في قلب الصحراء، حيث لا يُسمع سوى صوت الريح وهمس النخيل، كان شيخ القبيلة يُعرف بالشجاعة والكرم، متزوجًا من امرأة ذات حسب ونسب، أنجبت له خمس بنات، حملن من أمهن الحكمة والجمال، ومن أبيهن الفروسية والنخوة. لكن العرف القبلي كان صارمًا: لا وريث إلا الذكر.
مرت السنوات، ولم يُرزق الشيخ بولد، فقرر أن يتزوج من فتاة بسيطة، لا يسأل عن نسبها ولا عقلها، فقط عن قدرة أهلها على إنجاب الذكور. وافقت زوجته الأولى، لا عن ضعف، بل عن إدراكٍ عميق بأن الزمان لا يُؤتمن، خاصة حين تدخل ضرة إلى البيت.
رحلت الزوجة الأولى مع بناتها إلى أهلها، بعد أن أقنعت الشيخ بأنه سفرٌ مؤقت. لكنه لم يرَ منهن بعد ذلك أثرًا، فقد انشغل بولده الجديد، الذي ظن أنه سيكون امتدادًا لمجده. لكن الولد كبر مدللًا، لا يعرف من الشيخة إلا قول: “اذبحوا الذبائح”، ثم يهرب من المجلس إلى حضن أمه أو لهوه التافه.
كان الشيخ يراقب ابنه بحسرة، ويتذكر بناته الخمس، ويتمنى لو حمل هذا الولد خصلة واحدة من خصالهن. وكلما اشتد به الندم، همس لنفسه: “ياليتكن كنّ ذكورًا…”.
حين بلغ الشيخ أرذل العمر، وبدأت أنفاسه تتثاقل، وصلت الأخبار إلى زوجته الأولى. فجمعت بناتها، وقالت لهن:
“اليوم… نردّ الدين، ونثبت أن المجد لا يُورث بالاسم، بل بالفعل.”
بنت الأم خيمة ملاصقة لمضيف الشيخ، وأجلست بناتها فيها، يستمعن لكل ما يدور من مداولات القبائل، من حلّ النزاعات، إلى الشعر، إلى القصص القديمة. لم تخبر أحدًا بنيّتها، حتى إخوتها، الذين اكتفوا بالصمت أمام إصرارها.
وجاء اليوم المنتظر…
اجتمعت القبائل في مضيف الشيخ، ليُعلن من سيخلفه. دخلت الأم وبناتها، كل واحدة تمثل رمزًا من رموز القبيلة:
– الأولى تمثل الحكمة
– الثانية تمثل الفروسية
– الثالثة تمثل الكرم
– الرابعة تمثل الحنكة
– الخامسة تمثل الشجاعة
طلبت الأم من وجهاء القبائل أن يطرحوا خمس مسائل، فأجابت البنات بإتقان، حتى قال أحد الشيوخ:
“لو كانت الشيخة تُورث بالعقل، لكانت هؤلاء البنات خير من يحكم.”
ثم طُلب من الابن المدلل أن يجيب عن سؤال بسيط، فارتبك، وتلعثم، وضحك البعض، وبكى الشيخ بصمت.
فتح الشيخ عينيه، ونطق بصوتٍ ضعيف:
“بناتي… أنتن فخري، أنتن من سيحمل اسمي، أما ولدي… فليتعلم منكن.”
ثم أغمض عينيه، وقد ارتسمت على وجهه ابتسامة رضا، كأنما رأى المجد يُبعث من جديد.
ومنذ ذلك اليوم، أصبحت القبيلة تُعرف بـ قبيلة البنات الخمس، وصار يُضرب بهن المثل في القيادة والحكمة، وتُروى قصتهن في المجالس، كأعظم درس في كسر العادات الظالمة، وإعلاء قيمة العقل على العرف.