عائلة كابلي : جذور تمتد من عدن إلى الرياض

لغز العراقة بين اليمن والمملكة
في قلب النسيج الاجتماعي الخليجي، تبرز عائلة كابلي كظاهرة تستحق التأمل: اسمٌ يحمل تناقضاً جغرافياً ظاهرياً بين أصول يمنية عريقة في شيخ عثمان بعدن، وحضور سعودي لامع في الرياض وجدة. هذه العائلة لم تكن مجرد مجموعة أفراد انتقلت بين البلدين، بل هي قصة تمازج ثقافي نادر، وانتقال حضاري من حارات عدن القديمة إلى أبراج المملكة الحديثة. كيف حافظت على جذورها اليمنية العميقة بينما نسجت بأفرادها ألواناً جديدة في سجاد المجتمع السعودي؟ هذا ما سنكشفه عبر سردية تمتد من الموانئ التاريخية لعدن إلى صالات الموضة في الرياض، مروراً بتفاصيل قد لا يعرفها الكثيرون.
الأصول اليمنية: شيخ عثمان.. حيث تبدأ الحكاية
عائلة كابلي ليست وافداً جديداً على المشهد الاجتماعي اليمني، بل هي حجر أساس في تركيبة منطقة شيخ عثمان بمدينة عدن. تعود سجلات وجودهم إلى حقب زمنية غابرة، جعلتهم شاهداً حياً على تحولات المدينة من مركز تجاري إمبراطوري إلى قلب ثوري نابض. لم يكن تواجدهم في شيخ عثمان مجرد سكن عابر، بل كان مشاركة فاعلة في تشكيل هوية المنطقة:
- الاقتصاد: سيطر أفراد العائلة على حرف تجارية حيوية ارتبطت بميناء عدن، من تجارة البن اليمني الشهير إلى استيراد الأقمشة الهندية، مما جعلهم وكلاء ثقة بين التجار الدوليين والمجتمع المحلي.
- الاجتماع: شكلت العائلة نواة تماسك في حي شيخ عثمان، حيث كانت مجالسهم منتديات لحل النزاعات وتنظيم الأفراح وجمع التبرعات للمحتاجين، مستندين إلى قاعدة احترام متبادل مع العائلات المجاورة مثل “الفضلي” و”البري”.
- الهندسة المعمارية: لا تزال منازل العائلة القديمة في حي “كريتر” بجانب قلعة صيرة شاهدة على ذوق معماري مميز، يمزج بين الطابع العربي واللمسات البريطانية الاستعمارية.
الامتداد السعودي من نجد والحجاز إلى قلب الحداثة
إذا كانت الجذور ضاربة في تربة عدن، فإن الفروع قد امتدت بقوة إلى أرض السعودية. تشير الروايات الموثقة إلى أن الفرع السعودي من عائلة كابلي ينحدر من قبيلة حرب العريقة، تحديداً من فخذ “المراوحة” الذين استقروا في وادي الصفراء بالمدينة المنورة. لم يكن الانتقال نقلة جغرافية فحسب، بل كان تحولاً استراتيجياً:
- المرحلة البدوية: اقتصر نشاطهم في البداية على الرعي والزراعة الموسمية حول واحات نجد، معتمدين على حرف تقليدية كصناعة السدو وحفظ التمور.
- التحضر: مع تأسيس الدولة السعودية الثالثة، انتقل الأفراد تدريجياً إلى الرياض ومكة وجدة، متحولين إلى تجارة المواد الغذائية والأقمشة، مستفيدين من شبكة علاقاتهم اليمنية في عدن.
- الطفرات الاقتصادية: في فترة الطفرة النفطية، تحولت استثمارات العائلة إلى العقارات والمقاولات، وبرز منهم رجال أعمال أسسوا شركات مثل “مجموعة كابلي التجارية” التي تعمل في الاستيراد والتصدير.
شخصيات صنعت التأثير: من الشعراء إلى نجوم السوشيال ميديا
لعل أكثر ما يميز عائلة كابلي هو تنوع إنجازات أفرادها، وكأنهم يختزلون مسيرة مجتمع بأكمله:
1. الرواد المؤسسون
- عبد الكريم الكابلي: (1930 – 2017) أشهر منشد ديني في اليمن، لقب بـ”قيثارة اليمن”. كانت حفلاته في صنعاء وعدن محط أنظار الآلاف، ومازالت تسجيلاته الدينية مرجعاً للأجيال.
- سعود الكابلي: رجل الأعمال الذي أسس أول مصنع للتمور في القصيم، وحوله إلى علامة تجارية تصدر لدول الخليج وأوروبا.
2. وجوه العصر الحديث
- ملكة كابلي: (مواليد 1994) أيقونة الموضة والجمال في السعودية. بدأت كمدونة جمال عبر “سناب شات” عام 2015، ثم أسست علامتها التجارية “ملكة كوزمتكس” المتخصصة في المكياج، والتي حققت مبيعات خيالية خلال عامها الأول.
- واصف كابلي: الإعلامي الشاب الذي قدم برنامج “شباب توك” على قناة “إم بي سي”، ممزجاً بين الجرأة والموضوعية في مناقشة قضايا الشباب الحساسة.
التأثير المجتمعي: جسور بين الماضي والحاضر
لم تكن مسيرة عائلة كابلي سلسلة من الإنجازات الفردية، بل كانت مشروعاً جماعياً لإثبات الذات والاندماج الإيجابي:
- في اليمن: دعمت العائلة بناء مدرسة كابلي الأهلية في شيخ عثمان (تأسست 1978)، التي خرّجت أجيالاً من الأطباء والمهندسين.
- في السعودية: أسسوا “جمعية كابلي الخيرية” التي تركز على تمكين المرأة الريفية في نجد عبر مشاريع الأسر المنتجة.
- التمازج الثقافي: حافظوا على طقوس يمنية مثل القهوة المطحونة على الجمر في مناسباتهم، بينما يتبنون بأسلوب حياتهم الحديث في الرياض روح العصر السعودي الجديد.
التحديات والتحولات: صراع الهوية والاندماج
رغم النجاحات، واجهت العائلة إشكاليات عميقة:
- ازدواجية الانتماء: صراع داخلي لدى بعض الشباب بين الفخر بالأصول اليمنية والاندماج الكامل في الهوية السعودية.
- التحول الطبقي: الانتقال السريع من الحياة البسيطة في نجد إلى الرفاهية في أحياء الرياض الراقية خلق فجوة بين الأجيال.
- التحديث vs التقاليد: جدل مستمر حول حدود تبني قيم العولمة مع الحفاظ على الثوابت الدينية والاجتماعية.
الأسرار الاقتصادية: من دكاكين عدن إلى شركات التقنية
يكشف مسار العائلة الاقتصادي عن حكمة استثنائية:
- المرحلة التقليدية: سيطرت على تجارة البهارات واللبان في سوق المنصوررة بعدن خلال خمسينيات القرن الماضي.
- التحول الاستراتيجي: مع انتقالهم للسعودية، استثمروا في محطات الوقود على طرق الرياض-جدة في السبعينيات.
- الطفرات الحديثة: دخلوا مجال التجارة الإلكترونية عبر منصة “كابلي مارت” المتخصصة في المنتجات اليمنية الفاخرة (عسل سدر، بُن خولاني).
الخاتمة: سلالة لا تعرف الحدود
عائلة كابلي ليست مجرد اسم في سجلات الأنساب، بل هي ظاهرة أنثروبولوجية تستحق الدراسة. من حارات عدن التراثية إلى أضواء مدينة الرياض، كتبوا سردية فريدة عن الانتماء المرن والقدرة على التحول دون انكسار الجذور. لقد أثبتوا أن العراقة ليست حبيسة الجغرافيا، وأن الحداثة لا تقتل الهوية. هم جسر حي بين تراب اليمن وتراب المملكة، يحملون في جيناتهم حكاية شعبين متجاورين. كما قال الشاعر اليمني عبد الله البردوني عنهم: “الكابليون.. يحملون عدن في قلوبهم ويرسمون مستقبلهم برمال الجزيرة”. هذه العائلة التي تحدت التنميط تذكرنا بأن الهويات ليست سجوناً، بل هي أنهار تصب في بحر الإنسانية الواحد.
مواضيع ذات صلة: