شخصيات

عبد القدير خان : من عامل معادن مغمور إلى بطل باكستان النووي

يتناول هذا المقال حياة العالم النووي الباكستاني عبد القدير خان، مسلطًا الضوء على رحلته من بداياته المتواضعة في الهند، مرورًا بتعليمه في أوروبا وعمله في مجال تخصيب اليورانيوم، وصولًا إلى دوره المحوري في تأسيس البرنامج النووي الباكستاني. كما يستعرض المقال إنجازاته التي جعلت من باكستان أول قوة نووية إسلامية، والجدل الذي أثير حول أنشطته المتعلقة بتسريب الأسرار النووية، وصولًا إلى وفاته وتكريمه كبطل قومي.

يعد عبد القدير خان اكبر علماء باكستان في المجال الهندي واستطاع ان ينهض ببلاده في مصاف الكبار ، وحقق لبلاده سمعة عسكرية كبيرة اكسبتها احترام الدول القريبة والبعيدة، وبفضله استطاعت باكستان ان تفرض قوتها ونفوذها في شبه القارة الهندية ، وحظي عبدالقدير خان بمكانة شعبية رفيعية في قلوب الملايين من محبيه داخل باكستان وخارجها، كما حظي بالكثير من الجوائر التي تعكس المكانة العلمية التي تفوق بها على الكثير من علماء زمانه.

نشأة وتعليم عبد القدير خان

في مطلع شهر أبريل من عام 1936، تحديدًا في مدينة بوبال الهندية التي كانت آنذاك تحت الحكم البريطاني، وُلد عبد القدير عبد الغفور خان. لقد نشأ في كنف أسرة ذات تدين والتزام، حيث كان والده، عبد الغفور خان، يعمل معلمًا قبل أن يتقاعد في عام 1935 ويتفرغ لرعاية ابنه. وفي عام 1964، ارتبط عبد القدير خان بهندرينا ريترينك، وهي سيدة بريطانية ولدت في جنوب أفريقيا لأبوين هولنديين، وقد رزقا بابنتين هما دينا وعائشة.

في مسقط رأسه بقلب الهند، تلقى عبد القدير خان تعليمه الثانوي في مدرسة الحامدية. وبعد مرور سنوات، وبالتحديد في عام 1952، هاجر إلى باكستان، حيث التحق بكلية العلوم في جامعة كراتشي عام 1960. لكن طموحه العلمي دفعه لاستكمال تعليمه العالي في جامعات أوروبية مرموقة. وهكذا، قضى فترة في جامعة برلين التقنية لمدة عامين من التدريب المكثف. وفي عام 1967، نال درجة الماجستير من جامعة دلفت التكنولوجية في هولندا. ولم يتوقف سعيه عند هذا الحد، بل حصل على درجة الدكتوراه في الهندسة من الجامعة الكاثوليكية في لوفين ببلجيكا عام 1972.

مسيرة مهنية واعدة: من هولندا إلى باكستان

بعد حصوله على درجة الدكتوراه المرموقة، انضم عبد القدير خان إلى شركة “إف دي أو” الهندسية الهولندية، حيث شغل منصبًا رفيعًا ككبير لخبراء المعادن. وتجدر الإشارة إلى أن هذه الشركة كانت تربطها علاقات وثيقة بمنظمة “اليورنكو” التي كانت تهتم بشكل أساسي بتخصيب اليورانيوم. وخلال فترة عمله هناك، وتحديدًا في عام 1974، تمكن عبد القدير خان من نسخ تصاميم حيوية لأجهزة الطرد المركزي. بالإضافة إلى ذلك، قام بجمع قائمة شاملة بأسماء الشركات التي كان بإمكانها تزويد باكستان بالتكنولوجيا الضرورية لإنتاج يورانيوم عالي التخصيب، وهو عنصر أساسي في صناعة الأسلحة النووية. وبعد عام واحد من هذه الخطوة الحاسمة، اتخذ قرارًا بالعودة إلى باكستان برفقة زوجته وابنتيه، ليبدأ فصلًا جديدًا في حياته المهنية والعلمية.

نقطة تحول تاريخية: رئاسة البرنامج النووي الباكستاني

في عام 1975، شهدت باكستان تحولًا استراتيجيًا بالغ الأهمية، حيث تم اختيار عبد القدير خان لرئاسة برنامجها النووي الطموح. وقد جاء هذا الاختيار عقب رسالة مؤثرة وجهها إلى رئيس الوزراء آنذاك، ذو الفقار علي بوتو، أعرب فيها عن استعداده الكامل لمساعدة بلاده على امتلاك قدرات نووية تضاهي قدرات غريمتها الهند، التي كانت قد فجرت قنبلتها النووية الأولى في الثامن عشر من مايو عام 1974.

وبالفعل، في منتصف عام 1976، انطلق البرنامج النووي الباكستاني رسميًا، وذلك بعد أن قام عبد القدير خان بتأسيس مختبر الأبحاث الهندسية في منطقة كاهوتا، التي تبعد حوالي خمسين كيلومترًا جنوب شرق العاصمة إسلام آباد. وبعد مرور خمسة أعوام على تأسيس هذا الصرح العلمي، تم تكريمه بتسميته باسمه، “مختبرات خان للأبحاث”، تقديرًا لجهوده البحثية المتميزة وإسهاماته القيمة في هذا المجال الحساس.

احد الصواريخ البالستية التي تمتلكها باكستان
احد الصواريخ البالستية التي تمتلكها باكستان

بناء القدرات النووية: السرية والنجاح

لقد كان للسرية العالية التي أحاطت بجهود عبد القدير خان، بالإضافة إلى شبكة علاقاته الواسعة مع الشركات الغربية المتخصصة في مجال التخصيب، دور حاسم في النجاح الذي حققه مشروع إنشاء القنبلة النووية الباكستانية. فبفضل هذه العوامل، تمكن من بناء آلات الطرد المركزي المتطورة وتطوير الأبحاث في هذا المجال بكفاءة وفعالية. ولم تقتصر أنشطته على ذلك فحسب، بل امتدت لتشمل برامج دفاعية متنوعة، مثل تصنيع الصواريخ وتصميم الأجهزة العسكرية، بالإضافة إلى إطلاق برامج تنموية تخدم البلاد.

وفي الفترة ما بين الثامن عشر والحادي والعشرين من شهر سبتمبر عام 1986، ذكرت صحيفة “واشنطن بوست” الأمريكية أن باكستان نفذت أول تفجير نووي لها تحت سطح الأرض. ونتيجة لهذا الإنجاز التاريخي، أطلقت الصحافة على عبد القدير خان لقب “أبو القنبلة الذرية الإسلامية”، وامتلأت شوارع المدن الباكستانية بصوره التي عكست مكانته الوطنية الرفيعة، خاصة مع جهوده الخيرية الملحوظة التي شملت إنشاء العديد من المدارس وحملته لمكافحة الأمية.

ضغوط دولية وتحديات قانونية

في المقابل، ونتيجة لامتلاك باكستان للسلاح النووي، تعرضت لضغوط متزايدة من الدول الغربية، بدأت بعقوبات اقتصادية، وتلتها قيود على التعاملات التجارية، بالإضافة إلى حملات إعلامية مكثفة استهدفت شخصيات باكستانية بارزة. وقد بلغت هذه الضغوط ذروتها برفع قضية ضد عبد القدير خان في هولندا عام 1983. وفي هذه القضية، حكمت محكمة أمستردام غيابيًا عليه بالسجن لمدة أربع سنوات بتهمة محاولة التجسس وسرقة وثائق نووية سرية. إلا أن خان نفى هذه الاتهامات بشكل قاطع، كما فندتها حكومة باكستان، ليتم إسقاط التهمة عنه لاحقًا.

شبهات التسريب ووضع عبد القدير خان الإقامة الجبرية

في شهر أكتوبر من عام 2003، تمكن خفر السواحل الإيطالي من ضبط سفينة شحن كانت متجهة إلى ليبيا، وقد تبين أنها تحمل معدات لا يمكن استخدامها إلا في صناعة الأسلحة النووية. وعلى إثر ذلك، أُعلن عن وجود شبكة دولية تقف وراء هذه الشحنة، وأن عبد القدير خان هو من يقود هذه الشبكة. وفي شهر ديسمبر من العام نفسه، قامت الأجهزة الأمنية الباكستانية باستجواب عبد القدير خان وعدد من علماء الذرة الباكستانيين بشأن احتمال وجود صلة بين البرنامجين النوويين في باكستان وإيران، بالإضافة إلى تسريب أسرار نووية إلى دول أخرى مثل ليبيا وكوريا الشمالية.

وفي الرابع من فبراير عام 2004، ظهر عبد القدير خان على شاشات التلفزيون ليعترف بتسريب هذه الأسرار إلى دول أخرى، لكنه نفى في الوقت نفسه أي مسؤولية تقع على حكومة بلاده في هذا الأمر. وقد أثار اعترافه هذا غضبًا واسعًا في صفوف الجيش الباكستاني، مما دفع السلطات في اليوم التالي مباشرة إلى وضعه قيد الإقامة الجبرية. كما مُنع من مقابلة أي شخص، بما في ذلك ممثلي الوكالة الدولية للطاقة الذرية، ومُنع من مغادرة باكستان خشية إلقاء القبض عليه واستجوابه.

عبدالقدير خان تحت الاقامة الجبرية
عبدالقدير خان تحت الاقامة الجبرية

تراجع عن الاعتراف وإغلاق الملف

بعد مرور أكثر من أربع سنوات على وضعه تحت الإقامة الجبرية، وتحديدًا في الخامس من يونيو عام 2008، تراجع عبد القدير خان عن اعترافه السابق. وأوضح أنه تعرض لضغوط شديدة دفعته إلى الاعتراف بأفعال لم يرتكبها. واكتفى بالإشارة إلى أنه قدم إرشادات لإيران وكوريا الشمالية حول الشركات الأوروبية التي يمكن أن تزودهما بالتكنولوجيا اللازمة لمشاريعهما النووية. وبعد شهر واحد من هذا التصريح، أعلنت وزارة الخارجية الباكستانية عن إغلاق ملف عبد القدير خان، مؤكدة أنه لا توجد حاجة لإعادة فتحه من جديد. وفي السادس من فبراير عام 2009، تم الإفراج عنه بعد أن قضى خمس سنوات تحت الإقامة الجبرية. وفي شهر أغسطس من العام نفسه، أصدرت المحكمة العليا في مدينة لاهور الباكستانية قرارًا أمرت فيه الحكومة برفع جميع الإجراءات العقابية المتبقية المفروضة عليه، وقد انتقدت الولايات المتحدة هذا القرار بشدة.

شكوك أمريكية وتدمير وثائق

على الرغم من إغلاق باكستان لملف عبد القدير خان، فقد أبدت الولايات المتحدة الأمريكية شكوكًا مستمرة بشأن احتمال استمراره في نشر مواد نووية حساسة. وقد دفعت هذه الشكوك واشنطن إلى فرض عقوبات على باكستان في عام 2003، وذلك بسبب ما زُعم عن قيامها بنقل تكنولوجيا الصواريخ من كوريا الشمالية. وفي شهر فبراير من عام 2008، تمكنت وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (سي آي إيه) من إقناع الحكومة السويسرية بتدمير كمية هائلة من الوثائق والمخططات الرقمية التي صودرت من ثلاثة من شركاء خان في سويسرا. وقد تضمنت هذه المواد معلومات بالغة الأهمية، مثل خريطة طريق للمشاركين في شبكة خان، وجردًا تفصيليًا للتكنولوجيا المتداولة في السوق السوداء، بما في ذلك تصاميم الأسلحة المتقدمة.

مواضيع ذات صلة:

مؤسس المملكة العربية السعودية

علي سالم البيض مسيرته ورحلته السياسية

مؤلفات وجوائز تقديرية

على صعيد إسهاماته الفكرية، نشر عبد القدير خان كتابه الذي حمل عنوان “القنبلة الإسلامية” باللغة الإنجليزية في عام 1981. بالإضافة إلى ذلك، نشر أكثر من مائة وخمسين بحثًا علميًا في العديد من المجلات العلمية العالمية المرموقة، مما يعكس عمق معرفته ومساهماته في المجال العلمي.

وعلى المستوى الوطني، يحظى عبد القدير خان بتقدير واسع النطاق في باكستان، حيث ينظر إليه غالبية الشعب كبطل قومي قدم إسهامات جليلة في تطوير العلوم والتكنولوجيا وتعزيز أمن البلاد. وقد تم تكريمه بمنحه وسام “هلال الامتياز” في عام 1989، ثم حصل على أعلى وسام مدني في باكستان، وهو “نيشان الامتياز”، في عام 1996. كما حصل على ثلاث عشرة ميدالية ذهبية من معاهد ومؤسسات مختلفة تقديرًا لإنجازاته. وفي عام 2003، أعلنت جامعة “سير سييد” للهندسة والتكنولوجيا عن منحه لقب “خريج متميز”، اعترافًا بـ “خدماته الجليلة ومساهماته القيمة في البحث العلمي وتطبيقاته العملية المفيدة للبشرية”.

محنة المرض والرحيل الأخير

في الثاني والعشرين من شهر أغسطس عام 2006، أعلنت السلطات الباكستانية عن إصابة عبد القدير خان بسرطان البروستاتا. وفي التاسع من شهر سبتمبر من العام نفسه، خضع لعملية جراحية لاستئصال الورم في أحد مستشفيات مدينة كراتشي. وبعد مرور عامين تقريبًا، وتحديدًا في الخامس من مارس عام 2008، أدخل مرة أخرى إلى مستشفى في إسلام آباد نتيجة إصابته بالتهاب، لكن حالته الصحية تحسنت وغادر المستشفى بعد خمسة أيام. وفي العاشر من أكتوبر عام 2021، فارق عبد القدير خان الحياة في أحد مستشفيات العاصمة إسلام آباد، وذلك بعد أن أدخل إليه مصابًا بفيروس كورونا. وقد أعرب رئيس الوزراء الباكستاني آنذاك، عمران خان، عن حزنه العميق لوفاته، واصفًا إياه بأنه كان “محبوبًا من أمتنا”.

من رفض إلى رمز: قصة صعود ملهمة

إن قصة عبد القدير خان تحمل في طياتها دروسًا عميقة وملهمة. فبعد أن غادر باكستان طالبًا للعلم في برلين، تعرف على سيدة هولندية من أصل أفريقي وقرر الاستقرار في أوروبا من أجلها. لكن محاولاته المتكررة للعودة إلى باكستان باءت بالفشل في البداية، حيث قوبل بالرفض عند تقديمه للعديد من الوظائف في مصانع الحديد في كراتشي. لكنه لم يستسلم، بل قرر إكمال دراسته وحصل على درجة الدكتوراه في بلجيكا.

وفي أحد أيام السبعينيات، تحديدًا في عام 1974، استيقظ الشعب الباكستاني على خبر صادم مفاده أن الهند قد طورت قنبلة نووية ومفاعلًا نوويًا، مما جعل الخصم اللدود أقوى بكثير. وعلى الرغم من محاولات الباكستانيين الدخول في المجال النووي، إلا أن قلة الخبرة وعدم وجود خبراء متخصصين أوقفا المشروع عدة مرات.

في تلك اللحظة الحاسمة، أرسل عبد القدير خان رسالة سرية إلى رئيس الوزراء الباكستاني ذو الفقار بوتو، مؤكدًا له أنه قادر على بناء قنبلة ذرية انشطارية لباكستان. وعلى الفور، تم استدعاؤه ونقله مع زوجته على متن طائرة خاصة. وهكذا، قرر خان الاستقرار في باكستان، وقد وافقت زوجته على هذا القرار المصيري.

وقع اختيار عبد القدير خان على منطقة كاهوتا لتكون موقعًا للمشروع النووي، وهي منطقة نائية وغير مأهولة ولا يتوقع أحد وجود أي منشأة عسكرية أو حساسة فيها. وقد وضع خان شروطًا صارمة لضمان سرية المشروع ونجاحه، منها عدم السماح بدخول أي شخص إلى البرنامج، حتى كبار قادة الجيش والأمن، والحفاظ على سرية عالية للغاية، ومنع حتى رئيس الوزراء من دخول المبنى، بالإضافة إلى حقه الكامل في اختيار فريق العمل بنفسه، وتوفير ميزانية مخصصة للمشروع لا تمر عبر ميزانية الحكومة. كما اختار إجراء تفجيرات التجارب النووية تحت الماء وفي وقت متأخر من الليل بعيدًا عن أعين الأقمار الاصطناعية والرقابة الهندية والغربية.

صراع العمالقة : عبد القدير خان والجنرال مشرف في ميزان التاريخ

في الواقع، لقد بلغ عبد القدير خان منزلة مرموقة في وجدان الشعب الباكستاني، وذلك بفضل إنجازه العظيم في امتلاك باكستان للسلاح النووي. وعلاوة على ذلك، أطلقت عليه وسائل الإعلام لقب “أبو القنبلة الذرية الإسلامية” تعبيرًا عن التقدير لهذا الدور التاريخي. وبالمثل، امتلأت شوارع المدن الرئيسية بصوره التي عكست مدى الاعتزاز الشعبي به وبإسهاماته في رفع شأن البلاد على المستوى العالمي. بالإضافة إلى ذلك، لم تقتصر جهوده على المجال النووي فحسب، بل امتدت لتشمل العديد من المشروعات الخيرية التي كان لها أثر إيجابي على حياة الكثيرين، مثل تأسيس المدارس والجمعيات الخيرية وتقديم المساعدة للفقراء والمحتاجين.

ضغوط دولية وصعود الجنرال مشرف

في المقابل، فإن دخول باكستان إلى النادي النووي أثار قلقًا بالغًا لدى القوى العالمية المؤثرة في ذلك الوقت، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية. فقد رأت واشنطن في هذه الخطوة تهديدًا مباشرًا لمصالحها وحلفائها الإقليميين. ونتيجة لذلك، مارست الولايات المتحدة ضغوطًا مكثفة على الدولة الباكستانية بكل السبل المتاحة. وقد بلغت هذه الضغوط ذروتها بشكل خاص في عهد الجنرال برويز مشرف، الذي وصل إلى السلطة في باكستان عن طريق انقلاب عسكري في عام 1999.

برويز مشرف الجنرال الذي وضع عبدالقدير خان تحت الاقامة الجبرية
برويز مشرف الجنرال الذي وضع عبدالقدير خان تحت الاقامة الجبرية

محاولة الإرضاء الأمريكي وتشويه سمعة خان

في تلك الفترة الحساسة، بدا أن الجنرال مشرف كان حريصًا على كسب رضا الإدارة الأمريكية الجديدة. وهكذا، سعى لتقديم أوراق اعتماده للولايات المتحدة من خلال تبني موقف متشدد تجاه عبد القدير خان ومحاولة تشويه صورته وسمعته على المستوى الدولي والمحلي. وقد استند مشرف في هذه الحملة إلى الاتهامات التي كانت تلاحق العالم الباكستاني بشأن قيامه بنقل تكنولوجيا نووية حساسة إلى دول مثل إيران وكوريا الشمالية. بالإضافة إلى ذلك، استغلت حادثة ضبط شحنة من العناصر النووية كانت في طريقها إلى ليبيا في أكتوبر من عام 2003 من قبل السلطات الإيطالية لتأكيد هذه الاتهامات.

الاستجواب والاعتراف المتلفز ثم التراجع

في شهر ديسمبر من عام 2003، خضع عبد القدير خان، برفقة عدد من علماء الذرة الباكستانيين البارزين، لجلسات استجواب مكثفة من قبل الأجهزة الأمنية الباكستانية. وقد تركزت الأسئلة حول احتمال وجود تعاون نووي بين باكستان وإيران، بالإضافة إلى مزاعم تسريب أسرار نووية إلى دول أخرى مثل ليبيا وكوريا الشمالية. ونتيجة لهذه الضغوط الهائلة التي فاقت قدرة خان على التحمل والمواجهة، حدث ما لم يتوقعه الكثيرون.

ففي الرابع من فبراير عام 2004، فوجئ العالم بظهور عبد القدير خان على شاشات التلفزيون الباكستاني وهو يعلن تحمله المسؤولية الكاملة عن تسريب أسرار نووية إلى دول أخرى. وقد بدا هذا الاعتراف محاولة واضحة لتبرئة ساحة الحكومة الباكستانية التي كانت آنذاك تواجه ضغوطًا أمريكية ودولية متزايدة. ومع ذلك، لم يلبث خان أن تراجع عن تلك التصريحات لاحقًا، مؤكدًا أن اعترافه الأول جاء تحت ضغط وتهديد مباشر من الجنرال برويز مشرف.

إسهامات أخرى في خدمة الوطن

بالإضافة إلى دوره التاريخي في البرنامج النووي، لعب عبد القدير خان دورًا محوريًا آخر في خدمة وطنه من خلال برنامج الفضاء الباكستاني. فقد قام بإعادة تنظيم وكالة الفضاء الوطنية الباكستانية المعروفة باسم “سوباركو”. وفي أواخر التسعينيات من القرن الماضي، ساهم بشكل فعال في إطلاق أول مشروع باكستاني لتطوير مركبة لإطلاق الأقمار الصناعية القطبية، بالإضافة إلى مركبة أخرى لإطلاق الأقمار الاصطناعية.

هدية مجانية للهند وإضعاف الموقف الباكستاني

إن الحملة التي شنها الجنرال مشرف ضد عبد القدير خان، والتي هدفت بشكل أساسي إلى إرضاء البيت الأبيض والإدارة الأمريكية، قدمت في الواقع هدية مجانية للهند، المنافس الإقليمي لباكستان. فقد استغلت الهند هذه الفرصة لتوجيه اتهامات للحكومة الباكستانية بأنها “ليست أمينة على ما لديها من عتاد نووي”. وقد أدت هذه الاتهامات إلى إضعاف موقف باكستان بشكل ملحوظ في ساحة الصراع والتنافس مع جارتها الهندية على المستويات الإقليمية والدولية.

مفارقة تاريخية: تكريم في الهند واتهامات في باكستان

ومن المفارقات العجيبة في هذا السياق، أنه في الوقت الذي كان فيه عبد القدير خان، الرجل الذي وضع بلاده على خريطة القوى العالمية بدخولها النادي النووي، يواجه كل هذه الاتهامات وحملة تشويه السمعة المتعمدة، كان نظيره الهندي، أبو بكر زين العابدين عبد الكلام، الذي يلقب بـ “أبو البرنامج الصاروخي الهندي”، يعامل معاملة الأبطال القوميين في بلاده. بل إن عبد الكلام عين رئيسًا للهند بعد نحو عامين فقط من التفجيرات النووية الهندية التي جرت في عام 1998.

إرث مستمر وتأثير دائم

إن الدور الذي قدمه عبد القدير خان لوطنه لم يقتصر فقط على تصنيع السلاح النووي الذي ضمن أمن البلاد، بل امتد ليشمل مجالات أخرى حيوية. فبالإضافة إلى مساهماته في برنامج الفضاء، كان له دور فعال في تأسيس العديد من الجامعات الهندسية المرموقة في باكستان، ومن بينها معهد المعادن وعلوم المواد في معهد غلام إسحاق خان للعلوم الهندسية والتكنولوجيا. وهكذا، يظل الدكتور عبد القدير خان صفحة مشرقة في تاريخ باكستان، وقد خلد اسمه بأحرف من نور في قلوب الشعب الباكستاني الذي أدرك قيمته الحقيقية وقدر دوره الوطني العظيم، على الرغم من محاولات التشويه التي تعرض لها في عهد الجنرال مشرف.

حضور ثقافي وعلمي بارز

لقد كان للعالم الباكستاني الراحل حضور ثقافي وعلمي لافت للنظر. ويعد كتابه “القنبلة الإسلامية” الذي صدر عام 1981 من أبرز مؤلفاته، بالإضافة إلى نشره ما يقارب 150 بحثًا علميًا في مجلات علمية عالمية مرموقة. وقد تناولت هذه البحوث العديد من الجوانب والأسرار المتعلقة بالقنبلة النووية، وتخصيب اليورانيوم، وصناعة المعادن، وكيفية توظيفها في المجالات العلمية المختلفة.

تكريم وتقدير للإنجازات العلمية

خلال مسيرته العلمية المتميزة، حصل عبد القدير خان على نحو 13 ميدالية ذهبية من معاهد ومؤسسات علمية مختلفة تقديرًا لإسهاماته. كما منح وسام “هلال الامتياز”، وهو أعلى وسام مدني تمنحه دولة باكستان، وذلك في عامي 1989 و1996. وفي عام 2003، أعلنت جامعة “سير سيد” للهندسة والتكنولوجيا عن منحه لقب “خريج متميز” اعترافًا بـ “خدماته الجليلة ومساهماته القيمة في البحث العلمي وتطبيقاته العملية المفيدة للبشرية”.

محنة المرض والوداع الأخير

في الثاني والعشرين من أغسطس عام 2006، أعلنت السلطات الباكستانية أن عبد القدير خان يعاني من مرض سرطان البروستاتا وأنه يخضع للعلاج. وقد استمر العالم النووي في معاناته مع هذا المرض حتى وفاته الرسمية التي أُعلنت بعد إصابته بفيروس كورونا المستجد (كوفيد-19). وقد نقل على إثر هذه الإصابة إلى أحد مستشفيات إسلام أباد حيث وافته المنية ليلة الأحد الموافق العاشر من أكتوبر عام 2021 عن عمر يناهز الخامسة والثمانين عامًا.

رحيل عبدالقدير خان

رثاء وطني وتقدير مستحق

لقد كانت وفاة العالم النووي عبد القدير خان صدمة كبيرة للشارع الباكستاني الذي يكن له تقديرًا عميقًا. وقد نعاه الرئيس الباكستاني عارف علوي قائلًا: “لقد ساعدنا في تطوير الردع النووي لإنقاذ الأمة، ولن تنسى الأمة الممتنة خدماته في هذا الصدد”. وبدوره، قال رئيس الوزراء عمران خان: “لقد كان محبوبًا من أمتنا بسبب مساهمته الحاسمة في جعلنا دولة نووية. وقد وفر لنا ذلك الأمن ضد جار نووي عدواني أكبر بكثير. بالنسبة لشعب باكستان كان رمزًا وطنيًا”. أما وزير الدفاع برويز ختك، فقد نعاه قائلًا: “باكستان ستعتز بخدماته للأمة إلى الأبد، والأمة مدينة له بشدة لإسهاماته في تعزيز قدراتنا الدفاعية”. وهكذا، يظل الدكتور عبد القدير خان صفحة ناصعة البياض في تاريخ الدولة الباكستانية، وقد خلد اسمه – رغم محاولات التشويه في عهد مشرف – بأحرف من نور في قلوب الشعب الباكستاني الذي يعرف قيمته ويقدر دوره الوطني، حتى بات علمًا من أعلام البلاد، لتبقى سيرته جديرة بالدراسة ونبعًا تستلهم منه الأجيال معاني الوطنية والإباء.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock