موسم البلده المكلا : عندما تتحول شواطئ حضرموت إلى ثلاجة طبيعية في عز الصيف

المكلا – خاص: موسم البلده المكلا حدث استثنائي يجمع بين الأسرار الفلكية والتراث الثقافي والانتعاش الاقتصادي في بوتقة ساحرة.
في مشهد يخالف كل قوانين الطبيعة، تتحول شواطئ المكلا الذهبية خلال الأسابيع الأخيرة من يوليو إلى أحواض سباحة عملاقة تتدفق بالمياه الجليدية! هذه الظاهرة الفلكية الفريدة التي ينتظرها الحضارمة بلهفة كل عام ليست مجرد نزوة مناخية، بل هي موسم البلدة.
الظاهرة الفلكية: عندما يوقظ نجم البلدة أعماق المحيط
في منتصف يوليو من كل عام، تدخل سماء حضرموت مرحلة فلكية غامضة يسميها أهلها “منزلة البلدة”. هذه البقعة السماوية الشاسعة التي وصفها الفلكي القزويني بأنها “فضاء في السماء لا كواكب له بين العائم وسعد الذابح” تطلق سلسلة من التحولات المناخية المدهشة.
مواضيع ذات صلة:- مدينة القطن حضرموت جوهرة الوادي ومركز التاريخ والعراقة
السر يكمن في التيارات البحرية العملاقة التي تنطلق من أعماق المحيط الهندي، حيث تدفع الرياح الموسمية الشمالية العاتية تيارات “المياه الغائصة” من القاع البارد نحو السطح. النتيجة؟ هبوط مفاجئ في حرارة مياه البحر إلى معدلات غير مسبوقة تصل إلى ١٦ درجة مئوية في منطقة معروفة بحرارتها المرتفعة.
الدكتور علي باحسن، أستاذ علم المحيطات بجامعة حضرموت، يشرح لنا هذه المعجزة الطبيعية: “التيار البارد يشق طريقه من المحيط المفتوح ليصل ذروته عند سواحل المكلا. هذه الظاهرة تشبه نافورة مياه جوفية عملاقة، لكنها تأتي من أعماق المحيط حاملة معها ثروة من العناصر المعدنية النادرة”.
الطقوس التراثية: اغتسال يوليو الذي ينتظره الحضارمة عاماً كاملاً
مع أول بزوغ لنجم البلدة، تتحول شواطئ الغويزي والفحيح والفيل إلى خلية نحل بشرية. آلاف العائلات تتوافد حاملة مناشفها وأطفالها في طقس يشبه الاحتفال الديني. “البلدة ليست سباحة عادية، بل هي طقس عبور سنوي” كما يصفها الشيخ عمر باجنيد، حارس التقاليد الحضرمية.
الأجداد يحكون للأحفاد كيف أن مياه البلدة “تشفي من سبعين داءً” حسب الموروث الشعبي. السيدة منى أحمد (٤٥ سنة) تؤكد بينما تدفن ابنها في الرمال الدافئة بعد السباحة: “منذ ثلاثين عاماً وأنا أكرس هذا الأسبوع لعلاج آلام مفاصلي، إنها معجزة حقيقية تتفوق على كل العلاجات الحديثة”.
لكن هذه الممارسة لم تكن دائماً مقبولة. يذكر المؤرخ عبدالله السقاف في كتابه “مواسم حضرموت” أن الأجداد كانوا يخشون البلدة، ويقتصرون على غسل الأرجل فقط. التحول الكبير حدث عندما لاحظ الصيادون تحسن حالاتهم الجلدية بعد صيدهم في هذا الموسم.
المفارقة التاريخية: بين خوف الصيادين وفرح المزارعين
لطالما مثل “موسم البلدة المكلا” محوراً للتناقض في حياة الحضارمة. فبينما كان الصيادون يخشون أمواجها العاتية التي تحطم القوارب، كان المزارعون يرون فيها بشارة الخير. الحاج سالم كردمي (٧٢ عاماً) يروي وهو يعصر قطعة قصب في سوق المكلا: “البلدة كانت موسم عقود الزراعة، نحدد فيها أجور العمال ونسقى النخيل، كانت تقويمنا الحي قبل التقاويم الورقية”.
هذا الموسم ارتبط أيضاً بظهور “الرطب” أول محصول التمر في وديان حضرموت، حيث تتحول الأسواق إلى معارض طبيعية لأنواع التمور الفاخرة. في المقابل، كان الصيادون يلجأون إلى صناعة السلال والحبال أو إصلاح شباكهم منتظرين هدوء البحر.
زخم سياحي: المكلا تتحول إلى عروس البحر العربي
“موسم البلدة المكلا” اليوم هو محرك اقتصادي ضخم. الفنادق تشهد إشغالاً كاملاً قبل أسابيع من الموعد، والمطاعم الساحلية تعمل حتى الفجر. خالد بامطرف، مدير فندق “قصر حضرموت”، يشرح: “نستقبل أكثر من ٣٠٠٠ سائح يمني وعربي خلال الأسبوعين، وهذا يعادل دخل ٣ أشهر عادية”.
الحدث تحول إلى مهرجان متكامل:
- المسرح المائي: عروض للفرق الشعبية على منصات عائمة
- أسواق التراث: ١٢٠ كشكاً لمنتجات الأسر اليدوية
- البطولات الرياضية: سباقات الزوارق التقليدية والغوص الحر
- معارض فنية: لوحات مستوحاة من البحر في قاعات المدينة
الأسرار العلاجية: بين العلم والتراث
ما يجعل “موسم البلدة المكلا” ظاهرة فريدة هو الإجماع العلمي والشعبي على فوائده الصحية. الدراسات الحديثة أكدت احتواء مياه هذا الموسم على:
- تركيز عال من الكبريتات والمغنيسيوم
- مستويات غير مسبوقة من الأكسجين الذائب
- طحالب نادرة مضادة للالتهابات
الدكتورة لمياء السقاف، أخصائية الأمراض الجلدية، توضح: “هذه العناصر تشكل كوكتيلاً طبيعياً لعلاج الصدفية والأكزيما، وتجديد خلايا البشرة”. وتضيف: “الغريب أن الأجداد عرفوا هذا قبل المجاهر، فأسموه ‘ماء الشباب'”.
تحديات الحاضر: بين التقاليد والأمواج العاتية
رغم البهجة التي يحملها “موسم البلدة المكلا”، إلا أنه يخفي مخاطر جمة. الأمواج التي تصل إلى ٤ أمتار تحول البحر إلى وحش كاسر. اللواء بحري محمد عبدربه يحذر: “التيارات القَطْعية تحت الماء قد تجذب السباحين إلى الأعماق خلال ثوان”.
فرق الإنقاذ تعمل بنظام المناوبات المتواصلة، مستخدمة طائرات درون وطوافات سريعة. عبدالله مبارك، رئيس فريق الإنقاذ الساحلي، يذكر بحادثة العام الماضي: “أنقذنا ١٥ شاباً جرفتهم الأمواج في منطقة الفحيح، البلدة جميلة لكنها لا ترحم”.
استدامة التراث: كيف يحافظ الحضارمة على أسرار الأجداد؟
في مبادرة فريدة، أطلقت جامعة حضرموت “مشروع توثيق مواسم حضرموت الفلكية” الذي يركز على نجم البلدة. فريق البحث يجمع:
- روايات شفوية من كبار السن
- خرائط نجمية قديمة
- تحاليل علمية للتيارات المائية
كما أدرجت اليونسكو “موسم البلدة المكلا” في القائمة التمثيلية للتراث غير المادي عام ٢٠٢٣، تقديراً لتفرده العالمي. هذا الاعتراف يعزز مساعي الحفاظ على التقاليد رغم العولمة.
البلدة في عيون الزوار: سحر لا يقاوم
“شعور لا يوصف!” هكذا تلخص السائحة الكويتية نورة العجمي تجربتها. “الانتقال من حر الصحراء إلى برد البحر خلال خطوات، ثم الجلوس لتناول سمك مشوي على الرمال تحت النجوم.. إنها متعة لا توجد إلا في المكلا”.
أما المصور السويسري ماركوس فيلدر فيقول: “التقطت ظواهر طبيعية في ٦٠ دولة، لكن لم أرَ أبداً هذا الحماس الجماعي للتفاعل مع دورة الطبيعة كما في موسم البلدة”.
الخاتمة: أكثر من مجرد موسم.. هوية حضرمية تتجدد
عندما يغيب نجم البلدة في نهاية يوليو، يترك وراءه شواطئ ممتلئة بالذكريات وقلوباً تنتظر عودته العام القادم. “موسم البلدة المكلا” ليس حدثاً عابراً، بل هو رحلة سنوية إلى عمق الهوية الحضرمية حيث يمتزج العلم بالتراث، والاقتصاد بالبيئة، والخوف بالانجذاب.
هذه الظاهرة التي حيرت العلماء ببرودة مياهها في قلب الصيف، تثبت أن بعض الأسرار لا تكشفها الأقمار الصناعية، بل تحفظها قلوب الأجداد وتنتقل مع أمواج البحر جيلاً بعد جيل. في زمن التغير المناخي، تبقى البلدة تذكيراً بأن الطبيعة قد تمنحنا أعظم الهدايا في أكثر الأوقات قسوة.