اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعف عني : ابتهالات التائبين

اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعف عني دعاء صادق لطلب العفو وابتهالات التائبين الصادقين ، دعاء يقال في كل زمان ومكان وان كان بصفة اخص في جنح ليالي العشر الأواخر من رمضان، حيث تتنزل الملائكة بالرحمة والمغفرة، تتجلى “ليلة القدر” كجوهرة تتلألأ في تاج الشهر الكريم، ليلة هي “خير من ألف شهر”. وفي قلب هذه العبادة والمناجاة، يبرز دعاءٌ علَّمه النبي صلى الله عليه وسلم لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، ليصبح مشعلاً يهتدي به المؤمنون عبر العصور: ” اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعف عني “. هذا الدعاء ليس مجرد كلمات تُردَّد، بل هو منهجٌ في فهم صلة العبد بربه، واستيعابٍ لسعة رحمة الله وعفوه. هذه الصياغة تتناول هذا الدعاء العظيم بتحليلٍ لغويٍّ وشرعيٍّ وعاطفيٍّ، تكشف عن عُمقِه وجمالِه وملاءمتِه لروح ليلة القدر.
الأصل النبوي في دعاء اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعف عني
جاء في الحديث الصحيح الذي رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه وأحمد، وصححه الحاكم وغيرهم، عن عائشة رضي الله عنها قالت:
“قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ وَافَقْتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، بِمَ أَدْعُو؟ قَالَ: «قُولِي: اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ كَرِيمٌ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي»”.
هذا التوجيه النبوي المباشر لأم المؤمنين – وهي من هويت بحرصها على الخير والسؤال عنه – يمنح الدعاء مكانةً فريدةً:
- الاختصاص بزمن الفُضُول: ليس كل دعاء يُخصَّص لزمن معين، فاختياره لليلة القدر دليل على مناسبتها الفائقة لمضمونه (طلب العفو).
- التعليم النبوي المباشر: كونه جوابًا لسؤالٍ صريحٍ عن أفضل ما يُدعى به في هذه الليلة المباركة.
- الإيجاز مع الجوامعية: جمع في كلماتٍ قليلةٍ معاني عظيمةً من الثناء على الله والتوسل إليه وطلب حاجتي العبد الكبرى: العفو.
- الإشارة إلى القَبول: توجيه النبي صلى الله عليه وسلم إليه يوحي بقُربه من الإجابة وملاءمته لمشيئة الله في هذا الوقت.

شرح الدعاء: لغةً ومعنىً
لفهم عظمة الدعاء، لا بد من تفكيك بنيته اللغوية والمعنوية:
- “اللهم”:
- النداء: افتتاحٌ بالنداء الجامع لله تعالى، تفويضًا وتوسلاً، وإظهارًا للافتقار والانكسار بين يديه.
- الاستعطاف: فيها معنى الاستعطاف والرغبة في الإجابة، كمن يطرق باب الكريم راجيًا.
- “إِنَّكَ”:
- التأكيد والتقرير: تؤكد ثبوت الصفات التي ستذكر لله تعالى، وتقريرًا لعلم العبد بها ويقينه بها.
- الثناء المقدم على المسألة: قاعدة في الأدب مع الله: الثناء قبل الدعاء.
- “عَفُوٌّ”:
- المعنى اللغوي: مشتقة من (عَفَا) بمعنى المحو والإزالة والطمس. كأن تقول: عفا الأثر، أي محي وطُمِس. (كما في قواميس اللغة مثل لسان العرب).
- المعنى الشرعي (اسم من أسماء الله الحسنى): هو الذي يمحو الذنوب ويستر العيوب ويتجاوز عن السيئات. صيغة “فعول” تدل على المبالغة والكثرة في اتصافه تعالى بهذه الصفة.
- التفريق عن “الغفور”: كما أشار القرطبي رحمه الله، العفو قد يكون قبل العقوبة أو بعدها، بينما الغفران لا يكون معه عقوبة أصلاً. العفو أعم في معنى المحو والتجاوز.
- السعة والشمول: “عفو” اسم يدل على سعة صفح الله وعفوه التي لا تحدها ذنوب عباده إذا تابوا وأنابوا.
- “كَرِيمٌ”:
- المعنى اللغوي: الجامع لكل الصفات الحميدة، الكثير الخير، العظيم النفع، الواسع العطاء بلا مقابل ولا منّة. (كما في المعاجم اللغوية).
- المعنى الشرعي (اسم من أسماء الله الحسنى): الذي لا ينفد جوده ولا يبخل، الذي يعطي بلا حساب، الذي يجود بالعفو والمغفرة كرمًا منه وجودًا لا لاستحقاق العبد.
- التلازم مع “العفو”: اتصاف الله بالكرم يضمن أن عفوه ليس عن عجز أو ضعف، بل عن سعة جود وكمال قدرة. كرمه يدفعه إلى العفو.
- “تُحِبُّ الْعَفْوَ”:
- كشف صفة المحبة الإلهية: الله تعالى يحب صفة العفو في مطلقها. يحب أن يتصف بها هو سبحانه (وهو متصف بها أزلاً وأبدًا)، ويحب أن يتصف بها عباده فيما بينهم.
- إشارة إلى الأدب مع الله: في هذه الجملة تلميح لطيف: إذا كنت تحب العفو، فأنا أسألك ما تحب أن تُسأل به.
- حثٌ للأمة: فيها تربية للمسلم على خلق العفو والصفح عن الناس، لأن الله يحب ذلك.
- “فَاعْفُ عَنِّي”:
- الطلب المباشر: بعد التوسل بالثناء على الله بأسمائه وصفاته، وبعد التلميح لمحبته للعفو، يأتي السؤال الصريح: “فاعف عني”.
- الشمول: “العفو” هنا شامل لمحو الذنوب جميعًا، صغيرها وكبيرها، قديمها وجديدها، وستر العبد في الدنيا والآخرة، وتجاوز العقوبة.
- التواضع والاعتراف: تضمَّن الطلب اعترافًا ضمنيًا بالذنب والخطأ والحاجة الماسة إلى عفوه تعالى.
- “عَنِّي”: تخصيص الدعاء، مع أن الأصل في العفو الإلهي أن يكون شاملاً، لكن تخصيصه يدل على شدة الافتقار.
فلسفة الدعاء: لماذا هذا الدعاء ليلة القدر؟
اختيار هذا الدعاء تحديدًا لليلة القدر ليس اعتباطًا، بل يحمل حِكَمًا بالغة:
- ملاءمة جوهر الليلة: ليلة القدر هي ليلة المغفرة والتجديد والعتق من النار. فما أنسب من دعاء يطلب جوهر المغفرة: العفو والمحو والإزالة!
- استشعار عظمة المنة: نوال ليلة القدر منّة عظيمة. طلب العفو هو اعتراف بأن استحقاق هذه المنّة يحتاج إلى محو الذنوب التي تحجب قبول الأعمال وتستوجب العقوبة.
- التجرد والافتقار: في ليلة يتنزّل فيها القدر، يكون العبد في أشد حالات التجرد والافتقار. هذا الدعاء يعبّر عن جوهر هذا الافتقار: الحاجة إلى محو ما سلف.
- استجلاب الرحمة بالثناء على الله: التوسل بصفات الله (العفو، الكريم، المحب للعفو) هو من أعظم أسباب إجابة الدعاء، خاصة في زمان ومكان تتنزل فيه الرحمات.
- الربط بين العفو الإلهي والعفو البشري: تذكير المؤمن بأن من أسباب نيل عفو الله أن يعفو هو عن الناس، تحقيقًا لمحبة الله للعفو.
- التركيز على الجوهر قبل العرض: قبل طلب الرزق والصحة والذرية، لا بد من طلب تطهير النفس من أدران الذنوب التي قد تحول دون قبول الدعوات الأخرى أو تسبب حرمانها.
فضائل دعاء اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعف عني
لا يقتصر فضل هذا دعاء اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعف عني على ليلة القدر فقط، بل هو من جوامع الدعاء المستحب في كل وقت، وله عوائد عظيمة:
- استجابة الدعاء: كونه مما علمه النبي صلى الله عليه وسلم لأمته، واقترن بزمن مبارك، مما يرجى معه القبول.
- نيل العفو والمغفرة: هو دعاء صريح بطلب المحو والتجاوز عن الذنوب، والله لا يخيب من سأله.
- الأمن من العقوبات: كما أشارت النصوص، الذنوب سبب للنقم. العفو يقي العبد من استدراج عاجل العقوبة في الدنيا قبل الآخرة.
- إزالة أثر الذنب من القلب: العفو لا يعني فقط عدم العقاب، بل يشمل تطهير القلب من رين الذنب وآثاره النفسية.
- تقوية الصلة بالله: التأمل في معاني “العفو” و”الكريم” و”محبة العفو” يزيد الإيمان بجمال أسماء الله وصفاته وحكمته.
- تربية الخلق الحسن: الدعاء يزرع في نفس المؤمن خلق العفو والتسامح مع الآخرين، اقتداءً بربه ومحبةً لما يحبه.
- اليسر والسهولة: سهولة حفظه وترديده في كل حال، في السجود، وفي قنوت الوتر، وفي جوف الليل، وعند الإفطار، وفي أدبار الصلوات.
متى يشرع الدعاء به؟
بينما بلغت ذروة استحبابه في ليالي العشر الأواخر من رمضان وخصوصًا في ليلة القدر، فإنه دعاء مشروع ومستحب في كل وقت، خاصة في المواطن التي تُرجى فيها الإجابة:
- في السجود: كما ورد في الفتوى المنقولة، السجود موطن عظيم للدعاء، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: “أما السجود فاجتهدوا في الدعاء فَقَمِنٌ أن يُستجاب لكم” (رواه مسلم). والدعاء به في السجود جائز ومستحب.
- بعد الصلوات المكتوبة: خاصة في أدبارها أو في أذكارها.
- في الثلث الأخير من الليل: وقت النزول الإلهي ونزول الرحمة.
- عند الإفطار: وقت إجابة للصائم.
- عند الذنب أو التوبة: كوسيلة للاستغفار والتضرع لمحو الذنب.
- عند الشدائد والمصائب: طلبًا لدفع البلاء الناتج عن الذنوب.
- الدعاء العام: في أي وقت يشعر المسلم فيه بالحاجة إلى عفو ربه ورحمته.
كيف ندعو به؟ (آداب وتأملات)
لتحقيق أقصى استفادة روحية ونفسية من هذا الدعاء:
- الخشوع والحضور القلبي: إخراج الدعاء من القلب مع استشعار معانيه، لا مجرد ترديد اللسان.
- التأمل في المعاني: عند قول “عفو”، استحضار سعة مغفرة الله ومحو الذنوب. عند قول “كريم”، استحضار كرمه وجوده الذي لا ينفد. عند قول “تحب العفو”، استشعار محبة الله لهذا الخلق العظيم.
- الاعتراف بالذنب: مقارنة الدعاء بتذكر الذنوب والخطايا (بلا إحباط)، مع الثقة بعفوه تعالى.
- التوسع في الدعاء بعدها: يمكن الزيادة عليه كما ورد في بعض النماذج: “اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعف عني، وعن والديّ، وأولادي، وأهلي، وجميع المسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات”. مع الحذر من الزيادة في متن الدعاء المأثور نفسه.
- الإلحاح والتكرار: تكرار الدعاء بخشوع، خاصة في ليلة القدر. ففي التكرار إظهارٌ لشدة الحاجة.
- الجمع بينه وبين الأدعية المأثورة الأخرى: مثل أدعية القرآن الكريم (ربنا آتنا في الدنيا حسنة… ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا… رب اغفر لي ولوالدي… إلخ)، والأدعية النبوية الجامعة.
خاتمة: الدعاء منهج حياة
“اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعف عني” ليس مجرد كلمات نرددها في ليالي رمضان المباركة. إنه تعبيرٌ عن فلسفة التعامل مع الله تعالى. فلسفة تقوم على اليقين بسعة عفوه وكرمه، وعلى إدراك حبه للتجاوز والمغفرة، وعلى الاعتراف الدائم بالتقصير والافتقار. إنه تذكيرٌ دائمٌ بأن الطهارة الداخلية من الذنوب هي الأساس الذي تُبنى عليه سائر الخيرات والبركات. كما أنه دعوةٌ عمليةٌ للمسلم ليتخلق بخلق العفو مع الناس، ليكون أهلاً لعفو الله وكرمه.
في كل مرة نهمس بها: “اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعف عني”، نجدِّد العهد مع رحمة السماء، ونغسل قلوبنا من أدران الدنيا، ونستشعر أن باب العفو مفتوح على مصراعيه، وأن الكريم يحب أن يُسأل، ويحب أن يعفو. فلنكثر من هذا الدعاء العظيم في ليلة القدر، وفي كل وقت، رجاءً في محو سيئاتنا، وستر عيوبنا، وقَبول طاعاتنا، والفوز برضوان ربنا وجنته.
اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعف عنا وعن جميع المسلمين. آمين.