حين نستحضر سيرة الشيخ الشهيد أحمد عبدربه العواضي، فإننا نفتح صفحات ناصعة من تاريخ ثورة السادس والعشرين من سبتمبر المجيدة. هذه الثورة التي اجتثت جذور الكهنوت الإمامي وأعادت لليمنيين كرامتهم المسلوبة. كان العواضي أحد أبطالها العظماء، رجلًا من طراز فريد، جمع بين الشجاعة والإخلاص، ووهب حياته كلها دفاعًا عن الجمهورية دون أن يطلب شيئًا في المقابل، على عكس كثيرين ممن استغلوا الثورة لتحقيق مصالحهم الشخصية.
لم يكن الشيخ العواضي مجرد مقاتل في الميدان، بل كان رمزًا لقيم الثورة وأخلاقها، فارسًا جسّد القول والفعل معًا، فلم يتردد لحظة في حمل السلاح والانطلاق إلى ساحات القتال دفاعًا عن مبادئ سبتمبر الخالدة.
العواضي: امتداد لنضال الأقيال
وُلِد الشيخ أحمد عبدربه العواضي عام 1925 في محافظة البيضاء، وسط أسرة مشهورة بالنضال والشجاعة. كانت بطولات آل عواض محفورة في جبال اليمن وسهولها، حيث سجل التاريخ نضالات والده الشيخ عبدربه العواضي ضد الاحتلال البريطاني في الجنوب.
وعندما أشرقت شمس الثورة اليمنية في 26 سبتمبر 1962، كان العواضي في طليعة الثوار الذين هبّوا للدفاع عنها. وما إن دوّت أولى قذائف الثورة حتى استجاب لنداء الوطن، وجمع رجال قبيلته آل عواض، وانطلق إلى ميادين القتال جنبًا إلى جنب مع رفاقه الجمهوريين.
لم تكن المعركة سهلة، فقد فرّ أئمة الحكم الكهنوتي إلى أطراف البلاد، متحصنين بالمرتزقة من الداخل والخارج، ومدعومين بالسلاح من الاحتلال البريطاني في الجنوب. بحسب تتبع موقع تداوين ومن بين أبرز مراكز تمردهم كانت مدينة حريب شرق مأرب، التي تحولت إلى ساحة معركة حاسمة بين قوى الثورة والجماعات الإمامية.
مواضيع ذات صلة: راجح بن غالب لبوزة.. الشرارة التي أشعلت ثورة وأسقطت إمبراطورية
الشيخ العواضي وساحات القتال
كانت معركة حريب واحدة من المحطات الأبرز في تاريخ العواضي النضالي. فقد سبقه إلى هناك الشهيد علي عبدالمغني، الذي استشهد في طريقه إليها، ومن بعده الشهيد علي محمد الأحمدي، أول وزير إعلام للجمهورية. لكن الحسم جاء على يد الشيخ العواضي، الذي خاض معارك شرسة انتهت بتطهير المنطقة من فلول الإمامة.
إدراكًا لخطر الفلول الإمامية، استدعت القيادة الجمهورية الشيخ العواضي لحسم المعارك في مناطق مختلفة. فوصل إلى صنعاء، حيث استقبله الرئيس عبد الله السلال، وأوكل إليه قيادة حملة عسكرية كبيرة، مزودة بالأسلحة والذخائر، فتحرك بها نحو مأرب. وهناك، في منطقة العبدية، أسس قيادة الجيش الجمهوري الميدانية، ومنها انطلق إلى مختلف الجبهات، يقود رجال البيضاء وقبائل آل عواض في معارك مصيرية ضد قوى الإمامة.
قاد العواضي جبهات القتال في الشرق، حيث كان الاحتلال البريطاني يدعم الإمامة، وفي الغرب، حيث تولى المناضل ضيف الله المساعدي قيادة قوات الجمهوريين. لم يكن مجرد قائد ميداني، بل كان قلب الجيش الجمهوري النابض، يواجه الأعداء في كل الاتجاهات، دون تراجع أو استسلام.
تعرض لمحاولة اغتيال من قبل المخابرات البريطانية في حريب، عندما أُلقيت عليه قنبلة أثناء سيره في أحد الشوارع. أصيب في قدمه، لكنه تمكن من الرد وقتل المهاجم ببندقيته. نُقل إلى صنعاء، ثم إلى القاهرة للعلاج، لكنه لم يلبث أن عاد إلى ميدان القتال فور تعافيه.
معارك التحرير: من صنعاء إلى حجة
بعد عودته من القاهرة، قاد الشيخ العواضي معارك شرسة في أرحب، حيث استطاع، بمساندة كتائب الجيش المصري، تحرير مناطق واسعة من قبضة الفلول الإمامية. خسرت قبيلته في هذه المعارك عددًا من رجالها، وعلى رأسهم شقيقه الشيخ جونة عبدربه العواضي، الذي استشهد في إحدى المواجهات.
لم يتوقف العواضي عند أرحب، بل واصل تقدمه إلى محافظة حجة، حيث خاض معارك بطولية في المحابشة، ومسور، وكحلان. وبعد تطهيرها، سلمها للجيش المصري لتأمينها، ثم توجه إلى الحيمتين وبني مطر، حيث سجل انتصارات جديدة للجمهورية.
كان العواضي رجل المراحل الصعبة، لا يعرف الهزيمة، ولا يتردد في مواجهة أي خطر يهدد الثورة. استمر يقاتل من جبهة إلى أخرى، حتى جاءت معركة حصار السبعين يومًا، الفصل الأخير في الحرب الإمامية ضد الجمهورية.
العواضي.. أسد الجمهورية في معركة السبعين
في عام 1967، واجهت الجمهورية أخطر اختبار لها، حيث فرضت فلول الإمامة حصارًا خانقًا على صنعاء، محاولين إسقاطها وإعادة الحكم الكهنوتي. كان الموقف حرجًا، والجمهوريون يقاتلون ببسالة داخل العاصمة، لكنهم كانوا بحاجة إلى إمدادات عاجلة لفك الحصار.
كان الشيخ العواضي حينها قد غادر صنعاء بعد إقالة الرئيس السلال، لكنه لم يتردد لحظة عندما اشتد الحصار، فتحرك مع قبائله إلى الحديدة، ومن هناك بدأ الزحف نحو صنعاء.
كان الطريق إلى العاصمة مقطوعًا من قبل المليشيات الإمامية، لكن العواضي قاد رجاله في قتال ضارٍ، فتحوا خلاله طريق صنعاء – الحديدة، الشريان الرئيسي الذي أنقذ العاصمة من السقوط.
لولا هذا التحرك البطولي، لكانت صنعاء قد سقطت، وعادت الإمامة لتجثم على صدور اليمنيين مجددًا. لكن العواضي ورجاله قدموا أرواحهم فداءً للجمهورية، فثبتوا أركانها بدمائهم الزكية، ليبقى السادس والعشرون من سبتمبر خالدًا في ذاكرة اليمنيين.
العواضي.. بطل لم يُنصفه التاريخ
لم يكن الشيخ العواضي مجرد مقاتل، بل كان رجل دولة، يعرف أن الثورة ليست مجرد معركة في الميدان، بل مشروع وطني كبير، يحتاج إلى تضحيات مستمرة.
ورغم ما تعرضت له قبائل آل عواض، وغيرها من القبائل الجمهورية، من تهميش بعد الثورة، إلا أنها لم تتخلّ عن مبادئها، ولم تقف يومًا في صف أعداء الجمهورية.
لقد فقدت اليمن قائدًا استثنائيًا عندما اغتيل العواضي عام 1972، في خضم الصراعات السياسية التي عصفت بالبلاد. لكنه رحل مرفوع الرأس، وقد أدى واجبه الوطني على أكمل وجه، تاركًا خلفه رجالًا يسيرون على دربه، محافظين على شرف النضال السبتمبري.
رحم الله أسد سبتمبر، الشيخ أحمد عبدربه العواضي، الذي خلد اسمه في سجل الأبطال، وسيظل نبراسًا للأجيال القادمة، ومثالًا يُحتذى في التضحية والوفاء للوطن.