قبيلة العبيدي : سفر عبر التاريخ.. من الجزيرة إلى الخليج

تشكِّل قبيلة العبيدي (أو العبيد) واحدة من أعمدة النسيج الاجتماعي والتاريخي في العراق والجزيرة العربية، حاملةً في طياتها إرثًا من البطولة، السياسة، الهجرة، والتكيُّف مع تحولات الزمن. هذا التقرير الشامل يتجاوز السرد التقليدي ليغوص في أعماق تاريخ هذه القبيلة العريقة، أصولها، تفرعاتها المعقدة، نفوذها المتقلب، وانتشارها الواسع من ضفاف دجلة والفرات إلى أطراف الخليج العربي وجنوب الجزيرة، مستندًا إلى أمهات كتب الأنساب والمصادر التاريخية الموثوقة.
اصل قبيلة العبيدي
- النسب المؤسس: تجمع الروايات التاريخية وكتب الأنساب الموثوقة (كـ “عنوان المجد” و”الدرر المفاخر” و”قويم الفرج بعد الشدة”) على أن قبيلة العبيدي تنحدر من عبيد بن عمرو بن معدي كرب الزبيدي، الشهير من قبيلة زبيد اليمنية الكبرى. وهي بذلك تشترك في الجذور مع قبيلتي الجبور (من أخيهم جبر) والدليم (من أخيهم ثامر)، لتشكل الثلاثية الزبيدية المهيمنة في مناطق واسعة من العراق.
- رحلة الهجرة الأسطورية: تروي السير الشعبية رحلة مضنية قام بها الأخوة الثلاثة (عبيد، جبر، ثامر) من اليمن إلى نجد، ثم إلى الصحراء السورية (بادية الشام)، قبل أن يتفرق أحفادهم. حيث اتجه أحفاد عبيد (العبيد) مع تيار التاريخ إلى عمق منطقة الجزيرة الفراتية (بين دجلة والفرات)، ليستقروا في البداية على الضفة الشرقية لنهر دجلة منذ أوائل القرن الثامن عشر الميلادي (حوالي 1707م)، مبتدئين فصلًا جديدًا من فصول وجودهم.
- تفنيد الأخطاء التاريخية: يحرص مؤرخو الأنساب (كالحيدري) على تفنيد الالتباس مع قبيلة “بني العبيد” القديمة التي ذكرها الشاعر الجاهلي الأعشى، والتي تعود إلى قضاعة. ويؤكدون أن قبيلة العبيد الحالية هي قبيلة زبيدية صميمة، وأن تسميتها وتشكل فروعها بالصورة المعروفة هو تطور تاريخي حديث نسبيًا بدأ بشكل أوضح منذ القرن الحادي عشر الهجري تقريبًا، مع بروز شخصيات مثل شاوي بن نصيف من البو شاهر كأحد رؤسائها الأوائل المؤسسين لنفوذها.
تاريخ قبيلة العبيدي
- التحالف مع السلطة العثمانية: لم تكن العبيد مجرد قبيلة بدوية، بل سرعان ما برزت كقوة سياسية وعسكرية فاعلة. بلغ نفوذ شيخها الشيخ عبد الله الشاوي (من البو شاهر) ذروته في القرن الثامن عشر، حيث دخل في حاشية “باشا بغداد” العثماني، متقلدًا دور “وسيط العرب” الرسمي بين الحكومة المركزية في بغداد والعشائر المحلية في المنطقة. هذه المكانة الرفيعة:
- عززت هيبة القبيلة بين بدو الرافدين.
- مكنتها من توسيع مناطق نفوذها بشكل كبير، امتدادًا من نهر الخابور وتكريت شمالاً حتى أبواب بغداد جنوباً.
- جعلتها موردًا بشريًا موثوقًا به للعثمانيين، الذين استعانوا “ببسالة وشجاعة رجال العبيد” كقوات عسكرية غير نظامية (مشاة وفرسان) لحماية حدود الولاية ودرء المخاطر.
- سلسلة الثورات: تحدّي السُلطة: على الرغم من هذا التحالف، لم تكن علاقة العبيد بالحكم العثماني دائمًا سلمية. سجّل التاريخ سلسلة من الثورات والهبّات القبلية القوية ضد الباشوات العثمانيين، أبرزها في أعوام:
- 1769م: ثورة مبكرة ضد مظالم الحكم.
- 1785م: تصعيد للمطالب ورفض الهيمنة.
- 1802م – 1803م: الثورة الأعنف، حيث عجز الباشا عن قمعها تمامًا. عبرت القبيلة نهر الفرات إلى الصحراء السورية (بادية الشام) في هجرة قسرية مؤقتة هربًا من القمع.
- 1805م – العودة والمواجهة: عند عودة العبيد، أمر الباشا أميرين كرديين تابعين له (باشا شهرزور وباشا كويسنجق) بمهاجمتهم وطردهم. لكن الخطة تحولت إلى فشل ذريع ومأساة، حيث استغل باشا شهرزور الفرصة لتصفية حسابات قديمة مع زميله باشا كويسنجق وقتله. ثم لجأ بدوره إلى العبيد، مستنجدًا بهم في كركوك لمواجهة حملة تأديبية عثمانية متوقعة ضده، في دليل صارخ على قوتهم العسكرية التي أصبحت محط أنظار الجميع.
التفكك الجغرافي لقبيلة العبيدي
- التراجع والتفكك الجغرافي: حاولت القبيلة عبثًا استعادة مكانتها السابقة في منطقة الجزيرة. ومع تعاظم الضغوط العثمانية والتغيرات الديموغرافية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، أجبرت على إخلاء الجزيرة بشكل شبه نهائي. كانت النتيجة تفككًا جغرافيًا كبيرًا:
- الهجرة نحو الغرب والشمال: هاجر فرع اللهيب (أبناء عمومة مقربون) إلى منطقة حلب في سوريا. بينما استقر فرع الغرير جنوب مدينة الفلوجة. واتجه فرع البو حمد نحو منطقة الموصل.
- التأسيس في حويجة العبيد: عبرت الجموع الرئيسية للقبيلة نهر دجلة شرقًا، واستقرت في الأراضي الخصبة المحيطة بنهري الزاب الصغير والعظيم، والتي عُرفت منذ ذلك الحين باسم “حويجة العبيد” (في محافظة كركوك الحالية). هنا، تحول جزء كبير منهم تدريجيًا من حياة البداوة والرعي إلى الزراعة الحقلية (خاصة عشيرة البو هيازع)، بينما حافظ آخرون على تربية الإبل والماشية.
- الحفاظ على الهوية المحاربة: رغم الاستقرار الجزئي، حافظ العبيد على سمعتهم القتالية. وتجلى هذا جليًا عند استجابة حوالي 150 فارسًا منهم لنداء الجهاد الذي أعلنته الدولة العثمانية مع اندلاع الحرب العالمية الأولى عام 1914م، كما ذكرت الصحف العراقية آنذاك.
شجرة قبيلة العبيدي
يعتمد نظام القبيلة على أصول متفرعة تنحدر من أبناء حازم العبيد (“الحوازم”)، وأبناء محمد العبيد (“الدويمع”)، وأبناء خالد العبيد (“البومفرج”). وتتفرع كل منها إلى بطون وعشائر وفخوذ متعددة:
- أبناء حازم العبيد (الحوازم): وهم أكبر الفروع وأكثرها تنوعًا:
- آل مشهد (المشاهدة): وينقسمون إلى:
- البو شاهر: (فخذ الرؤساء التاريخي) بفروعه: الحمد الظاهر/المصطفى، المحمد الظاهر، الحربي، الهندي، الفراس، الفارس، الشاوي، المرعي، الطعان/الرميزان، الحسين الشاهر، الحمد المحمد، البو سعيد.
- البو حمد: بفروعه: الحمد الجاسم، المحمد الجاسم، البو نوفل، الفضلي/البو فضلي، البو بدير، الكنج، الصعب.
- البو بطوش: بفروعه: العساف، الشديد، الحنيشات، البو شيبان، البو ريّس.
- العجالي/البو عكلي، الكوامات، البو حمزة، البو سعيد (مركزهم في ناحية الرياض وصلاح الدين).
- خلفة علي: يسكنون الحويجة والمنسية وما جاورها: البو هويشل، الحمران (ويُقال أنهم أصل القرا غول الملتحقين بالعبيد)، البو مسعود (ومنهم الملالحة والنويرات/الحسيوات)، البو فضل، البو حاضر، الذويبات، العساجرة، الحسيوات، المعاجلة، الحمّور.
- خلفة حازم: البو عساف، البو صالح، البو حسان.
- آل مشهد (المشاهدة): وينقسمون إلى:
- أبناء محمد العبيد (الدويمع): يتوزعون على فرق كثيرة:
- البو هيازع: (اشتهروا بالزراعة) بفروعه: أولاد الشايب/الكبيب/البو عواد/البو طلحة/البو غنام/البو صليبي، الكبيشات/الغوالبة/البو عيسى/البو حنيحن/المناهلة/الولايدة/المخايلة.
- البو علكة (علقي): بفروعه الكثيرة: الملاحمة/العزبة/البو حسين/العفاريت/البو شبيب/البو ناجي، البو ثاير/السبيعات/البو جامل/البو راشد/المناجلة، البو محسن/البو والدة/الدرعان/الشلاهمة/البو حبيب، البو رومي/البو جادر/الرفة/الرملات، الشعيفات/البو عباس/البو عليوي/البو هور، البو طرودي/البو فنش/البو حمد، المشاعلة/البو درويش/المصلح، الشليخات/البو نجم/البو كمر/البو داود/البو نداوي.
- البو رياش: بفروعه: البو ظاهر، المريخات، البو سليمان، الحمور، البوجابر، البو عوفي، البراغشة، البو برك، البو علي.
- البو جهيمي: وهم قليلون نسبيًا، وينتسب إليهم بيتان علميان بارزان في بغداد هما آل النائب وآل الشيخ سعيد.
- أبناء خالد العبيد (البومفرج): البو عابر، البو عيد، البو صالح، المداهنة، البو چامل.
العبيدي في الميزان الاجتماعي والثقافي
- البيوتات البارزة في الحواضر:
- بغداد: شهدت استقرار عدد من بيوت العبيد المرموقة منذ القدم، لعبوا أدوارًا سياسية وثقافية:
- آل الشاوي: يعود تواجدهم إلى أوائل القرن 12 هـ. برز منهم شاوي بن نصيف (مؤسس النفوذ السياسي، الملقب بـ “باب العرب”).
- آل النائب، آل الشيخ سعيد، آل الشيخ علي: عائلات علمية وأدبية معروفة في بغداد، أنجبت فقهاء، مدرسين، وأدباء ساهموا في الحياة الثقافية للمدينة.
- بغداد: شهدت استقرار عدد من بيوت العبيد المرموقة منذ القدم، لعبوا أدوارًا سياسية وثقافية:
- العشائر الملحقة: تربط بعض العشائر علاقات نسب أو حلف قديم مع العبيد:
- اللهيب: يعتبرون أبناء عمومة مقربين للعبيد.
- القرا غول (القراغول): غالبًا ما يعدونهم ضمن العبيد (ويُطلق عليهم أحيانًا اسم “الحمران” ضمن خلفة علي).
- الجوالة: من قبيلة طيء، يسكنون مع العبيد بحلف قديم.
- الإرث الثقافي والأدبي: تميز أبناء العبيد بميول أدبية قوية:
- الشعر النايل: يُعرفون ببراعتهم فيه، ويُعتقد أنهم أشهر من الجبور في هذا الفن الشعري النبطي المميز.
- القصيد والركباني: أنواع شعرية أخرى مارسوها.
- العتابة: أقل شيوعًا بينهم مقارنة بالأنواع الأخرى.
- الوصف التاريخي: وصفهم المؤرخون في كتبهم بأوصاف تدل على مكانتهم، مثل “ليوث الحروب”، “أشراف العرب”، “ألف فارس” (الدرر المفاخر)، وأشادوا بشجاعتهم وإقدامهم (عنوان المجد).
قبيلة العبيدي في سوريا والكويت واليمن والعراق
- العراق: القلب النابض:
- حويجة العبيد (كركوك): المركز الرئيسي والأكثر كثافة للسكان، حيث الزراعة والاستقرار النسبي.
- بغداد وضواحيها: استقرار البيوتات العلمية والرئيسية (آل الشاوي، النائب، الشيخ سعيد).
- المناطق المحيطة: تواجد في ديالى (ناحية المقدادية/المقاصية)، صلاح الدين (ناحية الرياض)، الأنبار (جنوب الفلوجة – الغرير)، نينوى (الموصل – البو حمد)، بالإضافة إلى انتشار في محافظات أخرى.
- سوريا: امتداد طبيعي:
- محافظة دير الزور: خصوصًا في ناحية هجين والقرى المحيطة مثل البحرة، غرانيج، الكشكية، بوحمام، بوالحسن.
- أصول النزوح: يشير الباحثون (كـ هنري شارل في “عشائر الغنامة في الفرات الأوسط”) إلى أن بعض العشائر المتواجدة في سوريا (مثل البوحردان، الذين يعدهم البعض فرعًا من العزة) قدموا من حويجة العبيد قرب الموصل على أثر نزاعات قبلية.
- الكويت: هجرة ونجاح:
- القدوم والاستقرار: هاجرت أسرة العبدلي العبيدي (ذرية عبدالله علي العبيدي) من الزلفي في نجد إلى الكويت في منتصف القرن التاسع عشر.
- أماكن السكن: استقرت أولاً في فريج الفرج بمنطقة شرق، ثم انتقل بعض أفرادها لاحقًا إلى منطقة المرقاب (فريج الفضالة وفريج العليوه).
- إسهامات ثقافية: برز منهم شخصيات أدبية لامعة:
- الشاعرة موضي عبدالعزيز العبيدي: شخصية وطنية معروفة، كرَّمتها دولة الكويت بإطلاق اسمها على إحدى مدارسها.
- الشاعر عبدالعزيز محمد العبيدي.
- النسب والمصاهرات: ارتبطت الأسرة بمصاهرات مع أسر كويتية عديدة مثل بورسلي، الفرحان (الفيحاء)، العويش، البراك، الزنكي، بوحيمد، الشايع (كيفان)، الطواري، السنين، الدويش (النزهة)، الرجيبة، النتيفي (القادسية/الزلفي)، الصالح (الفيحاء)، والحوطي (الشامية).
- اليمن: الجذور الأم؟:
- قبيلة عبيدة (مأرب): توجد في محافظة مأرب شرق اليمن قبيلة كبيرة وعريقة تحمل اسم “عبيدة” وتلقب بالعبيدي. وهي تعود بنسبها الأعلى إلى مذحج، إحدى القبائل اليمنية الكبرى. بينما تعود عشائر العراق وسوريا والكويت إلى زبيد (وهي أيضًا من مذحج). هذا يشير إلى علاقة نسب بعيدة وجذر مشترك قديم في الجزيرة العربية، لكنهما تشكَّلتا ككيانين قبليين مستقلين في مناطق جغرافية وتاريخية مختلفة. العلاقة هي علاقة أصل وجذور (مذحج) وليس فرعًا مباشرًا.
شيخ قبيلة العبيدي في العراق
- القيادة الحالية: يتولى زعامة قبيلة العبيد في العراق حاليًا الشيخ أنور العاصي. ويليه في المرتبة أخوه الشيخ وصفي العاصي، مستمرين في حمل راية القبيلة وتقاليدها.
- التحديات والاستمرارية: واجهت القبيلة كغيرها من العشائر الكبرى تحديات الحداثة، التحضر، والتغيرات السياسية والاجتماعية العميقة في العراق والمنطقة. ومع ذلك، حافظ أبناؤها على هويتهم القبلية القوية، وانخرطوا في كافة مناحي الحياة الحديثة (السياسة، الاقتصاد، التعليم، الثقافة، الخدمة العسكرية) مع التمسك بجذورهم وتراثهم.
- الإرث الدائم: لا تزال قبيلة العبيدي تشكل كيانًا اجتماعيًا وثقافيًا فاعلاً، تحمل تاريخًا حافلاً بالهجرة، المقاومة، التحالفات، والاستقرار. شخصياتها التاريخية (كعبد الله الشاوي)، بطولاتها ضد العثمانيين، تفاصيل شجرتها النسبية الضخمة، وإسهاماتها الثقافية في الشعر وغيره. وكذلك انتشار أبنائها من حويجة العبيد إلى بغداد، دير الزور، والكويت. تشهد جميعها على حيوية هذا الكيان الاجتماعي وقدرته على الصمود والتكيّف عبر القرون.
الخاتمة:
قبيلة العبيدي ليست مجرد اسم في سجل العشائر، بل هي سفر حي يمتد عبر أكثر من ثلاثة قرون. من أصولها الزبيدية في اليمن، مرورًا برحلتها الملحمية واستقرارها في جزيرة العراق. وصعود نفوذها السياسي والعسكري، وثوراتها ضد الظلم، وانتهاءً بهجراتها وتفريعاتها المعقدة وانتشارها في سوريا والكويت. تظل العبيدي نموذجًا للقبيلة العربية الأصيلة التي حفرت اسمها في تاريخ المنطقة. إن دراسة تاريخها هي دراسة لجزء مهم من تاريخ العراق الاجتماعي والسياسي. وتأكيد على استمرارية الروابط القبلية والهويات الفرعية كجزء من نسيج الهوية العربية الأكبر. حتى في خضم تحولات العصر الحديث.
مواضيع ذات صلة:
قبيلة بني خالد | قبائل الكويت | الهوله وش يرجعون |
شجرة مطير | رمز قبيلة مطير | فخوذ العتبان |
قبيلة العجمان | قبائل الدواسر | العبدلي وش يرجع |
غامد الهيلا | قبيلة عتيبة | قبائل نجد |
رمز قبيلة غامد | قبيلة العجمي | نسب قبيلة حرب |