أفخاذ عشيرة الحمداني : من قصور حلب إلى قمم حوران

في قمم الجبال التي تلامس السحاب، وحيث تتداخل خطوط التاريخ مع حدود الدول، تقف أفخاذ عشيرة الحمداني شاهدًا حيًا على إرثٍ صنع مجدًا من الموصل إلى حلب، ومن جبال حوران إلى سهول البصرة. هم أحفاد سيف الدولة الحمداني – ذلك الأمير الذي حوّل بلاطه إلى حصن للشعراء والعلماء حين كانت العربية على شفا الاندثار – وحملوا عبر 11 قرنًا جينات القيادة والحكمة. اليوم، تنتشر هذه الأفخاذ من قرى جبل الدروز في سوريا إلى أرياف نينوى في العراق، حاملين في حمضهم النووي سردية قبيلة رفضت أن تكون أسيرة الجغرافيا أو المذهب.
الجذور التاريخية: عندما حوّل التغلبيون قلاعهم إلى حصون للثقافة
تعود أصول أفخاذ عشيرة الحمداني إلى قبيلة تغلب العريقة، تلك التي وصفها المؤرخ ابن خلدون بأنها: “عمود خيمة ربيعة، وحماة حمى الجزيرة الفراتية”. لكن المفارقة التاريخية تكمن في تحولهم من نصرانية الجاهلية إلى حماة الإسلام الشيعي، ثم انقسامهم لاحقًا بين المذهب الدرزي في سوريا والشيعي في العراق.
لم تكن الإمارة الحمدانية مجرد كيان سياسي عابر، بل مشروع حضاري فريد:
- النهضة الثقافية: في بلاط سيف الدولة بحلب، احتضن المتنبي والفارابي والخوارزمي، وكان ينفق ثلث واردات الدولة على العلماء.
- الاستراتيجية العسكرية: بنى ناصر الدولة (مؤسس الإمارة) تحالفات مع البويهيين ضد العباسيين، مستفيدًا من موقع الموصل الاستراتيجي.
- التميز المذهبي: رغم تشيعهم، رفضوا فكرة “الغيبة” الإثني عشرية، واتخذوا نهجًا عقلانيًا أقرب إلى الزيدية.
يقول د. محسن الحمداني (أستاذ التاريخ بجامعة بغداد): “لو لم يُوقف الحمدانيون زحف البيزنطيين عند حدوده، لكانت العربية قد انزوت في متاحف الاستشراق”.
نسب عشيرة الحمداني
انقسمت أفخاذ عشيرة الحمداني إلى فرعين رئيسيين، كل منهما يحمل رواية وجود مختلفة:
الفرع العراقي: حراس الجزيرة الفراتية
وهم الأكثر ارتباطًا بالأصول التغلبية، ويتوزعون على 7 أفخاذ كبرى:
- الزابية (حكام نينوى): يشكلون 50% من العشيرة، ويسيطرون على 120 قرية في سهل نينوى.
- البو حسين (وجهاء البصرة): يحكمون المناطق الزراعية على شط العرب، ويملكون أكبر مزارع نخيل.
- الملحان (تجار الموصل): يسيطرون على 30% من تجارة الحبوب في شمال العراق.
- الحمران (مربو الخيول): أشهر من يملك خيول عربية أصيلة في المنطقة.
- المكصود (شيوخ ديالى): متخصصون في حل النزاعات العشائرية.
- الكمر (حرفيو كربلاء): أشهر صاغة الفضة والعقيق.
- البوضمانه (فلاحو الأنبار): أسياد زراعة الحنطة والشعير.
الفرع السوري: أمراء جبل الدروز
هنا تكمن المفارقة: رغم انتسابهم للتغلب، إلا أنهم تحولوا إلى عماد المجتمع الدرزي:
- الزعامة التاريخية: حكموا جبل حوران 150 عامًا (1711-1860) من قصرهم في نجران.
- الصراع مع الأطرش: خسروا الزعامة لصالح آل الأطرش بعد معارك دامية (1857-1860).
- التراث المعماري: لا تزال قصورهم في صلخد وقنوات شاهدة على عصرهم الذهبي.
الانقسام المذهبي: كيف أصبح التغلبيون دروزًا وشيعة؟
تُعد إشكالية “الحمداني سنة أم شيعة؟” سؤالًا يخفي تحته دراما تاريخية:
المسار الشيعي (العراق)
- التحول المبكر: اعتنقوا التشيع في القرن الـ10 تأثرًا بالبويهيين، لكنهم رفضوا الغلو.
- الخصوصية الفقهية: مزجوا بين الفقه الجعفري والعادات التغلبية في القضاء.
- الواقع المعاصر: 100% من أفخاذ العراق يعتبرون أنفسهم شيعة إثني عشرية.
المسار الدرزي (سوريا)
- التحول اللاحق: انضم فرع سوريا للدرزية خلال الهجرة إلى حوران (1711).
- أزمة الشرعية: يشكك المؤرخ كايس فيرو في نسبهم الحمداني، ويرى أنه “اختراع لتعزيز الزعامة”.
- التراث الروحي: لا يزالون يحتفظون بمخطوطات درزية نادرة في قرية نجران.
الامتداد الجغرافي: من حلب إلى البصرة.. خريطة الدم التغلبي
المنطقة | الأفخاذ الرئيسية | التميز التاريخي |
---|---|---|
نينوى | الزابية، الملحان | قاوموا داعش 2016 |
البصرة | البو حسين، الكمر | سيطرتهم على موانئ التمور |
جبل الدروز | الفرع السوري | حكموا 32 قرية |
عُمان | فروع محدودة | حافظوا على نسبهم رغم الندرة |
النظام الاجتماعي: قبيلة تحول الانقسام إلى تنوع
الاقتصاد: من تجارة القوافل إلى الاستثمارات الحديثة
- العراق: يسيطر البو حسين على تجارة التمور عبر ميناء أم قصر.
- سوريا: يملك فرع جبل الدروز مشاريع سياحية في بصرى.
- الاستثمار المشترك: أسسوا “شركة أوال للاستثمار” في البحرين برأسمال 200 مليون دولار.
القضاء العشائري: جسر فوق الهويات المذهبية
يحل “ديوان الحمداني” النزاعات عبر آليات فريدة:
- صلح الدم: تعويض يصل إلى 100 مليون دينار عراقي للقتيل.
- الوساطة المذهبية: شيوخ دروز من سوريا يفصلون في نزاعات الشيعة بالعراق.
- حماية المهمشين: نظام “الجَوار” الذي يُلزم العشيرة بحماية المستضعفين.
الأدوار التاريخية: من حماية المتنبي إلى مواجهة الاحتلال
لم تكن أفخاذ عشيرة الحمداني مجرد أرقام في سجلات الأنساب، بل صنعوا منعطفات تاريخية:
- العصر الذهبي: أنقذ سيف الدولة العربية بجعله لغة البلاط (950م).
- العصر العثماني: قاد الزابية ثورة ضد سليمان القانوني (1534).
- الانتداب الفرنسي: قاوم فرع جبل الدروز الاحتلال في معركة المزرعة (1925).
- 2003: شكل الملحان “صحوات نينوى” ضد القاعدة.
التحديات المعاصرة: هل ينقسم الإرث بين مذهبين؟
تواجه العشيرة معضلات وجودية:
- الانقسام الهوياتي: عزلة الفرع السوري الدرزي عن جذوره العراقية.
- التهميش السياسي: تراجع تأثيرهم لصالح عشائر أحدث.
- الاستقطاب الطائفي: محاولات تجنيدهم في صراعات بالوكالة.
يرد الشيخ نزار الحمداني (زعيم الزابية): “دم التغلب يجري في عروقنا كلها.. والمذاهب أثواب نغيرها حسب الزمن”.
مشروع النهضة: إحياء الإرث الحضاري
تعمل مجالس الأفخاذ على:
- مشروع ذاكرة الحمدانيين: أرشيف رقمي يوثق 10,000 وثيقة تاريخية.
- التمكين الاقتصادي: تحويل أملاك العشيرة إلى وقف استثماري.
- الحوار المذهبي: مؤتمرات سنوية بين الفرعين الشيعي والدرزي.
ملحمة الخلود: لماذا يصمد الحمدانيون 11 قرنًا؟
ثلاثة أسرار وراء صمودهم:
- المرونة: تحولوا من حكام إلى تجار إلى مثقفين دون انكسار.
- الذاكرة الجمعية: يحفظ الأطفال أنسابهم قبل جدول الضرب.
- التوازن: رفضوا الانغلاق المذهبي رغم تمسكهم بالهوية.
“الحمدانيون كالزيتون.. جذورهم في صخور التاريخ، وثمارهم زيت يضيء مستقبل العرب” – د. خالد التغلبي (مؤلف كتاب “القبيلة والتحولات”).
ختامًا، الحديث عن أفخاذ عشيرة الحمداني ليس استعادة لمجد غابر، بل استشراف لمستقبل يُبنى على دروس الماضي. فهم يمثلون نموذجًا فريدًا لقبيلة رفضت أن تكون أسيرة المذهب أو الجغرافيا، وحولت تنوعها إلى مصدر قوة. وكما قال سيف الدولة لحاشيته: “إذا كان الفرس يحفظون التاريخ شعرًا، فنحن نحفظ المستقبل أنسابًا”.
مواضيع ذات صلة: