أفخاذ البقوم جذور عميقة في قلب الجزيرة العربية

تداوين – خاص – يتناول هذا المقال أفخاذ البقوم إحدى قبائل الازد القحطانية الشهيرة، ففي قلب الجزيرة العربية، حيث تلتقي حرة البقوم بسهول تربة الخصيبة، تنبض قصة واحدة من أعرق القبائل العربية التي حفرت وجودها في صخور التاريخ. إنها قبيلة البقوم، تلك التي حملت اسم جدها “باقم” كشعلة تضيء مسار أبنائها عبر القرون. ليست مجرد قبيلة، بل كونٌ قبليٌ متكامل، تتداخل فيه الأنساب وتتشابك الأفخاذ في نسيج اجتماعي مذهل يعكس عبقرية التنظيم القبلي العربي. فما قصة هذه القبيلة العريقة؟ وكيف تشعبت إلى أفخاذها الكبرى التي شكلت إمبراطورية قبلية ممتدة؟
الأصول: من سد مأرب إلى حرة البقوم
تعود جذور قبيلة البقوم إلى أعماق التاريخ اليمني، حيث كانت جزءاً من قبائل الأزد العظيمة التي هاجرت من اليمن عقب انهيار سد مأرب الشهير. يحمل البقوم في عروقهم دماء قحطان، فهم أبناء عامر بن حوالة بن الهنوء بن الأزد بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان.
وقد اكتسبوا اسمهم من لقب جدهم المؤسس “عامر” الذي عُرف بـ “باقم”، وهو اسم يُعتقد أنه مأخوذ من جبل “باقم” الشهير في اليمن، حيث سكن ذلك الجبل وواديته. تحول اللقب مع الزمن ليصبح علماً على القبيلة بأكملها، فسُمي أبناؤها “البقوم” ومفردهم “بَقَمي” بضم الباء وفتح القاف، وهي تسمية أثبتها كبار المؤرخين والنسابة منذ القدم، كابن حبيب والأنباري وابن دريد والهمداني والأصفهاني، الذين ذكروهم في مصنفاتهم باعتزاز.
البنية القبلية: شملان عظيمان واثنا عشر فرعاً
يمثل نظام الأفخاذ لدى قبيلة البقوم نموذجاً رائعاً للتنظيم الاجتماعي البدوي، حيث تنقسم القبيلة إلى شملين كبيرين (بطنيين رئيسيين) يتفرع منهما اثنا عشر فرعاً قبلياً رئيسياً، وكل فرع بدوره ينقسم إلى فخوذ وخوامس متعددة. هذا التركيب المعقد يعكس قوة النسيج الاجتماعي للقبيلة:
شمل وازع: العمود الفقري للبقوم
يُعد شمل وازع أحد الركيزتين الأساسيتين في بنية قبيلة البقوم، ويضم ستة أفخاذ كبرى شكلت على مر التاريخ درع القبيلة وسيفها:
- الكلبة: من أكبر أفخاذ وازع وأكثرها نفوذاً، ولهم حضور قوي في ديرتهم التقليدية.
- البدارا: فخذ عريق يتميز بتاريخ حافل بالبطولات والمشاركات الفاعلة في أحداث المنطقة.
- الرحامين القروف: يجمعون بين فخذي الرحامين والقروف، ويمتلكون تقاليد مميزة وعلاقات قوية مع القبائل المجاورة.
- الدغافلة: أفخاذ معروفة بالشجاعة وحسن الضيافة، ولهم دور بارز في تاريخ القبيلة العسكري.
- الجنبة: يتميزون بحضور ثقافي واجتماعي ملموس داخل نسيج القبيلة.
وقد تولى مشيخة وازع عبر الأجيال شيوخ من آل غنام البقومي، الذين حافظوا على تماسك هذا الشمل الكبير.
شمل محاميد: إرث القيادة والحكمة
أما الشمل الثاني الكبير فهو محاميد، الذي يعد الوجه الآخر لقوة البقوم، ويضم أيضاً ستة أفخاذ رئيسية:
- الموركة: من الأفخاذ العريقة ذات الثقل الاجتماعي والسياسي داخل القبيلة.
- المرازيق: أفخاذ معروفة بالحكمة وفض النزاعات، ولهم دور تاريخي في الوساطات القبلية.
- الكرزان: يتميزون بروح المبادرة وحسن التخطيط، وكان لهم دور في تطوير مجتمعات البقوم.
- السميان: أفخاذ اشتهرت بالشعر والفصاحة، وحفظت جزءاً كبيراً من التراث الشفهي للقبيلة.
- الدهمة: من أفخاذ المحاميد البارزة، عُرف أبناؤها بالبأس والشجاعة في ميادين القتال.
- الهذلان: أفخاذ ارتبطت بعلاقات نسب ومصاهرة مع العديد من القبائل العربية الكبرى.
وقد تولى قيادة هذا الشمل شيوخ من آل محي البقومي، المعروفين بحنكتهم السياسية وإدارتهم الحكيمة لشؤون القبيلة.
الديار: من تربة إلى حضن.. جغرافيا البقوم
تمتد ديار البقوم التقليدية في منطقة استراتيجية بين الحجاز ونجد، مركزها مدينة تربة (وتعرف أيضاً بدجنة) شرق الطائف، تلك الواحة الخضراء التي شكلت قلباً نابضاً للقبيلة. تشمل ديارهم أيضاً:
- حرة البقوم (المعروفة قديماً بحرة بني هلال): تلك المساحات البركانية الشاسعة التي كانت مراعي خصبة لمواشيهم.
- جبل حضن: المعلم الجغرافي الشهير الذي يقع بين مكة المكرمة ونجد، ويعد أحد أبرز معالم ديارهم.
- المناطق المحيطة: مثل بيشة وأجزاء من الطائف.
لم تكن حياة البقوم جامدة، فكما هي عادة القبائل العربية، شهدت تاريخهم هجرات متعددة بحثاً عن الكلأ والماء أو انخراطاً في جيوش الفتوحات الإسلامية. استقرت جماعات منهم في مكة المكرمة والطائف وبيشة وحائل وبريدة والبكيرية وعنيزة والزلفي والحريق داخل المملكة، بل وامتد وجودهم إلى الزبير في العراق، ودول الخليج العربي والشام وحتى أفريقيا، حاملين معهم اسم البقوم وعاداتهم الأصيلة.
أدوار تاريخية: من الجاهلية إلى تأسيس المملكة
لم تكن قبيلة البقوم مجرد كيان سكاني، بل كانت فاعلاً رئيسياً في صنع تاريخ المنطقة:
- في العصر الجاهلي: برز منهم الفارس الشهير حازم البقمي، الذي اشتهر بموقفه من الصعلوك الشنفرى حوالي 70 سنة قبل الهجرة. وكانت لهم آلهتهم مثل ذو الخلصة وعائم، بينما حافظ بعضهم على بقايا دين إبراهيم عليه السلام.
- في العهد الإسلامي: شارك فرسان البقوم في الفتوحات الإسلامية، مستميتين في نشر الدعوة، وهو ما يفسر انتشار أفخاذهم لاحقاً في أرجاء العالم الإسلامي.
- مواجهة الدولة العثمانية: سجل البقوم صفحات مشرفة في مقاومة السيطرة العثمانية، حيث قاوموا محاولات الهيمنة على ديارهم ببسالة.
- دور محوري في توحيد المملكة: يعد دور البقوم في معارك توحيد المملكة العربية السعودية بقيادة الملك عبد العزيز آل سعود – طيب الله ثراه – من أبرز محطاتهم. لعبوا أدواراً حاسمة في:
- معركة تربة (1337 هـ / 1919 م): وهي من المعارك الفاصلة، حيث انضم فرسان البقوم بقيادة الشيخين هزاع الصفراء وعوينان البقمي (والد الشيخ جايد عوينان الذي كان رسول الملك عبد العزيز لفتح تربة) إلى قوات الملك عبد العزيز من الإخوان. كانت بسالتهم عاملاً حاسماً في تحقيق النصر. وقد تولى الشيخ محمد بن عثمان الشاوي البقمي منصب القاضي في فرقة الإخوان، ثم أصبح لاحقاً قاضي مكة المكرمة بعد فتحها.
- معارك لاحقة: استمر دورهم البطولي في معارك أخرى بقيادة شيوخهم مثل ابن غنام وابن محي وهزاع الصفراء.
وقد برز من أبناء القبيلة شخصيات تاريخية لامعة، أشهرها على الإطلاق الأميرة غالية البقمية، التي أصبحت رمزاً للشجاعة والقيادة النسائية في التاريخ العربي.
الحياة الاجتماعية والثقافية: نسيج متجذر
عاش البقوم حياة بدوية أصيلة، تمازجت مع حياة الحاضرة في وادي تربة الخصب. تميزوا بعدة سمات:
- الخيول العربية الأصيلة: اشتهروا بامتلاكهم بعضاً من أفضل مرابط الخيل في الجزيرة العربية، وكان الفروسية جزءاً أصيلاً من هويتهم.
- العرضة البقمية: فنهم الحربي الذي تحول إلى رقصة تراثية تؤدى في المناسبات السعيدة كالأعياد والأعراس والختان (الطهار). تتألف العرضة من صفين متقابلين من الراقصين يحملون السيوف أو البنادق التقليدية (المزنة)، يرافقهم شعراء يلقون قصائد الفخر والحماسة، وإيقاعات الطبول.
- الضيافة: كسائر العرب، جعل البقوم من إكرام الضيف شريعة مقدسة وعلامة بارزة على النخوة والكرم.
- التمسك بالعادات والتقاليد: حافظوا على نظام القضاء العرفي (العرف) واحترام المشيخة والصلات القبلية.
البقوم اليوم: امتداد الجذور في العصر الحديث
رغم تحولات الحياة العصرية، حافظت قبيلة البقوم على تماسكها الاجتماعي وهُويتها المميزة:
- الانتشار الجغرافي: لا يزال معظم أفراد القبيلة متمركزين في مناطقهم التقليدية حول تربة وحرة البقوم وجبل حضن، مع وجود تجمعات كبيرة في المدن السعودية الكبرى كالرياض وجدة ومكة والطائف.
- الرمز القبلي (911): يحمل أبناء البقوم الرمز القبلي 911، الذي يستخدم للتعريف بالانتماء القبلي في بعض السياقات الاجتماعية داخل المملكة وخارجها.
- المناصب والتأثير: يشغل أبناء البقوم مناصب رفيعة في مختلف قطاعات الدولة السعودية، من الوزارات والهيئات إلى القطاع العسكري والأمني والأكاديمي والخاص، مساهمين بشكل فاعل في بناء وتنمية الوطن.
- رموز القبيلة: برز من القبيلة العديد من الشخصيات البارزة في العصر الحديث، من شيوخ معروفين مثل شافي بن مفرح البقمي، ومسلط بن بنيه البقمي، ومحمد بن سلطان بن غنام البقمي، إلى علماء وأدباء ورجال أعمال ومثقفين ساهموا في إثراء الحياة الوطنية.
- التراث الحي: يحافظ أبناء البقوم على تراثهم من شعر وفنون وعادات، ويظهر ذلك جلياً في مناسباتهم الاجتماعية والوطنية.
خاتمة: أفخاذ صنعت تاريخاً
ليست قبيلة البقوم مجرد اسم في سجل القبائل العربية، ولا أفخاذها مجرد فروع في شجرة النسب. إنهم حكاية متجددة لدماء الأزد التي انتقلت من اليمن إلى قلب الحجاز ونجد، حاملة معها قيماً من الشجاعة والكرم والوفاء والتعلق بالأرض. من أفخاذ وازع ومحاميد الاثني عشر، مروراً بفروع الكلبة والبدارا والرحامين القروف والدغافلة والجنبة، والموركة والمرازيق والكرزان والسميان والدهمة والهذلان، انبثقت قوة اجتماعية وثقافية وتاريخية لا تُنكر.
لقد صنع البقوم تاريخهم بسيوفهم في ميادين المعارك دفاعاً عن دينهم وأرضهم وعرضهم، وبحكمتهم في إدارة شؤون قبيلتهم الكبيرة المترامية الأفخاذ، وبتمسكهم بتراث يجسد أصالة الجزيرة العربية. هم اليوم، كما كانوا بالأمس، جزءاً أصيلاً من نسيج المملكة العربية السعودية، يشتركون مع إخوانهم من أبناء الوطن في البناء والتطوير، حاملين بفخر اسم “بَقَمي” كشهادة على انتماء يمتد جذوره إلى عمق التاريخ العربي. أفخاذ البقوم ليست أقساماً في شجرة نسب فقط، بل هي فصول متكاملة في ملحمة عربية خالدة.