المشهد الكارثي: أرقام تصرخ في وجه الصمت الرسمي
في انعكاس صارخ لعجز مؤسسات الدولة، شهدت المناطق الخاضعة للسلطة الشرعية اليمنية في يونيو 2025 انهياراً غير مسبوق للريال اليمني، حيث تجاوز سعر صرف الريال السعودي 715 ريالاً يمنياً للبيع، بينما بلغ سعر الدولار الأمريكي 2716 ريالاً للبيع، وفقاً لأحدث بيانات الصرافة في عدن. هذه الأرقام ليست مجرد إحصاءات جافة، بل تمثل شريان حياة ينزف بلا توقف، في مشهد يختزل تراجعاً مؤسسياً متعدد المستويات. التدهور المتسارع يحدث في ظل غياب أي رد فعل ملموس من المجلس الرئاسي والجهات الاقتصادية الرسمية، مما يدفع المواطنين للتساؤل: أين القيادة في ساعة الانهيار الوطني؟
تداعيات الانهيار: جوع يزحف وطبقة وسطى تختفي
- التضخم الجامح: أدى انهيار العملة إلى موجة تضخمية طالت كل سلعة أساسية. سلة الغذاء التي كانت تكلف 50 ألف ريال قبل عامين، تجاوزت اليوم 350 ألف ريال، محولةً الرواتب إلى مجرد حبر على ورق.
- انهيار الطبقة الوسطى: الموظف الحكومي الذي كان راتبه يكفي لسد الاحتياجات الأساسية، أصبح عاجزاً عن توفير الدواء لأطفاله. هذا التحول ليس اقتصادياً فقط، بل هو تفكيك منهجي للنسيج الاجتماعي.
- الخدمات العامة شبه معدومة: المستشفيات تعمل بأقل من 30% من طاقتها، المدارس تفتقر لأدنى مستويات البنية التحتية، وانقطاع الكهرباء تحول من أزمة إلى واقع دائم.
الأصوات المهمشة: صرخات المواطن التي لا تسمعها السلطة
“لم نعد نطالب بالرفاه، بل نستجدي الحياة”.. بهذه الكلمات الموجعة، عبّر محمد عبد الله (موظف حكومي) عن واقع الملايين. في أسواق عدن وصنعاء وعدة، يتردد صدى أسئلة لا إجابة لها:
- لماذا لا تتحرك الجهات الرقابية لضبط سوق الصرافة؟
- أين الإصلاحات الاقتصادية التي وعدت بها القيادة؟
- كيف تُترك العملة الوطنية فريسة للمضاربين وسماسرة السوق السوداء؟
- لماذا تُهمل الزراعة المحلية والصناعات الصغيرة التي قد تشكل حاجزاً ضد الاستيراد؟
تشريح الأزمة: جذور الانهيار المتشعبة
1. الاختلالات الهيكلية في السياسات المالية
- فجوة الإيرادات والنفقات: تعاني الحكومة من عجز مريع نتيجة توقف صادرات النفط – التي كانت تمثل 70% من الإيرادات – دون بدائل مستدامة.
- تشتت الموارد: خروج مناطق إنتاجية رئيسية عن السيطرة الحكومية أفقد الخزينة مصادر تمويل حيوية.
- الفساد المؤسسي: تقارير دولية تشير إلى تسرب 40% من الإيرادات المتاحة عبر قنوات غير مشروعة.
2. الانقسام النقدي الكارثي
- ازدواجية البنك المركزي: وجود سلطتين نقديتين (في عدن وصنعاء) دمر الثقة بالعملة الوطنية وأضعف أدوات السياسة النقدية.
- تفشي السوق السوداء: غياب الرقابة الفعالة سمح بتحكم 10 كيانات صرافة كبرى بتحديد سعر الصرف بشكل تعسفي.
- انهيار الاحتياطيات: انخفاض الاحتياطي الأجنبي إلى أقل من 500 مليون دولار – غير كافٍ لاستيراد سلع أساسية لشهرين.
3. العوامل الجيوسياسية المتفجرة
- تأثير الصراع الإقليمي: تحويلات المغتربين – شريان الحياة الاقتصادي – انخفضت 60% بسبب الأزمات في دول الخليج.
- حصارات غير معلنة: تعقيدات الشحن البحري وارتفاع تكاليف التأمين على السفن جعلت الاستيراد مغامرة مكلفة.
- غياب الدعم الدولي الفعال: برامج المنظمات الدولية تركز على الإغاثة الطارئة دون معالجة الأسباب الهيكلية.
تحليل اقتصادي متعمق: دوامة التضخم وانهيار القدرة الشرائية
يقول الخبير الاقتصادي وفيق صالح: “الانهيار الحاد للريال ليس مجرد مؤشر اقتصادي، بل هو قاتل صامت يقضي على الطبقات الهشة”. تشير بيانات البنك الدولي إلى:
- تضخم سنوي تجاوز 450% في السلع الأساسية
- انكماش الاقتصاد بنسبة 65% منذ 2015
- انخفاض القوة الشرائية إلى 18% من مستواها قبل الحرب
الأسوأ أن هذه الأزمة ذات طبيعة تراكمية: كل نقطة انخفاض في قيمة العملة تدفع الأسعار لأعلى، مما يزيد الضغط على العملة في حلقة مفرغة لا تنتهي.
المشهد الإنساني المأساوي: أرقام تصرخ بالكارثة
- 28 مليون يمني (80% من السكان) تحت خط الفقر
- 4.5 مليون طفل يعانون سوء التغذية الحاد
- 70% من الأسر اضطرت لبيع ممتلكات أساسية لشراء الطعام
- الإنفاق الصحي انخفض بنسبة 90% لدى الأسر العادية
تقييم الأداء الرسمي: بين العجز والإهمال
رغم خطورة المشهد، يلاحظ المراقبون:
- غياب رؤية اقتصادية متكاملة: لا توجد خطة واضحة لإنعاش العملة أو دعم القطاعات الإنتاجية.
- الانشغال بالصراع السياسي: أولوية القيادة منصبة على المناورات السياسية على حساب الكارثة المعيشية.
- ضعف التنسيق بين المؤسسات: غياب التكامل بين البنك المركزي ووزارتي المالية والتجارة.
- فشل في تطبيق الحد الأدنى: حتى الإجراءات البسيطة مثل دعم السلع الأساسية لم تنفذ بشكل فعال.
حلول مقترحة: خريطة طريق للإنقاذ
1. إصلاحات نقدية عاجلة
- توحيد جهاز البنك المركزي تحت إدارة تقنية محايدة
- إطلاق حملة وطنية لسحب العملة المتداولة خارج النظام المصرفي
- إنشاء صندوق سيادي لدعم العملة بضمانات دولية
2. إعادة هيكلة المالية العامة
- تبني نظام ضريبي تصاعدي يراعي الأزمة
- إعادة توجيه الدعم نحو السلع الأساسية فقط
- برنامج طوارئ لدعم المشاريع الصغيرة المولدة للعملة الصعبة
3. تعزيز القطاعات الإنتاجية
- إحياء الزراعة المحلية عبر مشاريع الري بالطاقة الشمسية
- دعم الصناعات التحويلية للاستغناء عن 30% من الواردات
- تشجيع صيد الأسماك عبر توفير قوارب حديثة بتمويل مدعوم
4. آليات الحماية الاجتماعية
- شبكة أمان نقدي للمواطنين الأكثر ضعفاً
- برنامج دواء مجاني للأمراض المزمنة
- دعم مراكز التغذية العلاجية للأطفال
دروس من تجارب عالمية: الأمل ممكن
- تجربة رواندا: أعادت بناء عملتها بعد حرب أهلية مدمرة عبر مؤسسة نقدية مستقلة وشفافية مالية.
- نجاح الصومال: استقرت عملته مؤخراً بفضل تعاون البنك المركزي مع مشايخ القبائل لضبط الصرافة.
- معجزة سنغافورة: بنت اقتصاداً قوياً رغم شح الموارد بالتركيز على التعليم والصناعات المعرفية.
رؤية مستقبلية: نحو عقد اجتماعي جديد
إن إنقاذ الريال اليمني يتطلب أكثر من إجراءات تقنية؛ إنه بحاجة إلى ميثاق وطني اقتصادي يلتزم فيه جميع الأطراف ب:
- أولوية المواطن في أي تسويات سياسية
- شفافية كاملة في إدارة الموارد العامة
- إشراك الكفاءات الاقتصادية بمعزل عن الانتماءات
- ربط أي دعم دولي ببرامج تنموية ملموسة
الخاتمة: الريال ليس مجرد عملة.. إنه كرامة وطن
الانهيار المتواصل للريال اليمني ليس أزمة اقتصادية عابرة، بل هو اختبار وجودي لهوية الدولة اليمنية. كل يوم يمر دون حلول جذرية يدفع البلاد نحو الهاوية الاجتماعية. الصمت الرسمي الحالي يشكل خيانة للشعب الذي يئن تحت وطأة الغلاء. إنقاذ العملة الوطنية يحتاج إلى إرادة سياسية تتجاوز المصالح الضيقة، وتفهم أن استقرار العملة هو حجر الزاوية لأي مصالحة وطنية حقيقية. السؤال الذي ينتظر إجابة: هل تدرك القيادة أن الساعة تدق ناقوس خطر قد لا يُعوّض؟