اللهم انى اعوذ بك من زوال نعمتك .. وقفات إيمانية مهمة

يكشف هذا المقال بعمق عن جوهر دعاء نبوي عظيم اللهم انى اعوذ بك من زوال نعمتك ، والذي يلتمس فيه النبي صلى الله عليه وسلم الحماية من زوال النعم، وتحول العافية، ومفاجأة النقمة، وشمول السخط الإلهي. يتناول المقال أهمية هذا الدعاء في حياة المسلم، ويسلط الضوء على الآثار المدمرة لفقدان النعم والعافية، والمخاطر الكامنة في النقمة المفاجئة وسخط الله. كما يقدم المقال رؤى قيمة حول كيفية الحفاظ على النعم وشكرها، وأهمية الاستعاذة بالله في كل الأحوال.
إن من الحقائق الراسخة التي أجمع عليها العلماء وأرباب السلوك، الأثر البالغ للذنوب والمعاصي. فهي لا محالة تترك بصماتها السلبية وعقوباتها الوخيمة على جوانب حياة العاصي كافة؛ قلبه وبدنه، دينه وعقله، دنياه وآخرته. وفي خضم هذه الحقيقة، يبرز لنا دعاء نبوي جليل، يحمل في طياته معاني عميقة ووقاية من شرور قد تحيق بالإنسان دون سابق إنذار.
اللهم انى اعوذ بك من زوال نعمتك
في لحظة خشوع وتضرع، رفع النبي صلى الله عليه وسلم أكف الضراعة إلى ربه، ولم يسأله متاعًا زائلًا أو جاهًا عابرًا. لم يطلب مالًا ولا سلطانًا، ولا بيتًا فخمًا ولا ولدًا. بل تجاوز كل زخارف الدنيا الفانية، وسأل الله عز وجل وقاية من أربعة أمور عظيمة، وردت في قوله صلى الله عليه وسلم: «اللهم إني اعوذ بك من زوال نعمتك، وفجاءة نقمتك، وتحول عافيتك، وجميع سخطك» (رواه مسلم).
فكأن لسان حاله صلى الله عليه وسلم عندما يدعو بدعاء اللهم انى اعوذ بك من زوال نعمتك، وكأنه يقول: يا رب، أنت المنعم المتفضل، الذي أغدقت عليّ من نعمك ما لا يحصى. فإني أستجير بك من فقدان هذه النعم. وهبتني الإيمان، فأعوذ بك من أن أُسلبَه. منحتني العقل، فألوذ بك من أن تُحرمني إياه. رزقتني القوة والصحة، فأستعيذ بك من سلبهما. وأنعمت عليّ بالسمع والبصر، والمال والولد والخيرات، فإني أعتصم بك من زوالها.
إنها لحقيقة مؤلمة، كم من أفراد كانوا ينعمون برغد العيش، فتبدلت أحوالهم وأصبحوا في عوز. وكم من أناس كانوا في خير وسعة، فانتُزع منهم ذلك الخير فجأة. وكما قيل:
رب قوم قد غدوا في نعمة | زمنا والدهر ريان غدق |
---|---|
سكت الدهـــر زمانا عنهم | ثم أبكاهم دما حين نطق |
صور من زوال النعم
لتتجلى لنا عظمة هذا الدعاء، لننظر حولنا في صالات المستشفيات، ونسأل نزلاءها من ذوي الإعاقات: كيف كانت حياتكم قبل هذا؟ وما الذي ألمّ بكم؟ فربما يجيب أحدهم بقلب دامع: كنت في أوج عافيتي، وبينما كنت أنزل الدرج ذات يوم، زلت قدمي وسقطت، فكان ارتطامي بظهري سببًا في قطع الحبل الشوكي، ومنذ ذلك الحين وأنا أسير على كرسي متحرك.
وآخر، كان يتمتع بصحة وافرة وحال طيب، فإذا به يشعر بصداع عابر، وما أن زار الطبيب حتى فوجئ بتشخيص ورم في الدماغ، أو مرض عضال آخر، فتبدلت حياته إلى هم وغم وضيق. نعوذ بالله من زوال نعمته.
عندما تخرج من منزلك، وتركب سيارتك، وتغلق بابها بيدك، تذكر أن هناك من يرقد على فراشه عاجزًا عن الخروج أبدًا. وهناك من إذا خرج، احتاج إلى من يحمله ويضعه في السيارة. فإذا فعلت ذلك بفضل الله وقدرته، فقل: يا رب، أعوذ بك من زوال هذه النعمة.
وحين تعود من عملك، وتدخل بيتك فترى زوجتك وأولادك، هذا يلعب، وذاك يأكل، وثالث يدرس، فقل: يا رب، أعوذ بك من زوال نعمتك. فكم من إنسان حُرم هذه النعم أو سُلبت منه بعد أن أُعطيها.
وإذا عدت فوجدت زوجتك قد أعدت لك طعامك، ونظفت بيتك، ورتبت شؤونك، فقل: يا رب، أعوذ بك من زوال نعمتك. فكم من رجل يعاني من خلافات مع زوجته، فتركت البيت وذهبت إلى أهلها.
وحين يوضع الطعام بين يديك، فترفعه وتضعه في فمك، فقل: يا رب، أعوذ بك من زوال نعمتك. فهناك من يُغذى عبر أنبوب يُدخل في أنفه أو فمه.
وهكذا، فإن نعم الله علينا لا تُحصى ولا تُعد. فكلما رأيت نعمة ظاهرة أو باطنة، فاستعذ بالله من زوالها.
“وفجاءة نقمتك…”
أي ألوذ بك يا رب من أن تفاجئني بنقمة، بمصيبة أو بلية تحلّ عليّ بغتة، دون توقع أو استعداد. فالمصيبة إذا نزلت فجأة، ربما ذهلت لها العقول، ووجلت لها القلوب، ولم يقوَ صاحبها على الصبر إلا برحمة من الله. وقد مر النبي صلى الله عليه وسلم بامرأة تبكي عند قبر، فقال لها: «اتقي الله واصبري». فقالت: إليك عني فإنك لم تصب بمصيبتي. فلما أُخبرت أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أتت إليه معتذرة وقائلة: لم أعرفك. فقال: «إنما الصبر عند الصدمة الأولى».
تأمل قصة الرجل الذي فقد عشرة من أبنائه وزوجته في لحظة واحدة، إثر حادث سير مروع. عاد إلى بيته ليجد ألعابهم مبعثرة، ودراجاتهم ملقاة، وبقايا طعامهم على المائدة. يجلس ويشم رائحتهم علّه يجد أثرًا لهم. إنه لفقد جلل، ومصاب عظيم. اللهم إنا نعوذ بك من فجاءة نقمتك.
كم من إنسان كان يعيش في أمن وسعادة، مطمئنًا في بيته، معافى في بدنه، يغدق الله عليه النعم، فإذا بزلزال أو فيضان يهدم بيته ويجعله وأسرته في العراء.
وكم من صاحب مال وثروة كان ينعم برغد العيش، فإذا بجائحة أو أزمة اقتصادية تجتاح ماله وتذهب بكل ما يملك، فيتحول غناه إلى فقر، وعزه إلى ذل، ويضطر إلى مد يده للناس. نعوذ بالله من فجاءة نقمته.
“وتحول عافيتك…”
ثم استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من تحول العافية، أي تغيرها وانتقالها من حال إلى حال. والمقصود: أعتوذ بك يا رب من أن تتحول عني عافيتك، فأنت عافيتني في بدني، وفي سمعي وبصري، وفي عرضي ومالي وأهلي، وقبل كل ذلك عافيتني في ديني الذي هو أسمى وأجل. فأعوذ بك من أن تُنزع عني هذه العافية، أو أن تُكشف أستاري، أو أن تُرفع عني هداك.
