الدين والحياة

يوم عرفة أسرار المنزلة العظمى والحكمة البالغة

يعد يوم عرفة من شعائر الله الكبرى وأيامه العظمى، فهو اليوم التاسع من شهر ذي الحجة الحرام، حيث يقف فيه الحجيج على صعيد عرفة، لأداء أعظم أركان الحج، والذي لا يصح النسك دونه.

أولًا: معنى يوم عرفة

عرفات، أو عرفة، هو وادٍ فسيح يقع شرق مكة المكرمة بمسافة 22 كيلومترًا. تتعدد الأقوال في سبب تسميته، ويقف فيه حجاج بيت الله الحرام بدءًا من زوال الشمس في اليوم التاسع من ذي الحجة، وينتهي وقت وقوفهم بطلوع فجر يوم النحر (العاشر من ذي الحجة).

ثانيًا: فضائل يوم عرفة

يوم عرفة شعيرة زمانية عظيمة من شعائر الله، لا تقتصر فضائله وأحكامه وحِكَمه على الحاج وحده، بل تمتد لتشمل جميع المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها. من أبرز هذه الفضائل:

  1. الملتقى الإيماني العالمي: إنه اليوم الذي يجتمع فيه الحجيج من كل بقاع الأرض على صعيد واحد، يؤدون عبادة واحدة، ويتوجهون بأرواحهم وأجسادهم إلى رب واحد سبحانه. يقطعون علائقهم بالدنيا وأهلها، فتتلاشى جميع الفوارق العرقية والمذهبية والطائفية. لا تجد فيه شعارًا للوثنية، ولا صورًا للزعماء، ولا رايات للأحزاب. هذا الخلوص لله تعالى، والإخلاص لرب الأرض والسماء، هو سبب مباهاة الله عز وجل بعباده أمام الملأ الأعلى في هذه العشية المباركة. يقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جابر رضي الله عنه: ((ما من يومٍ أفضلَ عند الله مِن يوم عَرَفة، ينزل الله تعالى إلى سماء الدنيا، فيُباهي بأهلِ الأرضِ أهلَ السماء، فيقول: انظروا إلى عِبادي، جاؤوني شُعثًا غُبرًا ضاجِّين، جاؤوا من كل فجٍّ عميق، يرجون رحمتي ولم يَرَوا عقابي، فلم يُرَ يومٌ أكثر عتقا من النار من يوم عرفة)).
  2. ذروة الأيام العشر المباركة: يوم عرفة هو أفضل الأيام العشر المعلومات التي قال الله تعالى عنها: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} (الحج: 28). هذه العشر المباركة من ذي الحجة تُعدّ أفضل الأيام من حيث ثواب العمل الصالح فيها، وأفضل العبادات فيها التكبير وعموم ذكر الله تعالى. يُروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((مَا مِنْ أيَّامٍ، العَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أحَبُّ إِلَى اللهِ مِنْ هذِهِ الأَيَّام)) يعني أيام العشر. قالوا: يَا رسولَ اللهِ، وَلاَ الجِهَادُ في سَبيلِ اللهِ؟ قَالَ: ((وَلاَ الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ، إِلاَّ رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيءٍ)). فإذا كانت العشر موسمًا للطاعات، فإن يوم عرفة هو ذروتها، وأكثرها ثوابًا، وأعظمها منزلة، وهو فرصة ثمينة لمن قصّر فيما مضى من الأيام، ولا يعلم المرء هل يدرك هذا اليوم المبارك مرة أخرى أم لا.
  3. مغفرة الذنوب وتكفير الخطايا: هذا اليوم موسم عظيم لتكفير الخطايا من الصغائر واللَّمَم. فالحسنات تذهب السيئات، كما قال تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} (هود: 114). صيام يوم عرفة له فضل عظيم، حيث تُكفّر حسناته ما اجتمع من صغائر وهفوات المؤمن، ما لم يُصرّ عليها أو يجعلها عادة. وقد بلغ من فضله أنه يشمل تكفير الذنوب التي ارتكبت في السنة الماضية، وتلك التي قد ترتكب في السنة القادمة. ورد عن أبي قتادة رضي الله عنه أنه سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم عرفة فقال: ((يُكَفِّرُ السَّنَةَ المَاضِيَةَ وَالبَاقِيَةَ)). تجدر الإشارة إلى أن هذا التكفير لا يشمل الكبائر ولا الإصرار على الصغائر، بل هو خاص بالهفوات واللَّمم من السيئات العابرة التي تصدر من المؤمن جهلاً أو غفلة.

ثالثًا: حكم وأسرار يوم عرفة

  1. التخلية والتحلية: إذا كان أجلّ الأعمال وأفضلها في يوم عرفة وفي سائر العشر هو الصيام وذكر الله تعالى وتكبيره، فإن في ذلك معنى عميقًا من التخلية والتحلية. فالصوم يخلّص النفوس من تأثير الشهوات المادية والتعلق بالملذات الجسدية، وهو في الوقت نفسه يحلّيها بالصبر والقناعة. أما ذكر الله تعالى، فهو تخلية عن ذكر ما سواه، فالذين آمنوا أشد حبًّا لله، وهو تحلية بالطمأنينة والسكينة والسعادة وإشراقة الروح، كما قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (الرعد: 28). لذلك، شُرعت هذه الأعمال قبل عيد الأضحى مباشرة، تمامًا كما شُرع صوم رمضان قبل عيد الفطر، ليكون العيد احتفالًا بإكمال موسم من مواسم الطاعات، وليرتبط العيد في وجدان المسلم بالتوحيد والعبادة والتعلق بالله تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} (يونس: 58).
  2. المشاركة الروحية والذكر الجامع: يعيش المسلمون في كل بقاع الأرض مع الحجاج لحظات التجلي الروحي، وحلاوة العبادة، ولذة القرب من الله تعالى، فينالون نصيبهم من الخير الذي يفيض على الحجيج في عرفات. ولأجل ذلك، شُرع التكبير المطلق عقب الصلوات بدءًا من فجر يوم عرفة، وشُرع الدعاء في عشية عرفة (بدءًا من وقت الزوال) بأعظم الأدعية وهي كلمة التوحيد الخالص، وكانت هذه من سنن المرسلين. روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((أفضل ما قلتُ أنا والنبيون عشيةَ عرفة لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له المُلْك وله الحمد وهو على كل شيء قدير)).
  3. إكمال الدين وإتمام النعمة: اكتمل نزول القرآن الكريم في يوم عرفة من السنة العاشرة للهجرة النبوية. وكانت آخر آيات القرآن نزولًا هي قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (المائدة: 3). ويحق ليوم شهد اكتمال نزول الوحي أن يكون مناسبة جليلة يعظّمها المسلمون، إذ شهد هذا اليوم انقطاع وحي السماء، واكتمال الرسالات، وختم النبوة، فلا وحي بعده ولا تنزيل إلى قيام الساعة. روى البخاري عن طارق بن شهاب عن عمر بن الخطاب أن رجلًا من اليهود قال له: يا أمير المؤمنين، آيةٌ في كتابكم تقرؤونها، لو علينا معشرَ اليهود نزلت، لاتخذنا ذلك اليوم عيدًا. قال: أيُّ آية؟ قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}. قال عمر: قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي نزلت فيه على النبي صلى الله عليه وسلم، وهو قائم بعرفة يوم جمعة.

تقبل الله منا ومنكم الطاعات، وجعلنا وإياكم من المقبولين الأبرار.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock