعة، والشيخ سالم الصّافي، والشيخ عبدالله بن صالح المحضار، والشيخ محمد علي الجفري والأستاذ عبدالرحمن جرجرة والأستاذ عمر طرموم. وقد التقى كثيرا من رجالات الإصلاح الفكري والثقافي سواء من عدن أم من خارج عدن، بل من خارج اليمن الذين زاروه إلى عدن. ومنهم: الزبيري ونعمان بعد عودتهما من القاهرة، وفرارهما من بطش الإمام يحيى في صنعاء والسيف أحمد في تعز، ومعها كثير من رفاقهما المناضلين الأحرار، كالموشكي والفسيل والفضول ودماج وغيرهم. وسافر إلى عدة بلدان خارج اليمن.
وفيما بين العام 1949م استقر في حي كريتر، فعمل على تجديد جامع الإمام العسقلاني، وتولى فيه الإمامة والخطابة حتى العام 1969م، وأقام فيه الحلقات العلمية المتنوعة في القرآن وعلومه والفقه وعلوم اللغة، ورأس خلال هذه الفترة الجمعية الإسلامية للتربية والتعليم التي أسست المعهد الإسلامي لاحقا في العام 1957م، على نفقة المحسنين من أهل الخير في الداخل والخارج، والذي تم افتتاحه رسميا في 25 سبتمبر 1957م، والتحق به في العام الأول 700 طالب، و23 مدرسا من مناطق متفرقة.
وظل هذا المعهد الإسلامي مقترنا باسم البيحاني منارة علم يؤمها المريدون من كل مكان حتى صادرته السلطات اليسارية المتطرفة بعد قيام ثورة أكتوبر 63م، وصادرت مرافقه ومكتبته الخاصة التي تزيد عن خمسة آلاف كتاب؛ بل تذكر بعض الأخبار أنه تم حرقها، وحولته إلى مقر لوزارة الداخلية، وكان هذا الفعل محل استنكار شعبي كبير، مثل صدمة كبير للعالم الجليل المؤسس الذي حزن لذلك كثيرا، وقد رأى بعضا من جهوده تتبدد أمام ناظريه.
كتب عنه أبو الأحرار محمد محمود الزبيري، قائلا: “عرفتُ صاحب الفضيلة الأستاذ محمد سالم البيحاني في مصر، وسمعتُ به في اليمن، وصحبته في عدن؛ وعهدته في مصر رائدًا من رواد العلم البارزين، وسمعته هنالك في الأندية والمحافل متكلمًا لبقًا، وخطيبًا لسنًا، ومحاضرًا بارعًا. لا أقول إنه كان في صف المثقفين من شباب العرب؛ بل أعتقد أنه كان من أرفعهم رأسًا وأبعدهم صوتًا..”.
لقد كان الإمام البيحاني من رواد التربية والتعليم في اليمن، نادى بالإصلاح التربوي، وخاصة تعليم البنات، وله أرجوزة شعرية مطولة في ذلك تزيد عن خمسمئة بيت.
وبين صخب هذه الحياة وضجيجها، ورغم ظروفه الاستثنائية وشحة موارده وتعرضه للمضايقات لم يغادر هذه الحياة إلا وقد أثرى المكتبة اليمنية بعدة مؤلفات، في أكثر من مجال، لا تزال فوائدها عميمة إلى اليوم.
لم يطق الشيخ البيحاني البقاء في عدن، إبان الصراع المتطرف نهاية ستينيات القرن الماضي، فغادرها إلى تعز، وهناك استقبله رجل الخير والإحسان، وصديقه الكبير شيخ المحسنين هائل سعيد أنعم وأكرم وفادته، ببناء مسكن خاص به، وتعيين راتب له، حتى توفي رحمه الله في فبراير 1972م، ولا يزال في أوج عطائه، بعد رحلة علمية وتربوية كبيرة، مثل فيها امتدادًا شوكانيا جديدا متجددا، وهناك دفن بجوار جامع المظفر.
د. ثابت الأحمدي