وقد ورد في الحديث الصحيح: «سَلُوا اللهَ العَفْوَ والعَافِيَةَ في الدنيا والآخِرَةَ، فإِذَا أُعْطِيتُمُ العافيةَ في الدنيا والآخرةِ فقد أفلحْتُم». بل كان صلى الله عليه وسلم لا يدع سؤال العافية في ليل أو نهار، وكان يقول: «اللهم إني أسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة، اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي، اللهم استر عوراتي، وآمن روعاتي، واحفظني من بين يدي ومن خلفي، وعن يميني وعن شمالي ومن فوقي، وأعوذ بك أن أغتال من تحتي».
“وجميع سخطك…”
أي أستعيذ بك يا رب من كل ما يوجب غضبك ويذهب عني رضاك. وكما دعا بذلك النبي صلى الله عليه وسلم عند عودته من الطائف: «أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن يحل علي غضبك، أو أن ينزل بي سخطك». سواء كان سخطًا في مالي فأفتقر، أو في ديني فأضل، أو في عرضي فأنفضح.
فإني ألتجئ إليك وأعتصم بك وأتوسل إليك أن تعيذني من جميع الأسباب الموجبة لسخطك، والجالبة لغضبك جل شأنك، لأن من سخطت عليه فقد خاب وخسر، قال تعالى: {وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى}.
من بستان النبوة: اللهم انى اعوذ بك من زوال نعمتك
يسال البعض عن صحة حديث اللهم انى اعوذ بك من زوال نعمتك ، والحديث صحيح أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: كان من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ وَفُجَاءَةِ نِقْمَتِكَ وَجَمِيعِ سَخَطِكَ». هيا بنا أيها الأحبة ندخل إلى بستان الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم، نقطف منه زهرة ونستنشق عبير عطره. هيا بنا نرعي أسماعنا لمن آتاه الله تعالى جوامع الكلم، صلى عليه ربنا وسلم ما استقبلت أودية غيث السما. كان من دعائه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: «اللَّهُمَّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ».
الاستعاذة من زوال النعم: حفظها بالشكر والطاعة
قال المناوي رحمه الله في “فيض القدير”: “(اللهم إني اعوذ بك من زوال نعمتك) أي ذهابها، ويعم النعم الظاهرة والباطنة، والاستعاذة من زوال النعم، تتضمن الحفظ عن الوقوع في المعاصي؛ لأنها تزيلها”. فالنعمة إذا شُكرت قرّت، وإذا كُفرت فرّت. قال الله عز وجل: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7]. فما حفظ الله على عبده النعم إلا بالطاعة والشكر، وما زالت النعم إلا بكثرة الذنوب والخطايا. قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30]. وقال تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: 79]. وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ} [آل عمران: 155].
ويقول ابن القيم رحمه الله عند تفسير قوله تعالى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} [الرعد: 11]: “إن الله لا يغير ما بقوم من الكروب حتى يغيروا ما بأنفسهم من الذنوب، فلا يكون التغير إلا بعد التغيير، فبظلمنا وذنوبنا صبت علينا المظالم، وهكذا ينتقم الله من الظالم بالظالم”. وقال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30]. قال أبو حاتم: بلغني أن الحسن البصري قال لما نزلت هذه الآية: “قال رسول الله والذي نفس محمد بيده ما من خدش عود ولا اختلاج عرق ولا عثرة قدم إلا بذنب، وما يعفو عنه كان أكثر”.
خطايا بني ادم سبب لظهور الفساد
لقد ظهر الفساد في البر والبحر من خطايا بني آدم، فاقشعرت الأرض، وأظلمت السماء، وذهبت البركات وقلت الخيرات. وهزلت الوحوش وتكدرت الحياة من فسق الظلمة، وبكى ضوء النهار وظلمة الليل من الأعمال الخبيثة والأفعال الفظيعة. وشكى الكرام الكاتبون والمعقبات إلى ربهم من كثرة الفواحش وغلبة المنكرات والقبائح. وهذا والله منذر بسيل عذاب قد انعقد غمامه، ومؤذن بليل بلاء قد أدلهم ظلامه. فاعدلوا عن هذا السبيل بتوبة نصوح ما دامت التوبة ممكنة وبابها مفتوح. هذه سنة كونية سارية نافذة لا تتغير ولا تتبدل على مر العصور والأجيال، فقد يكون زوال النعم طوفانًا يغمر الناس، أو زلزالًا يزلزل الأرض، أو جفافًا أو أعاصير أو صواعق أو أمراضًا جسدية أو روحية، أو قلقًا وحروبًا أو تفرقًا وتمزقًا. {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت: 40].
إذا كنت في نعمة فارعها، فإن المعاصي تزيل النعم. وحطها بطاعة رب العباد، فرب العباد سريع النقم. والله تعالى يحفظ على عبده النعم ما سخرها في خدمة الناس. أخرج الطبراني بإسناد جيد وحسنه الألباني عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما من عبد أنعم الله عليه نعمة فأسبغها عليه إلا جعل إليه شيئًا من حوائج الناس، فإن تبرم بهم فقد عرض تلك النعمة للزوال”. وقال صلى الله عليه وسلم: “إن لله تعالى أقوامًا يختصهم بالنعم لمنافع العباد ويقرها فيهم ما بذلوها فإذا منعوها نزعها منهم فحولها إلى غيرهم”.

الاستعاذة من تحول العافية: أهنأ العطاء والكرم
يأتي الشطر الثاني من الحديث اللهم انى اعوذ بك من زوال نعمتك وتحول عافيتك ، وتحول عافيتك، وما أدراك ما العافية؟! إنها العيشة الرضية الهنية، والسعادة الأبدية، والراحة الروحانية. لا عيش أهنأ منها، ولا لباس أحسن من لباسها. إنها من أفضل النعم، وأهنأ العطاء والكرم. ومن أهميتها أن تنام على سؤالها وتستيقظ على سؤالها. في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر أنه أمر رجلًا إذا أخذ مضجعه قال: «اللَّهُمَّ خَلَقْتَ نَفْسِى وَأَنْتَ تَوَفَّاهَا لَكَ مَمَاتُهَا وَمَحْيَاهَا إِنْ أَحْيَيْتَهَا فَاحْفَظْهَا وَإِنْ أَمَتَّهَا فَاغْفِرْ لَهَا اللَّهُمَّ إِنِّى أَسْأَلُكَ الْعَافِيَةَ». وعندما تستيقظ تقول: «الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذي رَدَّ عَلَيّ رُوحِي، وَعافانِي في جَسَدِي، وأذِن لي بذِكْرِهِ».
في صحيح مسلم عن طارق بن أشيم رضي الله عنه قال: كان الرجل إذا أسلم علمه النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة فقال: يا رسول الله كيف أقول حين أسأل ربي؟ أمره أن يدعو بهذه الكلمات: «قُلِ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِى وَارْحَمْنِى وَعَافِنِى وَارْزُقْنِى». «فَإِنَّ هَؤُلاَءِ تَجْمَعُ لَكَ دُنْيَاكَ وَآخِرَتَكَ». العافية أحلى ما يملكه الإنسان ويهبه الرحمن. تذكر إخوانك على الأسرّة البيضاء، وتذكر إخوانك الموتى، وتذكر إخوانك الضعفاء، وتذكر الفقراء والمحتاجين، وتذكر أهل البلاء والمدينين، وتذكر من لا يجد طعامًا ولا لباسًا ولا أمنًا ولا كساء.
تذكر من هم في خوف وقلق وهم وغم وحرق. فلولا العافية لما شعرت بلذة محبوب، ولولا العافية لما طلبت كل شهي ومرغوب، ولولا العافية لتكدرت حالك وانشغل بالك، ولولا العافية لم يكن لك قرار وثبات واستقرار، ولولا العافية لم تتزوج وتطلب المال وترغب في الحياة والعيال، ولولا العافية لم يدم لك مطعم وشراب ولا ما تشتهي مما لذ وطاب. أخرج النسائي بسند صححه الألباني عن شتير بن شكل بن حميد عن أبيه قال: قلت يا رسول الله علمني دعاء أنتفع به. قال: «قُلِ اللَّهُمَّ عَافِنِى مِنْ شَرِّ سَمْعِى وَبَصَرِى وَلِسَانِى وَقَلْبِى وَمِنْ شَرِّ مَنِيِّى». يعني ذكره.
حكمة ال داؤد
ما طاب شيء إلا بالعافية. قال وهب بن منبه: “مكتوب في حكمة آل داود: العافية الملك الخفي”. نعم! العافية ملك خفي لا يعلم به إلا من فقده، فلا ينفع ملك ولا مال ولا ولد ولا جاه ولا عيال إذا فقدت. كان الحجاج -على ما فيه من صلف وتجبر- جوادًا كريمًا لا تخلو مائدته من آكل. حج الحجاج، فنزل بعض المياه بين مكة والمدينة، ودعا بالغداء، فقال لحاجبه: انظر من يتغذى معي. فنظر نحو الجبل؛ فإذا هو بأعرابي بين شملتين من شعر نائم، فضربه برجله وقال: ائت الأمير. فأتاه فقال له الحجاج: اغسل يديك وتغد معي. فقال: إنه دعاني من هو خير منك فأجبته. قال: ومن هو؟ قال: الله تبارك وتعالى دعاني إلى الصوم فصمت. قال: في هذا الجو الشديد؟ قال: نعم، صمت ليوم هو أشد حرًا من هذا اليوم. قال: فأفطر وتصوم غدًا. قال: إن ضمنت لي البقاء إلى غد. قال: ليس ذاك إلي! قال: فكيف تسألني عاجلًا بآجل لا تقدر عليه؟ قال: إنه طعام طيب. قال: لم تطيبه أنت ولا الطباخ، ولكن طيبته العافية. قال نبي الرحمة عليه الصلاة والسلام: “من أصبح منكم آمنًا في سربه معافى في جسده عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها”. وإذا تمت عليك العافية وسلمت -بإذن الله- من كل آفة، فإياك والشماتة واسأل الله لك ولكل مبتلى العافية. أخرج الترمذي بسند صححه الألباني عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “من رأى مبتلى فقال: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلًا، لم يصبه ذلك البلاء”.
رأيت البلاء كقطر السما *** ءِ وَما تُنبِتُ الأَرضُ من نامِيَه
فَلا تسألنَّ إِذا ما سَأَلـ *** ــتَ إِلهكَ شَيئاً سِوى العافِيَه
قال رجل لصاحبه وكانا ينظران إلى الدور والقصور فقال له: أين نحن حين قسمت هذه الأموال؟ وكان صاحبه أعقل منه وأحكم، فأخذ بيده وذهب به إلى المستشفى وقال له: أين نحن حين قسمت هذه الأمراض؟ فسكت الرجل وعلم أن العافية لا يساوي قدرها شيء، وكم من إنسان عنده من المتاع والقصور ولكن تنقصه العافية.

الاستعاذة من فجاءة النقمة: عقوبة بلا سابق إنذار
في مواصلتنا لشرح حديث اللهم انى اعوذ بك من زوال نعمتك نأتي على قوله: (وفجأة نقمتك): أي أعوذ بك من العقوبة والانتقام بالعذاب مباغتة، دون توقع وتحسب. وخُصَّ فجاءة النقمة بالاستعاذة؛ لأنها أشد وأصعب من أن تأتي تدريجيًا، بحيث لا تكون فرصة للتوبة.
إن فُجاءَةَ النِّقْمَةِ قَدْ حَوَّلَتْ أَتْقِياءَ إِلَى أَشْقِيَاءَ، وَمِنْ مُؤْمِنينَ إِلَى كَافِرينَ. فَها هُوَ جَبْلَةُ بْنُ الأَيْهَمِ، بَعْدَ مَا كَانَ تَقِيًّا، مِنْ رَعَايَا أَمِيرِ المُؤْمِنينَ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَمِنْ عُبَّادِ الرَّحْمَنِ، أَصْبَحَ شَقِيًّا مِنْ عُبَّادِ الصُّلْبَانِ. قَلِّبْ نَظَرَكَ أَخِي الْكَرِيمَ فِي وَفَيَاتِ عَالَمِ الْيَوْمِ؛ ترى وَفَيَاتٍ مُفَاجِئَةٌ، سَكَتَاتٌ قَلْبِيَّةٌ، وَجَلَطَاتٌ دِمَاغِيَّةٌ، وَذَبَحَاتٌ صَدْرِيَّةٌ. شباب ذهبوا بالسيارات عادوا جنائز. تَرَى الرَّجُلَ الشَّدِيدَ لَا يَشْكُو بَأْسًا وَلَا يَئِنُّ وَجَعًا، يَخْرُجُ مِنْ دَارِهِ فَلَا يَرْجِعُ. تَرَى الرَّجُلَ الْمُعَافَى يَنَامُ مِلْءَ الْجُفُونِ فَمَا يَسْتَيْقِظُ إِلَّا عَلَى نِدَاءِ مَلَكِ الْمَوْتِ يَدْعُوهُ لِلرَّحِيلِ. جَنَائِزُ وَجَنَائِزُ أَصْحَابُهَا مِنَ الشَّبَابِ الْأَصِحَّاءِ، وَلَيْسُوا مِنَ الشُّيُوخِ وَلَا مِنَ السُّقَمَاءِ. فهل نعتبر!
يَا نَائِمَ اللَّيْلِ مَسْرُورًا بِأَوَّلِهِ *** إِنَّ الْحَوَادِثَ قَدْ يَطْرُقْنَ أَسْحَارا
قصة المعتمد بن عباد
كَذَلِكَ حَدَّثَنَا التَّارِيخُ عَنْ مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ الأَنْدَلُسِ المُعْتَمِدُ بْنُ عَبَّادٍ رَحِمَهُ اللهُ، كَانَ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ دِينٍ، إِلَّا أَنَّهُ كَانَ مَلِكًا ظَالِمًا، وَقَدْ اعْتَرَفَ بِالظُّلْمِ الَّذِي وَقَعَ مِنْهُ، بَعْدَمَا أُسِرَ، وَزُجَّ بِهِ فِي السِّجْنِ. لَقَدْ نَزَعَ اللهُ مُلْكَهُ، وَصُودِرَتْ أَمْوَالُهُ، فَقَالَ فِي يَوْمِ عِيدٍ، حِينَمَا زَارَتْهُ بَنَاتُهُ لِيُسَلِّمْنَ عَلَيْهِ:
فِيمَا مَضَى كُنْتَ بالأعيادِ مَسْرُورَا | وَكَانَ عِيدُكَ باللذاتِ مَعْمُورَا |
---|---|
وَكنتَ تَحْسِبُ أنَّ العِيدَ مَسْعَدَةٌ | فَسَاءَكَ العِيدُ فِي أَغْمَاتَ مَأسوُرا |
تَرَى بَنَاتِكَ في الأطْمَارِ جَائِعَةً | فِي لِبْسِهنَّ رَأَيتَ الفَقْرَ مَسْطُورَا |
مَعَاشُهُنّ بُعَيدَ العِزِّ مُمْتَهَنٌ | يَغْزِلْنَ للِنَّاسِ لا يَمْلِكْنَ قِطْمِيرا |
بَرَزْنَ نَحْوكَ لِلتَّسْليِمِ خَاشِعَةً | عُيُونُهنَّ فَعَادَ القَلْبُ مَوْتُوَرا |
قَد أُغْمِضَت بَعدَ أَنْ كَانَت مُفَتَّرةً | أَبْصَارُهُن حَسِيرَاتٍ مَكَاسِيرَا |
يَطَأْنَ فِي الطِّينِ وَالأقْدَامُ حَافِيةً | تَشْكُو فِرَاقَ حِذاءٍ كَانَ مَوْفُورَا |
قَدْ لُوِّثتْ بيدِ الأَقْذاءِ واتَّسَخَتْ | كأَنّها لَمْ تَطأْ مِسْكاً وَكَافُورَا |
لا خَدَّ إلا وَيَشْكُو الجَّدْب ظَاهِرُه | وَقَبلُ كَانَ بَمَاءِ الوَرْدِ مَغْمُورَا |
لَكِّنهُ بِسيُولِ الحُزْنِ مُخْتَرَقٌ | وَلَيسَ إِلا مَعَ الأنْفَاسِ مَمْطُورَا |
أَفْطَرتَ فِي العيدِ لا عَادَتْ إِسَاءَتُهُ | وَلَسْتَ يَا عِيدُ مِنِّي الْيومَ مَعْذُورَا |
وَكُنتَ تَحْسِبُ أَنَّ الفِطْرَ مُبتَهَجٌ | فَعَادَ فِطْرُكَ لِلأكْبَادِ تَفْطِيرا |
قَدْ كَانَ دَهْرُكَ إنْ تَأْمُرهُ مُمْتَثِلاً | لِما أَمَــرْتَ وَكَانَ الفِعْلُ مَبْرورَا |
وَكمْ حَكَمْتَ عَلَى الأقوامِ فِي صَلَفٍ | فَرَدَّكَ الدَّهْرُ مَنْهيـــاً وَمَأمُورا |
مَنْ بَاتَ بَعْدكَ فِي مُلكٍ يُسَرّ بهِ | أَو بَاتَ يَهْنَأُ باللذاتِ مَسْرُورَا |
وَلَمْ تَعِظْهُ عَوَادِ الدَّهرِ إذْ وَقعَتْ | فَإِنَما بَاتَ فِي الأَحْلامِ مَغْرُورَا |
وَمِنَ الْأَدْعِيَةِ النَّافِعَةِ فِي دَفْعِ مُفَاجَأَةِ الْبَلَاءِ فِي النَّفْسِ وَالْوَلَدِ مَا جَاءَ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ بِسَنَدٍ صَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ قَالَ بِسْمِ اللَّهِ الَّذِي لَا يَضُرُّ مَعَ اسْمِهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لَمْ تُصِبْهُ فَجْأَةُ بَلَاءٍ حَتَّى يُصْبِحَ وَمَنْ قَالَهَا حِينَ يُصْبِحُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لَمْ تُصِبْهُ فَجْأَةُ بَلَاءٍ حَتَّى يُمْسِيَ». وَقَالَ فَأَصَابَ أَبَانَ بْنَ عُثْمَانَ الْفَالِجُ (شلل يصيب أحد شقي الجسم طولًا) فَجَعَلَ الرَّجُلُ الَّذِي سَمِعَ مِنْهُ الْحَدِيثَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ فَقَالَ لَهُ مَا لَكَ تَنْظُرُ إِلَيَّ فَوَاللَّهِ مَا كَذَبْتُ عَلَى عُثْمَانَ وَلَا كَذَبَ عُثْمَانُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنَّ الْيَوْمَ الَّذِي أَصَابَنِي فِيهِ مَا أَصَابَنِي غَضِبْتُ فَنَسِيتُ أَنْ أَقُولَهَا.
الاستعاذة من جميع سخط الله: أعظم الدعوات
مِنْ أَعْظَمِ الدَّعَوَاتِ، أَنْ يَسْتَعِيذَ الْعَبْدُ مِنْ جَمِيعِ سَخَطِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. مثل دعاء اللهم انى اعوذ بك من زوال نعمتك وتحول عافيتك, والاستعاذة من سخط الله وَأَعْظَمُ سَخَطِهِ أَنْ يَأْتِيَ الْعَبْدُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ. أَلَا إِنَّ مَنْ آثَرَ اللَّهَ وَاتَّقَاهُ، وَقَدَّمَ مَرْضَاتَهُ عَلَى هَوَاهُ، جَمَعَ اللَّهُ حَوْلَهُ الْقُلُوبَ، وَدَفَعَ عَنْهُ عَوَادِيَ الْخُطُوبِ، وَجَعَلَ لَهُ مِنْ عَدُوِّهِ نَصِيرًا، وَمِنْ مُنَاوِئِهِ ظَهِيرًا. أَلَا وَإِنَّ مَنْ بَاعَ دِينَهُ بِدُنْيَاهُ، وَخَشِيَ النَّاسَ وَلَمْ يَخْشَ اللَّهَ، هَتَكَ اللَّهُ سِتْرَهُ، وَنَكَسَ عَلَيْهِ أَمْرَهُ، وَصَرَفَ عَنْهُ قُلُوبَ الْعِبَادِ، وَلَمْ يُبَلِّغْهُ حَظًّا مِمَّا أَرَادَ. وَسُبْحَانَ مُقَلِّبِ الْقُلُوبِ وَالْأَبْصَارِ، يُصَرِّفُهَا كَيْفَ يَشَاءُ.
أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ فِي الزُّهْدِ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ قَالَ: كَتَبَ مُعَاوِيَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنِ اكْتُبِي لِي كِتَابًا تُوصِينِي فِيهِ وَلَا تُكْثِرِي عَلَيَّ، فَبَعَثَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا إِلَى مُعَاوِيَةَ: سَلَامُ اللَّهِ عَلَيْكَ أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنِ الْتَمَسَ رِضَا اللَّهِ بِسَخَطِ النَّاسِ كَفَاهُ اللَّهُ مَئُونَةَ النَّاسِ، وَمَنِ الْتَمَسَ رِضَا النَّاسِ بِسَخَطِ اللَّهِ وَكَلَهُ اللَّهُ إِلَى النَّاسِ». مِمَّا قَالَهُ ابْنُ الْقَيِّمِ عَنِ الْتِمَاسِ رِضَا اللَّهِ دُونَ سِوَاهُ: “وَإِذَا تَعَرَّفُوا إِلَى مُلُوكِهِمْ وَكُبَرَائِهِمْ وَتَقَرَّبُوا إِلَيْهِمْ لِيَنَالُوا بِهِمُ الْعِزَّةَ وَالرِّفْعَةَ فَتَعَرَّفْ أَنْتَ إِلَى اللَّهِ”. قَالَ ابْنُ رَجَبٍ عَنْ مُلْتَمِسِي رِضَا الْمَخْلُوقِينَ: “كَيْفَ يُقَدِّمُ طَاعَةَ مَنْ هُوَ تُرَابٌ عَلَى طَاعَةِ رَبِّ الْأَرْبَابِ؟ أَمْ كَيْفَ يُرْضِي التُّرَابَ بِسَخَطِ الْمَلِكِ الْوَهَّابِ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ”. رَوَى مُسْلِمٌ تَقُولُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: “فَقَدْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةً مِنْ الْفِرَاشِ فَالْتَمَسْتُهُ فَوَقَعَتْ يَدِي عَلَى بَطْنِ قَدَمَيْهِ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ وَهُمَا مَنْصُوبَتَانِ وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ، لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ، أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ”.
الخاتمة:
دعاء اللهم انى اعوذ بك من زوال نعمتك دعاء عظيم ،فَاللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ فَجْأَةِ نِقْمَتِكَ، وَجَمِيعِ سَخَطِكَ، اللَّهُمَّ احْمِ بِلَادَنَا وَسَائِرَ بِلَادِ الْإِسْلَامِ مِنَ الْفِتَنِ، وَالْمِحَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ. وَصَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ.
مواضيع ذات صلة: