ينابيع

تأسيس الولايات المتحدة الأمريكية بين الحرية والبارود

قصة الولايات المتحدة الأمريكية هي قصة ملحمية معقدة، نسجت خيوطها من حرير مبادئ الحرية والاستقلال، ولكنها صُبغت بلون الدماء الذي سال في أركان الكرة الأرضية. منذ لحظة ولادتها قبل ما يزيد قليلاً عن قرنين ونصف، شكّل التدخل العسكري الخارجي السمة الأبرز في هوية هذه الأمة الفتية. تشير التحليلات التاريخية إلى حقيقة مذهلة: فقد قضت البلاد ما يقارب 93% من عمرها، أي حوالي 236 سنة من أصل 254، في حالة من الحروب والصراعات المسلحة المباشرة أو غير المباشرة. هذه الرقم ليس مجرد إحصاء جاف، بل هو النافذة التي نطل منها لفهم فلسفة القوة التي حكمت السياسة الأمريكية، وتحولت بموجبها من مستعمرات طامحة للتحرر إلى قوة عظمى لا تتردد في شن أكثر من مائة حرب وتدخل عسكري عبر القارات، من جاراتها في الأمريكيتين إلى أقصى حدود آسيا، مرورًا بأوروبا والشرق الأوسط. هذه السطور ليست مجرد سرد للأحداث، بل هي رحلة في أغوار التاريخ لاستكشاف كيف بنت أمريكا أسطورتها وقوتها على أنقاض دول أخرى، وكيف شكلت هذه المسيرة الهوية الأمريكية والعالم كما نعرفه اليوم.


البدايات: التوسع القاري وتأسيس أسس القوة

لم تكن الولايات المتحدة لتصل إلى ما هي عليه اليوم لولا المراحل التأسيسية التي وضعت فيها أسس فكرها التوسعي. فبعد أن نالت استقلالها من التاج البريطاني، لم تكن ترى في نفسها مجرد دولة among others، بل كانت تؤمن بمصيرها المتجلي في التوسع غربًا، وهي العقيدة التي عُرفت بـ “المن Manifest Destiny”. هذه العقيدة، التي قدمت على أنها حق إلهي ورسالة حضارية، كانت في جوهرها الغطاء الأيديولوجي لسلسلة من العمليات العسكرية والضم التي شكلت الخريطة الأولى للقوة الأمريكية.

انتزاع الأراضي من الجار الجنوبي

كانت المكسيك أولى ضحايا هذا الحلم التوسعي. ففي منتصف القرن التاسع عشر، تحولت ولاية تكساس، التي كانت أرضًا مكسيكية، إلى ساحة للصراع. شجعت الولايات المتحدة المستوطنين الأمريكان على التوافد إليها، ثم دعمت تمردهم ضد الحكومة المكسيكية، لتنتهي الأمور بضم تكساس بشكل رسمي في عام 1846. لكن شهية التوسع لم تتوقف عند هذا الحد. فسرعان ما اندلعت الحرب الأمريكية المكسيكية (1846-1848)، التي انتهت بهزيمة ساحقة للمكسيك، وفرض معاهدة غوادالوبي هيدالغو التي تنازلت بموجبها المكسيك عن أراض شاسعة تشكل اليوم ولايات كاليفورنيا، ونيومكسيكو، وأريزونا، ونيفادا، وأجزاء من ولايات أخرى. لم تكن هذه مجرد صفقة عقارية، بل كانت عملية استيلاء بالقوة، وضعت اللبنة الأولى لإمبراطورية في الطريق.

السيطرة على البحر الكاريبي وأمريكا الوسطى: الفناء الخلفي

بالتوازي مع التوسع القاري، كانت عيون واشنطن تتجه جنوبًا، نحو جاراتها الأصغر في البحر الكاريبي وأمريكا الوسطى. هنا، لم تكن الحاجة إلى الأراضي هي الدافع، بل كانت الرغبة في الهيمنة الاقتصادية والسياسية وضمان أمن المنطقة التي تعتبرها “الفناء الخلفي” للولايات المتحدة. ففي عام 1854، قامت القوات الأمريكية بتدمير ميناء غراي تاون في نيكاراغوا انتقامًا لرفض الحكومة هناك قبول دبلوماسي أمريكي. كانت هذه الحادثة نموذجًا لسياسة “العصا الغليظة” التي اتبعتها واشنطن.

وتوالت التدخلات بوتيرة مذهلة: غزو أوروغواي وقناة بنما عام 1855، والتغلغل المتكرر في نيكاراغوا لدعم حكومات موالية أو إفشال خصوم، والتدخل في هايتي وتشيلي. ولكن ربما تكون كوبا هي النموذج الأبرز على هذه المرحلة. ففي عام 1898، حاصرت الولايات المتحدة الجزيرة تحت ذريعة “تحريرها” من الإسبان، لتنتهي الحرب بالسيطرة الأمريكية الفعلية على الجزيرة، والاستيلاء على خليج غوانتانامو، الذي تحول لاحقًا إلى أحد أكثر السجلات إثارة للجدل في التاريخ الحديث، حيث يحتجز فيه مئات من المشتبه بهم في إطار ما يسمى “الحرب على الإرهاب” في ظروف قاسية وغير إنسانية.

مطلع القرن العشرين: ولادة الشرطي العالمي

مع انطلاقة القرن العشرين، كانت الولايات المتحدة قد تجاوزت مرحلة التوسع الإقليمي المباشر إلى دور أكثر تعقيدًا: دور القوة العالمية التي تفرض إرادتها خارج حدودها القارية. كانت الحرب الأمريكية الإسبانية بمثابة الإعلان الرسمي عن هذه القوة الجديدة، وبدأت واشنطن في صياغة دورها كـ “شرطي” للعالم، وفقًا لرؤيتها هي.

الاحتلال المطول والسيطرة على المال

في هذه الفترة، تحولت التدخلات من عمليات عسكرية سريعة إلى احتلالات طويلة الأمد تهدف إلى إعادة هيكلة الدول وفق المصالح الأمريكية. ففي هايتي، قامت قوات المارينز بعملية إنزال جوي في عام 1914، وصولاً إلى احتلال كامل للبلاد في 1915، حيث بقيت القوات الأمريكية حتى عام 1934. خلال هذه الفترة، لم تكتفِ الإدارة الأمريكية بالسيطرة السياسية، بل ذهبت إلى حد “استرداد الديون” بطرق قسرية، بما في ذلك السطو على البنك المركزي الهايتي. نفس السيناريو تكرر في جمهورية الدومينيكان، حيث تدخلت القوات الأمريكية في عام 1916 لفرض حكومة عسكرية عميلة، استمرت حتى عام 1924.

التدخل في الشؤون الأوروبية والآسيوية

لم تعد أمريكا تتردد في إرسال قواتها إلى مسافات أبعد. فبعد تردد أولي، دخلت الولايات المتحدة الحرب العالمية الأولى (1917-1918)، مساهمة في تغيير مسارها ومؤكدة على مكانتها في الطاولة الدولية. كما أنها لم تتردد في التدخل في الشأن الروسي بعد الثورة البلشفية، حيث أرسلت قواتها بين عامي 1918 و1920 في محاولة فاشلة للتأثير على outcome الحرب الأهلية هناك. وفي الصين، كانت البوارج والجنود الأمريكيون حاضرين بشكل متكرر لحماية المصالح الاقتصادية وفرض الامتيازات الأجنبية، كما حدث في عام 1912 و1924.

من الحرب العالمية إلى الحرب الباردة: أمريكا والإمبراطورية غير المعلنة

شكلت الحرب العالمية الثانية منعطفًا حاسمًا. فخروج الولايات المتحدة منها كقوة عظمى لا منازع لها، مع تدمير اقتصادات منافسيها التقليديين، أطلق العنان لمرحلة جديدة من السياسة الخارجية، حيث أصبح التدخل وسيلة للحفاظ على نظام عالمي يخدم المصالح الأمريكية في مواجهة الخطر السوفيتي المتنامي.

القنبلة الذرية والعبور إلى عصر جديد

لا يمكن الحديث عن هذه الفترة دون التوقف عند القرار الأكثر إثارة للجدل في التاريخ العسكري الأمريكي: إسقاط القنبلتين الذريتين على هيروشيما وناغازاكي في اليابان في أغسطس 1945. بينما يرى البعض أن هذا القرار أنهى الحرب العالمية الثانية بسرعة ووفر حياة مئات الآلاف من الجنود الأمريكيين، يراه آخرون جريمة ضد الإنسانية بكل ما تحمله الكلمة من معنى. فقد أدت القنبلتان إلى مقتل ما يزيد عن 220 ألف شخص بشكل فوري، غالبيتهم العظمى من المدنيين، بينما استمرت الآثار المدمرة للإشعاعات لتحصد أرواح عشرات الآلاف آخرين في السنوات اللاحقة. هذه اللحظة لم تكن مجرد نهاية لحرب، بل كانت إعلانًا عن ولادة قوة عظمى تمتلك سلاحًا لا سابق له، ولا تتردد في استخدامه.

قلب الأنظمة واغتيال القادة

مع انطلاق شرارة الحرب الباردة، أصبح “الاحتواء” هو الشعار المركزي. ولم تتردد وكالة المخابرات المركزية (CIA) في أن تكون أداة رئيسية في هذه المعركة السرية. ففي إيران عام 1953، قادت الـ CIA انقلابًا عسكريًا أطاح بالحكومة الوطنية المنتخبة لرئيس الوزراء محمد مصدق، الذي أمم صناعة النفط الإيرانية، وأعادت الشاه محمد رضا بهلوي إلى العرش، مما زرع بذور الغضب الشعبي الذي انفجر في الثورة الإسلامية لاحقًا. وفي تشيلي عام 1973، لعبت المخابرات الأمريكية دورًا محوريًا في زعزعة الاستقرار وتمويل المعارضة، مما مهد الطريق لانقلاب دموي أطاح بالرئيس المنتخب سلفادور أليندي، وأحال البلاد إلى حقبة ديكتاتورية مظلمة تحت حكم أوغستو بينوشيه. وفي غواتيمالا، جواتيمالا، وفي فيتنام، وفي لاوس، وكمبوديا، امتدت أيادي واشنطن لتشكل مصائر الشعوب بعيدًا عن الأضواء.

فيتنام: الجرح الذي لا يندمل

ربما تظل حرب فيتنام (1955-1975) هي الفصل الأكثر قتامة في التاريخ الأمريكي الحديث. لم تكن مجرد حرب تقليدية، بل كانت مثالاً على الوحشية التي يمكن أن تصل إليها الآلة العسكرية عندما تخلط بين المقاومة والإبادة. فبالإضافة إلى الخسائر البشرية الهائلة التي تجاوزت الملايين من الفيتناميين وعشرات الآلاف من الجنود الأمريكيين، لجأت الولايات المتحدة إلى حرب كيميائية بشعة. حيث رشّت الطائرات الأمريكية ملايين الغالونات من مبيد “العامل البرتقالي” السام على الغابات والمحاصيل بهدف تجريد المقاومين الفيتناميين من الغطاء النباتي والغذائي. أدى هذا السلوك إلى تدمير بيئي هائل، وتسبب في إصابات بالأمراض السرطانية والتشوهات الخلقية التي استمرت عبر الأجيال، مما يجعلها جريمة لا تغتفر ضد البيئة والإنسانية معًا. وانتهت هذه الحرب بهزيمة مذلة لأقوى دولة في العالم، تركت ندوبًا عميقة في النفسية الأمريكية.

نهاية القرن العشرين: القوة الأحادية والعالم الجديد

مع انهيار الاتحاد السوفيتي في أوائل التسعينيات، وجدت الولايات المتحدة نفسها القوة العظمى الوحيدة في العالم. في هذه اللحظة من “القطبية الأحادية”، كان من المتوقع أن تدخل البشرية في عصر من السلام، لكن الواقع كان مختلفًا. فقد استخدمت واشنطن قوتها غير المتناظرة لفرض رؤيتها للنظام العالمي، مما أدى إلى سلسلة جديدة من الصراعات.

حرب الخليج وإعادة تشكيل الشرق الأوسط

في عام 1991، قادت الولايات المتحدة تحالفًا دوليًا لتحرير الكويت من الغزو العراقي. على السطح، بدت هذه كعملية دفاع عن سيادة دولة، لكنها في العمق كانت إعادة ترتيب للمشهد الجيوسياسي في منطقة حيوية. تركت الحرب نظام صدام حسين في السلطة، ولكنها فرضت عليه حصارًا اقتصادياً قاسياً استمر أكثر من عقد، دفع ثمنه الشعب العراقي من خلال مجاعات وأمراض. كما مكنت هذه الحرب واشنطن من إقامة وجود عسكري دائم في الخليج، وهو ما سيصبح لاحقًا منصة لانطلاق واحدة من أكثر الحروب إثارة للجدل.

تفكيك يوغوسلافيا وتدخل الناتو

في أوروبا، شهدت Balkans مأساة أخرى بتفكك يوغوسلافيا. تحت مظلة حلف الناتو، الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة، شنت طائرات الحلف حملة قصف مكثفة ضد صربيا في عام 1999، تحت ذريعة وقف التطهير العرقي في كوسوفو. بينما يجادل البعض بأن التدخل كان إنسانيًا، يشير آخرون إلى أن القصف أسفر عن سقوط مدنيين أبرياء وسرّع في تفكيك دولة ذات سيادة، مما خلق واقعًا سياسيًا جديدًا في القلب من أوروبا.

القرن الحادي والعشرون: الحرب على الإرهاب وإرث من الفوضى

إذا كان القرن العشرين قد انتهى تحت شعار “نهاية التاريخ”، فإن هجمات 11 سبتمبر 2001 أعادت الولايات المتحدة والعالم إلى واقع أكثر قتامة. تحت شعار “الحرب على الإرهاب”، شنت الإدارة الأمريكية حروبًا وغزوات أعادت تعريف مفهوم السيادة الدولية وتركت وراءها إرثًا من عدم الاستقرار.

غزو أفغانستان والعراق

كان غزو أفغانستان في 2001 هو الرد المباشر على هجمات 11 سبتمبر، بهدف القضاء على تنظيم القاعدة وإزالة حركة طالبان الحاكمة. لكن هذا الغزو تحول إلى أطول حرب في التاريخ الأمريكي، استمرت لعشرين عامًا وانتهت بانسحاب فوضوي وعودة طالبان إلى السلطة، مما أثار تساؤلات حول الهدف الحقيقي والنتيجة النهائية لهذا التدخل الطويل والمكلف.

أما غزو العراق في 2003 فكان قرارًا أكثر إثارة للجدل. بناءً على ادعاءات – ثبت زيفها لاحقًا – بامتلاك العراق لأسلحة دمار شامل، قادت الولايات المتحدة تحالفًا لغزو البلاد وإسقاط نظام صدام حسين. هذا الغزو، الذي تم دون تفويض واضح من مجلس الأمن الدولي، لم يؤد فقط إلى سقوط النظام، بل فتح الباب على مصراعيه لموجة عنف طائفية هائلة، ودمر البنية التحتية للدولة، ومهد الطريق لظهور تنظيمات متطرفة مثل “داعش”، الذي استغل الفراغ الأمني和政治ي ليبني “دولته” المزعومة، مما أدى إلى زعزعة أمن المنطقة بأسرها لعقود قادمة.

التدخلات غير التقليدية والضربات بطائرات بدون طيار

لم تعد الحرب تقتصر على الجيوش النظامية والغزوات البرية. ففي عصر “الحرب على الإرهاب”، اعتمدت الولايات المتحدة بشكل كبير على الضربات بالطائرات بدون طيار في دول مثل باكستان واليمن والصومال. بينما تقدم واشنطن هذه الضربات كأداة دقيقة لاستهداف “الإرهابيين”، فإن التقارير الموثوقة تشير إلى سقوط آلاف الضحايا من المدنيين، بما فيهم نساء وأطفال، في هذه الهجمات، مما يطرح أسئلة أخلاقية وقانونية عميقة حول إدارة الصراع في ظل غياب الشفافية والمساءلة.


خاتمة

تبقى مسيرة الولايات المتحدة العسكرية عبر التاريخ لوحة زيتية ضخمة، تجمع بين الألوان الزاهية للابتكار والتقدم، والألوان القاتمة للدمار والمعاناة. من نيكاراغوا في القرن التاسع عشر إلى أفغانستان في القرن الحادي والعشرين، ظلت الثوابت واحدة: استخدام القوة كأداة أولى وليس كحل أخير، والتوسع في تعريف “المصلحة الوطنية” ليشمل السيطرة على مقدرات دول أخرى، والتأثير العميق في مصائر شعوب لم تختر أن تكون جزءًا من الحلم الأمريكي، أو كابوسه. إن فهم هذه المسيرة ليس ترفًا فكريًا، بل هو ضرورة لفهم العالم المعقد الذي نعيش فيه، ولمعرفة كيف تشكلت خريطة القوى والصراعات الحالية. إنها قصة تذكرنا بأن القوة، بغض النظر عن شرعيتها أو دوافعها، تترك دائمًا وراءها إرثًا يحتاج إلى قرون ليفهمه العالم، وإلى آلاف الأرواح البريئة كي تدفع ثمنه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock