اللهم بارك لنا في رجب وشعبان وبلغنا رمضان عند الأئمة والمحدثين

1.0 مقدمة: أهمية التحقق من الأحاديث النبوية في سياق العبادات الموسمية
مع اقتراب الأشهر المباركة كشهر رجب وشعبان، والاستعداد لاستقبال شهر رمضان، يزداد تداول العديد من الأدعية والأحاديث المنسوبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم بين جموع المسلمين. وفي هذا السياق، يبرز واجب شرعي ومنهجي يتمثل في ضرورة التحقق من صحة هذه المرويات قبل العمل بها أو نشرها بين الناس، إذ إن حفظ السنة النبوية وتنقيتها مما ليس منها هو من صميم الدين، خاصة في الأبواب التي كثر فيها الوضع والضعف كفضائل الشهور.
يُعد دعاء “اللهم بارك لنا في رجب وشعبان وبلغنا رمضان” من أشهر الأدعية التي تنتشر في هذه الفترة، مما يجعله مثالاً رئيسياً يستدعي التحليل العلمي الدقيق لبيان درجته من حيث الصحة والضعف، وتوضيح الحكم الشرعي المتعلق بالعمل به. يهدف هذا التقرير إلى تقديم دراسة شاملة ومتكاملة لهذا الحديث، مستعرضاً مصادره، وتحليل إسناده، وأقوال أهل العلم فيه، وصولاً إلى خلاصة منهجية واضحة في كيفية التعامل معه.
2.0 نص الحديث ومصادر تخريجه الأساسية
إن الخطوة الأولى في دراسة أي حديث نبوي هي معرفة مصادره الأساسية التي أخرجته، وتحديد الرواة الذين نقلوه. وقد ورد هذا الدعاء باللفظ المشهور التالي:
“اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي رَجَبٍ، وَشَعْبَانَ، وَبَلِّغْنَا رَمَضَانَ”.
وتجدر الإشارة إلى وجود لفظ آخر للحديث في بعض المصادر كرواية الإمام أحمد، ينتهي بـ “…وَبَارِكْ لَنَا فِي رَمَضَانَ”، إلا أن جميع رواياته تعود إلى الإسناد الضعيف نفسه، مما لا يؤثر في الحكم النهائي عليه.
وقد أخرج هذا الحديث عدد من أئمة الحديث في مصنفاتهم، ومن أبرز هذه المصادر ما يلي:
- “زوائد المسند” للإمام عبد الله بن الإمام أحمد.
- “المعجم الأوسط” للإمام الطبراني.
- “شعب الإيمان” للإمام البيهقي.
- “حلية الأولياء” للإمام أبي نعيم الأصفهاني.
وتجدر الإشارة إلى أن جميع هذه المرويات، على اختلاف مصادرها، يدور إسنادها على راوٍ واحد، وهو: زَائِدَة بْن أَبِي الرُّقَادِ عن زِيَادٌ النُّمَيْرِيُّ، عن الصحابي الجليل أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه. وهذا يعني أن الحكم على الحديث يعتمد بشكل كلي على حال هذين الراويين. وبناءً على ذلك، فإن الخطوة التالية هي التحليل العلمي لرجال هذا الإسناد لتحديد درجة الحديث.
3.0 التحليل العلمي لإسناد الحديث: دراسة الرواة والحكم عليهم
إن مناط الحكم على الحديث صحةً وضعفاً هو النظر في حال رواته الذين يشكلون سلسلة الإسناد، وقد وضع علماء الجرح والتعديل قواعد دقيقة لتقييم كل راوٍ من حيث العدالة والضبط. وفي إسناد هذا الحديث، يتركز الكلام على راويين اثنين كانا سبباً في تضعيفه.
3.1 حال الراوي: زياد النميري
زياد النميري هو أحد الرواة في سند الحديث، وقد وجه إليه نقاد الحديث أحكاماً تقتضي تضعيفه. وفيما يلي أبرز أقوالهم:
- الإمام يحيى بن معين: قال عنه: “ضعيف”.
- الإمام أبو حاتم الرازي: قال: “لا يحتج به”.
- الإمام ابن حبان: ذكره في كتابه “الضعفاء” وقال: “لا يجوز الاحتجاج به”.
تُظهر هذه الأقوال اتفاقاً بين كبار النقاد على أن “زياد النميري” راوٍ ضعيف، لا يمكن قبول حديثه كحجة شرعية.
3.2 حال الراوي: زائدة بن أبي الرقاد
يُعد زائدة بن أبي الرقاد الراوي الثاني الذي عليه مدار ضعف الحديث، وحاله أشد ضعفاً من سابقه. وقد وردت في حقه أقوال شديدة من أئمة الجرح والتعديل:
- الإمام أبو حاتم الرازي: قال: “يحدث عن زياد النميري عن أنس، أحاديث مرفوعة منكرة”.
- الإمام البخاري: وصفه بأنه: “منكر الحديث”.
- الإمام النسائي: قال عنه: “منكر الحديث”، وقال في “الكنى”: “ليس بثقة”.
- الإمام ابن حبان: قال: “يروي مناكير عن مشاهير لا يحتج بخبره”.
- الإمام ابن عدي: قال: “في بعض أحديثه ما ينكر”.
تجدر الإشارة إلى أن مصطلح “منكر الحديث” عند أئمة متقدمين كالإمام البخاري يُعد من مراتب التجريح الشديدة. ويعني هذا المصطلح عند المتقدمين كالبخاري أن الراوي ينفرد برواية ما يخالف به الثقات، أو يروي ما لا يُعرف من وجه آخر، مما يجعله في مرتبة المتروك الذي لا تُقبل روايته.
3.3 خلاصة حكم المحدثين على الحديث
بناءً على اجتماع راويين ضعيفين في الإسناد، أحدهما (زياد النميري) ضعيف، والآخر (زائدة بن أبي الرقاد) أشد ضعفاً ومنكر الحديث، فقد أجمع المحدثون على الحكم بضعف هذا الحديث. ويلخص الجدول التالي آراء بعضهم:
| العالم المحدث | الحكم على الحديث | المصدر المذكور |
| الإمام النووي | ضعّفه | “الأذكار” |
| ابن رجب الحنبلي | ضعّفه | “لطائف المعارف” |
| نور الدين الهيثمي | ضعّفه بقوله: “رَوَاهُ الْبَزَّارُ وَفِيهِ زَائِدَةُ بْنُ أَبِي الرُّقَادِ قَالَ الْبُخَارِيُّ: مُنْكَرُ الْحَدِيثِ، وَجَهَّلَهُ جَمَاعَةٌ” | “مجمع الزوائد” |
| محمد ناصر الدين الألباني | ضعّفه | “ضعيف الجامع” |
ومن المهم الإشارة إلى أنه حتى على فرض صحة الحديث، فإنه لا يتضمن دليلاً على تخصيص هذا الدعاء بأول ليلة من شهر رجب، بل هو دعاء مطلق بالبركة يمكن أن يُقال في رجب أو قبله. وبعد بيان ضعف هذا الحديث، من المناسب الانتقال إلى الحكم العام على فضائل شهر رجب في السنة النبوية.
4.0 مكانة شهر رجب في السنة النبوية: بين الحقيقة والمبالغة
بعد أن تبين ضعف الحديث الخاص بالدعاء، من الضروري وضع المسألة في سياقها الأوسع من خلال بحث المكانة العامة لشهر رجب في السنة النبوية الصحيحة. وفي هذا الصدد، يقدم قول الشيخ العلامة ابن عثيمين رحمه الله خلاصة علمية محققة، حيث قال:
“لم يرد في فضل رجب حديثٌ صحيح، ولا يمتاز شهر رجب عن جمادى الآخرة الذي قبله إلا بأنه من الأشهر الحرم فقط، وإلا ليس فيه صيام مشروع، ولا صلاة مشروعة، ولا عمرة مشروعة ولا شيء، هو كغيره من الشهور.”
يُستفاد من هذا القول أن الفضيلة الوحيدة الثابتة لشهر رجب هي كونه أحد الأشهر الحرم الأربعة التي عظمها الله تعالى. أما تخصيصه بعبادات معينة كصيام مخصوص أو صلاة خاصة (مثل صلاة الرغائب)، فلم يثبت فيه أي حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا يضبط فهم المسلم ويجعله يلتزم بما ثبت في الشرع، ويبتعد عن المبالغات والعبادات المحدثة.
5.0 حكم دعاء المسلم ببلوغ رمضان: مشروعية المعنى وصحة الممارسة
من المهم التفريق بين الحكم على سند حديث معين، والحكم على معنى الدعاء إذا كان صحيحاً في مضمونه. فبالرغم من ضعف حديث “اللهم بارك لنا في رجب…”، فإن معنى الدعاء، وهو طلب المسلم من ربه أن يبلغه شهر رمضان، هو أمر مشروع ومستحب ولا حرج فيه.
ويدل على ذلك ما نُقل عن السلف الصالح من حرصهم على الدعاء ببلوغ رمضان، مما يعكس شوقهم لمواسم الخير والطاعة. وقد نقل الحافظ ابن رجب الحنبلي في كتابه “لطائف المعارف” بعض هذه الآثار:
- قول معلى بن الفضل: “كانوا يدعون الله تعالى ستة أشهر أن يبلغهم رمضان، ويدعونه ستة أشهر أن يتقبل منهم.”
- قول يحيى بن أبي كثير: “كان من دعائهم: اللهم سلمني إلى رمضان، وسلم لي رمضان وتسلمه مني، متقبلا.”
وهذا المعنى تؤكده أيضاً الفتاوى المعاصرة، حيث سُئل الشيخ عبد الكريم الخضير عن هذا الحديث فأجاب:
“هذا حديث لا يثبت، لكن إن دعا المسلم بأن يبلغه الله عز وجل رمضان، وأن يوفقه لصيامه وقيامه، وأن يوفقه لإدراك ليلة القدر، أي بأن يدعو أدعية مطلقة فهذا إن شاء الله لا بأس به.”
إذن، الشوق إلى رمضان والدعاء ببلوغه وتوفيقه للعمل الصالح فيه هو من هدي السلف، وهو أمر يدل على صدق الإيمان وحرص المسلم على اغتنام الخيرات.
6.0 مناقشة الآراء المعاصرة حول استحباب الدعاء في أول ليلة من رجب
على الرغم من إجماع المحدثين على ضعف الحديث المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، إلا أن هناك آراء فقهية معاصرة، كالمروية عن دار الإفتاء المصرية والدكتور علي جمعة، تستحب الدعاء في أول ليلة من رجب بناءً على أدلة أخرى. ومن المهم عرض هذه الآراء لفهمها في سياقها الصحيح.
يستند هذا الرأي بشكل أساسي إلى أثر مروي عن الصحابي عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وقد نُقل أيضاً عن الإمام الشافعي من قوله. ونص الأثر هو:
“خَمْسُ لَيَالٍ لَا يُرَدُّ فِيهِنَّ الدُّعَاءُ: لَيْلَةُ الْجُمُعَةِ، وَأَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ رَجَبَ، وَلَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، وَلَيْلَةُ الْعِيدِ، وَلَيْلَةُ النَّحْرِ.”
والفرق الجوهري هنا أن هذا الأثر ليس حديثاً مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، بل هو من قول أحد الصحابة أو التابعين. وهذا يمثل انتقالاً من دائرة إثبات السنن النبوية المرفوعة إلى دائرة الاستئناس بآثار السلف في فضائل الأعمال، وهو مسلك له اعتباره في بعض المدارس الفقهية، لكنه لا يثبت حكماً أو فضيلة خاصة لليلة بعينها على أنها سنة مؤكدة.
7.0 الخلاصة النهائية: المنهجية الصحيحة في التعامل مع الدعاء في رجب
يهدف هذا التقرير إلى تقديم رؤية علمية متكاملة ومنصفة حول حديث “اللهم بارك لنا في رجب وشعبان وبلغنا رمضان”. وبناءً على ما تم عرضه، يمكن تلخيص النتائج الرئيسية في النقاط التالية:
- حديث “اللهم بارك لنا في رجب وشعبان وبلغنا رمضان” هو حديث ضعيف الإسناد باتفاق أهل الاختصاص من المحدثين.
- لا يصح نسبة هذا الدعاء بلفظه المحدد إلى النبي صلى الله عليه وسلم على أنه سنة ثابتة، بناءً على ضعف سنده.
- لم يثبت في فضل شهر رجب حديث صحيح يخصه بعبادة معينة (كصيام أو صلاة) سوى كونه أحد الأشهر الحرم.
- الدعاء بالمعنى (طلب البركة في الوقت وبلوغ رمضان) هو أمر مشروع ومستحب، وله أصل في فعل السلف الصالح.
- من يستحبون الدعاء في أول ليلة من رجب يعتمدون على آثار وأقوال للسلف، وليس على حديث مرفوع صحيح.
وعليه، فإن المنهجية الصحيحة التي ينبغي أن يتبعها المسلم هي التفريق بين أمرين: الأول هو نسبة قول أو فعل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يتطلب دليلاً صحيحاً وثابتاً. والثاني هو الدعاء المطلق الذي يحمل معاني صحيحة، فهذا باب واسع، ويجوز للمسلم أن يدعو الله بما يفتح عليه من الأدعية الطيبة في كل وقت وحين، دون أن يخص وقتاً معيناً بدعاء معين معتقداً أنه سنة نبوية ثابتة ما لم يقم على ذلك دليل.





