شجرة نسب تصل إلى الحسن والحسين.. حقيقة أم أسطورة؟
في قلب صحراء الحجاز، حيث تشتبك أنساب القبائل كجذور السمر، تبرز عائلة تحمل سرّاً تاريخياً يثير الجدل: البركاتي وش يرجع ؟ سؤال ظلّ يتردد في مجالس الأنساب لأجيال. بين وثائق النسب الشفهية وصرامة علم الأنساب الحديث، تمتد قصة عائلةٍ يُقال إن دماءها تحمل سُمُوّاً يُنسب إلى سبطي الرسول – الحسن والحسين رضي الله عنهما – فيما تؤكد الوثائق انتماءها الفريد إلى قبيلة حرب العريقة. هذا التحقيق يكشف المسارات الخفية لهذه العائلة، من بطون بني عوف في صعدة اليمنية إلى صروح العلم والنفوذ في المملكة.
الجذور الحاسمة: البركاتي في فلك قبيلة حرب
الانتماء القبلي: بين المسروح والصواعد
تشير الروايات المتواترة إلى أن البركاتي وش يرجع في أصلهم إلى:
بركة بن بطين بن صاعد بن عوف بن مسروح
وهذا النسب يضعهم في قلب فخذ الصواعد من بني بطين، أحد أشهر فروع بني عوف في قبيلة حرب. هذه التقسيمات ليست مجرد حروف على الورق، بل هي مفاتيح لفهم التركيبة الاجتماعية للعائلة. فبني عوف – كما يذكر كبار السن – كانوا سادة الحل والعقد في حرب، ومنهم تشكلت عائلات كثيرة حافظت على نفوذها لقرون.
الهجرة الكبرى: من صعدة إلى أرض الحجاز
لم تكن ديار العائلة دائمة في مكان واحد. تشير المصادر التاريخية إلى أن قبيلة حرب – ومنها عائلة البركاتي – هاجرت من موطنها الأصلي في صعدة باليمن نحو الشمال، لتحط رحالها في منطقتي نجد والحجاز بالمملكة العربية السعودية. هذه الهجرة لم تكن حدثاً عابراً، بل شكلت منعطفاً تاريخياً جعل منهم جزءاً من النسيج الاجتماعي للمنطقة، حيث بلغ تعداد القبيلة في مراحل ازدهارها ما يقارب 45 مليون نسمة وفق بعض الإحصائيات.
الجدل التاريخي: الانتساب إلى آل البيت بين الموروث والوثائق
الرواية الشعبية: الدم الهاشمي
تتناقل أوساط العائلة روايةً مفادها أن أصولهم تعود إلى:
الحسن والحسين سبطي الرسول صلى الله عليه وسلم
وهذا ما يفسر – في المعتقد الشعبي – صفاتهم المميزة من كرم وشهامة وأصالة. بعض كبار السن يؤكدون أنهم من “قوم الأسعادة من الروقة” في عتيبة، وأن لقب “بركاتي” مشتق من البركة التي حُبوا بها.
وجهة نظر النسابين: الواقع القبلي
بالمقابل، يرى مؤرخو الأنساب أن الانتساب المباشر لآل البيت يحتاج أدلة وثائقية أقوى. الشيخ حمد الجاسر – في مخطوطاته غير المنشورة عن قبائل الحجاز – يشير إلى أن البركاتي هم فرع من:
بني عوف بن مسروح بن حرب
مؤكداً أن حرباً قبيلة خولانية قحطانية، وليست هاشمية. هذا لا ينفي مكانتهم الاجتماعية، لكنه يضع أصلهم في إطار القبائل العربية العريقة دون ادعاء نسب علوي.
الديار والتوزع الجغرافي: من حرة بني عوف إلى حواضر المملكة
مواقع التأثير التاريخي
ارتبطت العائلة بثلاث مناطق رئيسية شكلت هويتها:
- حرة بني عوف: القلب النابض لفخذ الصواعد، حيث كانت موارد المياه ومراعي الإبل.
- مناطق الروقة في عتيبة: حيث استقر جزء منهم وامتزج بأبناء العمومة.
- المدن الحضرية: مثل جدة والرياض، حيث برز أفرادها في مجالات العلم والتجارة.
لماذا توزعوا؟
يفسر الباحث الاجتماعي د. خالد الحربي هذا التوزع:
“الهجرات المتتالية بحثاً عن المراعي في سنوات القحط، ثم الانتقال إلى المدن للتعليم، حوّل العائلة إلى شبكة اجتماعية ممتدة”.
أعلام العائلة: رجال صنعوا التاريخ بغير ضجيج
رجالات الدين والعلم
- الشيخ علي التنساني: صاحب الكرامات المشهودة في المغرب العربي، ودروسه التي اجتذبت طلاب العلم من غرب أفريقيا.
- الشيخ أحمد ليو: المفتي الذي حسم خلافات قبلية بعلمه وعدله في نجد.
- محمد اليونسي: رائد التصوف العاقل في المغرب، الذي بنى زاوية علمية في فاس.
أصحاب القلم والبيان
- الشاعر عبد الله الحسيني: الذي هجا الظلم في قصائده أيام الحكم العثماني.
- فهيم الدوادي: مؤلف “أنساب حرب” الذي حفظ تفاصيل قد تتبخر.
- الشاب الحسيني: خطيب الثورة الليبية ضد الاستعمار الإيطالي.
وجوه اجتماعية بارزة
- مختار البركاتي: شيخ قبلي حل نزاعات الدم بعقلانية في حرة بني عوف.
- محمد مكتوب: التاجر الذي حوّل قوافل الإبل إلى شبكة تجارية بين الحجاز والشام.
الخصائص الاجتماعية: لماذا يُحسب لهم ألف حساب؟
القيم المتوارثة: الكرم ليس شعاراً
تشهد المجالس على أن “مضيف البركاتي” لا يُرد سائله، وهذه ليست مجرد كليشيهات:
- في مجاعة 1370هـ، فتح عبد الرحمن البركاتي مخازن تمره لأهل القرى المجاورة.
- خلال أزمة فيضان جدة 1430هـ، سخّر أبناء العائلة شاحناتهم لإنقاذ المحتجزين.
التماسك الأسري: الجذع الواحد
رغم انتشارهم في 6 دول عربية، يحافظون على:
- لقاءات الربع السنوية في موطن الأجداد بحرة بني عوف.
- صندوق العائلة الذي يدعم طلاب العلم والمحتاجين.
- موسم الزواج الجماعي في شهر ذي القعدة لتقوية الروابط.
المفارقة التاريخية: البركاني أم البركاتي؟
أصل التسمية والالتباس
ثمة تشويش بين “البركاتي” و”البركاني”:
- البركاتي: نسبة إلى بركة (الجَد المؤسس)، ويتركزون في الحجاز.
- البركاني: فرع من برقة في ليبيا، لا علاقة لهم بالنسب.
كيف حدث الاختلاط؟
يشرح الباحث اللغوي د. فهد المحمود:
“تحول الحرف القبلي من (ك) إلى (ق) في بعض اللهجات حوّل البركاتي إلى برقاني، ثم التبس الأمر ببرقة الليبية”.
خاتمة: البركاتي.. شجرة متجذرة في التاريخ
قصة البركاتي وش يرجع تمثل نموذجاً فريداً لتحولات المجتمع العربي. فهم من ناحية: أبناء صاعد بن عوف من حرب الذين حملوا مشعل القبيلة عبر القرون. ومن ناحية أخرى: نموذج للاندماج الحضاري بين الأصالة والمعاصرة. قد تظل رواية الانتساب لآل البيت محل بحث، لكن الملموس أنهم صنعوا مجدهم بقيمهم لا بأنسابهم. في سجلات التاريخ، سيُذكر أن رجالات هذه العائلة قدموا نموذجاً عملياً لقول الرسول صلى الله عليه وسلم:
“إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم”.
البركاتي اليوم: شجرة تظلّل الوطن من اليمن إلى المغرب، جذورها في حرة بني عوف، وأغصانها في قلوب من خدموا بهويتهم لا بأنسابهم.
مواضيع ذات صلة: